الاثنين ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم رشا السرميطي

طائر الحريَّة وقلمي 2012

طائر الحريَّة وقلمي

أذكر يوم دخل ذاك العصفور إلى منزلنا، مخترقاً نافذة خصوصيَّة أحلامنا المقيَّدة، مستبيحاً ستر أسرَّتنا وشراشف أمانينا. كان شجاعاً حتى اكتشف أنَّه قد دخل بيتاً حيث يقيم الإنسان، ومكان لا يشبه الأمان إلا في الصَّمت، ولا يضمن من بعده الثَّورة، والغضب، وكذا البركان. فانزلق إلى منزلٍ تمَّ بناؤه من حجارة الزَّمن المتهالك، ورمال الواقع المتفكِّك بلا نظام ولا حكَّام.

تاهت الأنظمة عندما كنت أجلس على منضدة الذِّكريات، أنصت إلى مذيع الأخبار وأستمع لحديث كلماتي، وبين يديَّ كانت هناك أوراق كثيرة، بعثرتها من أدراج أفكاري، وألقيت بها تحت شمس عقلي لأحرقها، ولكي أبخِّر رطوبة جزء كبير منها فيزداد الجفاف من عمق ألمي – قسوة -كما أطلقت على العديد منها حكم الإفراج، وحرَّرتها بتمزيقها إرباً كما يُفعل في المواطن العربي تماماً في بلدي.

توَّقف ذاك الفارس الحرُّ على الطاولة، وتقدَّم إلى قلمي جريئاً لا يهاب حبر نزفي الجارف، ثمَّ أخذ يقرأ دون إذن منِّي كمحتل اغتصب الكلمات الحرَّة من بين السُّطور المتوارية خلف بياض المسمَّى، وبدأ يغنِّي.

عصفورٌ ولج بيتي، حتى وجدته ما بين زجاج نفسي، وأبجورات جسدي.كان خائفاً يلتقط أنفاسه بصعوبة عندما وجدته منغمساً يقرأ عن وطني، وعن الحروب والانتفاضات الكلاميَّة فوق مدن ورقي، وكذلك عن الهزائم والخيبات. حاولت إخراجه ولم أنجح، فالمكان ضيِّقٌ جداً، وما هيَ إلاّ دقائق، حتى طار مسرعاً، مستنكراً أركان واقعي، بحث عن الشَّجر ولـم يجده. كاد يختنق حين تنشَّق هواء تاريخي، وهو مذهول يسأل أين السَّماء الواسعة من هذا السقف المتقزِّم، أين أنا وأينك يا قدس ! ومن أنتِ يا كاتبة النَّص بخطوط المرِّ اللذيذ !

نظر إليّ هلِعاً والذُّهول قد أصاب ريشه فكسَّره، من عظَمَة اللَّحظة التي كاد فيها أن يفقد حريَّته، ويهوي شهيداً على ضريح الحرف القتيل. حاولت تهدأته والتَّخفيف عنه لأفتك ذاك الرُّعب السقيم، وفي داخلي بُذرت الأحاسيس صافية خلجاتها على ورق النَّفس التي تشتاق الحريَّة، وكتبت بقلمي: أنا أطير.

طاردته من زاوية لأخرى، وهو يحمل حروفي هارباً لم يتوقف، محاولاً الفرار من البيت ومن قبضة إحساسي الحزين. وما بعد جرأة صرت فيها قويةً حتى ضممته بأطراف أصابعي، فشعرت برعشته، بنبض قلبه المتسارع، وأنفاسه المتقطعة خوفاً عليَّ لا منِّي، فالحرُّ لا يهاب المنون، لكنَّه يخشى على حبري أن ينضب ويتوقف نبض المروج الخضراء، ولا تعود تنبت السنابل على ربوع فلسطين، ويموت الزَّهر ذابلاً في التراب، معدماً قبل ميلاده بسنوات وإتفاقيات عصريَّة متهلهلة. ربما كان يظنُّ أنَّي محتل غريب سوف ألتهمه، أو سلطان عظيم سأقتله، لاأدري!

أخذته بشال ربطت به عنقي، وبذلت ما بوسعي لأقدم له الحب كما وطني. سقانا حبه على مدى عمر غضّ، وغذَّى أرواحنا بعشق ثراه مادمنا أحياء على هذه الأرض المقدسة. تبدَّلت حاله شيئاً قليلاً، لكنَّني لم أستطع تغيير ما يشعر به ذاك العصفور. أحببته، ومعه كلماتي اكتملت لتكون حرّةٌ أمام القرَّاء، وقلت له لا تخف، سوف أطلق سراحك الآن، فأنا لم أكن لأصطادك، وأمنيتي أن أصير عصفورةً حرَّةً مثلك. أنا جئتك نجدةً من الله؛ كي أساعدك، ولله جنود يبعثهم متى يشاء. لا أريد منك سوى صورة تجمعني وإياك في محطة من الفكر الراشد، لترسخ معاني الحرف في أبصار العارفين، وليتعظ من الأمس أبطال المستقبل الآتي، أشبال صلاح الدِّين. علِّمهم جميعاً كم من عصفور في الدُّنيا مرّ بما مررت بهِ معي، وكم من إنسان لقيَ حتفه بعدما دخل بيتاً ليس آمن!

الحرية نعمة كبيرة من الله، وما إن فقدت حتى عاش فاقدها عبداً للمفقود، فلا ترضخوا لأحد أتاكم وفي نيَّته السَّلب والنّهب والتَّدمير. كسِّروا قيود العجز والكسل، وكونوا عصفوراً يحمل الخير بأجنحته الصَّغيرة، غرِّدوا بما يرضي مَن يسمعنا، وابتعدوا عن قول الرذائل، واعملوا المعروف في حياتكم، لعلَّه يكون ممراً نسلك فيه طريقنا إلى الجنَّة.

أن تعيش حراً يعني أن تكون عصفوراً، برغم رقة أحاسيسك، وتكوينك الغضّ. لا ترضى الخنوع، ولا تقبل العيش داخل قفص يقيِّد من أقوالك وأفعالك مثقال ذرَّة، وإذا ما اصطادتك سلطة ما أو وقعت في شرك قوة، قاوم ولا تستسلم، حتى تسترِّد حريَّتك وتحلق من جديد في سماء الدنيا حراً ساميَ النَّفس أصيلاً.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى