الخميس ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

طاقة الحلم في واقعية السرد

في نصوصه القصصية ( رقصات مرحة لبغال البلدية ) – عن مكتبة الأسرة / إبداعات معاصرة – يثير الأديب محمد حافظ رجب جدلا ضمنيا متجددا حول إمكانية تناول الحياة و ما فيها من أحداث و ظواهر بسيطة، بوصفها فنا، يحمل طاقة الأحلام أو الواقع الفائق من داخل الخطاب الواقعي نفسه.

و منذ بداية الستينيات، حتى الآن مازالت الحركات الطليعية تطرح هذه الإشكالية، بوصفها نهاية لحدود الفن الانعزالية ضمن أطره الخاصة، و من ثم شاع المصطلح the end of art ليعبر عن ممارسات الطليعة الجديدة، حيث الخروج من الإطار إلى اكتشاف ما هو جمالي في العادي و المألوف بحساسية عالية. و يميز ( ميشيل أورن ) هذا النقاش المحتدم بارتكاز الأعمال الجديدة على سؤال شديد الأهمية و هو هل هناك نقطة محددة لا ينبغي للفن أن يتخطاها حتى لا يتوقف عن كونه فنا، و يرى أن هذا الأمر وجد على نحو ما في البوذية، إذ اعتبروا كل ما يحدث في الحياة فنا، لكنه بدأ بقوة في أعمال جون كيج و مارسيل دوشامب ( راجع – ميشيل أورون – الفن الضد بوصفه نهاية للتاريخ الثقافي – ت – محمد لطفي – الفن المعاصر – عدد:1سنة 2000). إن حافظ رجب يبدأ برصد المألوف ثم بطريقة غير واعية يحوله فنا صمن الصيرورة الوجودية للسرد حتى يتلاشى ما هو عادي تماما وفق زوايا الرؤية الجديدة التي يضعنا فيها السارد.

في نص ( رقصات مرحة ) يجسد السارد هامشية البطل من خلال وضعه في إطار متصدع يراقب من خلاله العالم، وكلما أوشك الجدار أن ينهدم تعلو في البطل الطاقة الخيالية المضادة للقهر حيث يتوحد بالصوت المنطلق بلا حدود، يقول " الطبلة يدق عليها صبي متوحش، داخل أذني الدقات الهادرة تركض كالبغال الجامحة، ولد يغني ادلع و ارميني على وش المية.. قطاع الطرق يسدون عين الشمس، ويل للجميع منهم " ص 16. الطاقة الكامنة في النص تشبه العاصفة المصاحبة لصمت الجدار. هل هو رد فعل راديكالي ضد الهامشية ؟ أم أن الصوت يحتل الذات و يستشرف خبرات المرح من رقص البغال وفق مادة هوائية جديدة ؟ إننا أمام موت دون موت حقيقي لكنه تحول ما هو معروف إلى نغمة جمالية. يدل على ذلك تواتر النماذج اليومية مثل الحاج أمين الذي كان حوذيا لعربة قمامة و علاقته الاندماجية ببغله الراقص و القمامة التي تتحدث و الحركة الموجية للأسقف. هذه الظواهر ترفض وضعها في خطاب واقعي يسمها بالهامشية في حضارة رأس المال. فهي زاهدة في الظاهر لترقى و تحلق مثل البطل المتصدع في آفاق فنية عالية. و في نص ( الزحف نحو الأصفر ) يتعامل السارد مع المدلول الذهني كموضوع ملموس فيذكرنا بواقعية ناتالي ساروت الشيئية، فمرض الصفراء الكامن في الصبي ولاء يستحيل إلى طاقة وحشية لها حضور خارج عن هيمنة الوعي، كأنها تجريد صاخب للتكوين الأصفر معزولا عن ولاء، الأصفر يقاوم العدم الأصيل في مدلوله إذ يحذر الأطباء من زيادة الحركة و الإكثار من تناول العسل و المربى. لكن ولاء بلا وعي يزحف نحو عاصفة الصفراء المجردة فيلتهم ذراع جده و يذبح القطط الجائعة. هكذا يتناقض اللون ذاتيا، يصير فنا لسلب الحركة من ولاء و إعادة بعثها في الصخب الذي يشبه لون الذهب. ويبدأ نص (الاختفاء في جيب الجد) بصراع فانتازي ذي طابع تسجيلي بين الفأر فوزي محروس الذي اختبأ في جيب بدلة صادق البرهومي محاولا احتلال مكانته، الفأر هنا يمثل طاقة الهامش العنيفة المميزة للهوية الأعلى منها دائما، فعلى طول النص يظل الفأر محورا تتبلور حوله هوية البرهومي، و عبر المقاطع السردية نجده يقاوم الموت المحتوم، و يتراوح بين الحضور و الغياب، ثم في حركة أخرى ينتشر على موائد الطعام و الاجتماعات و محلات الأحذية مصاحبا رفيقه كأنه خرج للتو من خيالات التناثر والجنون عند البرهومي. البهرهومي يتناثر كفأر.. الفأر لا هوية له.. شبح..خيال ثوري متمرد على حامله، وقد نجده فراغا.. موقعا لصراع محتمل، فقد كان على البرهومي أن يأتي بقط إلي جيبه ليقتل الفأر محروس. المكان / الجيب أصبح ساحة للاستبدال و قهر الذات من داخل محاولات الخلاص فبأي شيء نميز البرهومي عقب ضياع هويته ؟ قد نرى يوميا نموذج الفأر لكن تحولاته قد عمدت بلا وعي إلي تقويض البطل و تفريغه بالكشف عن كينونته العبثية. وفي نص ( لهثات الجد تعزف نشيدها ) تتحول حكايات الجد المألوفة حول الأنبياء و صراعهم مع الشيطان المنتقم، إلى عوالم افتراضية يعاد تشكيلها لتؤول واقع سالم و أخته، فالشيطان يمرح و يرقص في كل مرة يحتد فيها نقاش سالم مع الجد. إن تطورالصورة يخترق طمأنينة الخطاب، إذ يتخذ وضعا جديدا في سياق السرد، فنوازع التدمير اللا واعية في سالم تمرح مستحضرة رقص الشيطان، فيصارع الجد و تتبعثرعظام الأخير في كل مكان إلا المقابر، ثم يقهقه لمرآها السياح. لقد تحول النزوع إلى التدمير إلى مرح و سخرية من حركة التدمير نفسها، فعظام الجد ترقص و تبهج المشاهدين دون أن يموت الرجل. أما العداء المتكرر مع الحفيد فهو صورة جمالية تسعى من خلال الصراع إلى بهجة تحول المألوف من داخله. إن عناصر العالم عند حافظ رجب احتمالية بالأساس، إلى الحد الذي يمكن أن نكتشف فيه جمالا في الحدث السياسي من خلال علاقته بالواقع الفائق المصاحب له فقد اقترن مرض سالم بالصفراء بتأجيل الوفد الفلسطيني زيارته لأمريكا و صور ناطحات السحاب و دخانها الكثيف ثم حكايات الجد عن الطوفان. تجسدت إذا ملامح التأجيل و ما يصاحبه من صمت في أكثر من صورة تصير كل منها تأويلا سحريا للأخرى فنرى – مثلا – آثار الطوفان المدمرة في خلاص سياسي مؤجل يرى من بعيد كقارب متخيل للنجاة. و في نص ( عصا النبي ) يبرز السارد خطابه الأصلي وفق الأحداث الرئيسية لقصة موسى عليه السلام بدءا من معجزة تحول العصا و ما تلاها من أحداث، و الجديد هنا أن السارد يكتب نصا آخر خفيا موازيا للأصل و متناصا معه، حيث تتسع الدهشة، و يصير التحول أغنية كونية، يقول السارد " الدهشة تبعثر الكلمات المتعثرة، الدهشة تجول في النظرات الزائغة.. ماذا أرى.. مذهول أنا، حية تتحرك، معجزات ربي تسبي العقول.. كل هذا يحدث فجأة و لا أضيع و لا أنتهي " لقد استمد حافظ رجب من قداسة المتن قوة للمعرفة النصية التحويلية لما هو بسيط في اتجاه مخالف للنزعة الوظيفية التقليدية، اتجاه إبداعي في النظر إلى الكون يتجاوز الثبات.و تعلو النغمات المصاحبة لسريالية الصورة الواقعية في نص ( الركض في وحشة البرية )، إذ تندمج العناصر المتباعدة في تعاطف فني فريد، فصديق البائع يدخن خرطوم فيل، والدخان وحش، و السفينة تعطل حركة المرور، كما تمتد بقع اللون الأحمر من البطيخ إلى جسد امراة البائع على هيئة مرض غامض، لا يمكن شفاؤه إلا من خلال سحر المادة الحمراء الحاملة للموت و الحياة، إذ ينقسم الدال / لون البطيخة بين الرجل و زوجته حيث لذة الأكل و الرغبة مع ذكرى المرض الأحمر.ويعيد السارد اكتشاف عمليات الاستبدال transference وفق مفهوم فوق واقعي يبدأ من صراع عادي يتولد من أسباب تافهة، مثل احتقار البطل لنجفة و عائلة شيحا القوية، ثم رغبة الأخير في احتلال منزل الأول، وهنا تحضر الصور صاخبة في حركتها التخيلية المصاحبة للقهر، فالحماسة القتالية تبدو في صوت أجراس يوقظ من في القبور، و البعوض المتكاثر له خوار جاموس وحشي، و الماء القذر يدخل من تحت الباب حتي يكتمل تفريغ الهوية المنشود، لكن الخيال قد أتي على نحو جمالي مضاد لمركزية القتل و ساخرا من قوة شيحا، فقد شاهد الناس الأخير يضرب برأسه صاحب البيت المجاور فيطير دماغه ؛ لتأكله الحيتان المشوية. لم تنته الحياة أبدا في تحولات الصورة فالحيتان المشوية تعمل و تنسحب طاقتها للمقتول كأنه يقاوم الموت و البلطجة.و تمتد السخرية من النهايات الدرامية للصراع في نصي ( هجير حريق رداء الصغير ) و ( الذي لعق نهر الدماء ) فحرق قميص الطفل في الأول استدعى هجوم محمود المجذوب على عائلة ريحان.. تمتد حماسته في مادة النار و تستدعي عقاب نسوة ريحان بتعرية صدورهن في الماء.. هكذا بدأ الصراع و انتهى في خيالات المادة، و في النص الآخر يذبح الغفير كمال منصور سماح الشغالة و يلعق دمها ؛ لأنها أوشكت أن تتزوج و تفارقه، ولم يأت القتل كحدث موضوعي بسيط إذ حمل دلالة التوحد بالدم المماثل لذات متعالية تظل مهيمنة على القاتل دون نهاية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى