الاثنين ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم أمينة شرادي

طــــــــــــنجة

قادتني قدماي بعد تردد طويل إلى مدينة طنجة. دخلتها دخول المنتصرين. استقبلتني بطلعتها البهية. كان صباحا ساخنا يلفظ نيرانه الصيفية الحارة كبركان انفجر للتو. مرت لحظات، فامتزج الحر بأجواء خريفية. ترى الأجساد تتمايل يمنة ويسرة كورقة شجرة اقتلعتها سرعة الرياح ورمتها تواجه مصيرها.

كانت الريح تتجول بالمدينة كسيد من أسياد الزمن القديم. ترتاح روحك لها وتطمئن نفسك إلى هدوءها غير المرئي أمام ضجيج السيارات والأصوات البشرية. همت مع نفسي وقذفت بها وسط المدينة القديمة التي تتنفس ذكريات أناس مروا من هنا. مشيت طويلا دون أن أشعر بالتعب. كنت أترك الحرية لقدماي. دخلت إلى زقاق مليء بالزمن، كثير الحركة. ارتميت بين أحضان آخر تنام على جنباته ذكريات الأمس القريب. خلتها تكلمني تلك الأزقة، تهمس لي أنا لوحدي رغم حملها لأمواج بشرية مختلفة الأجناس والأعمار والألوان..همسها جعلني أعيش حالة فرح نادرة. سرقتني تلك الذكريات الحلوة. استوطن الليل الأزقة الحبلى بالأصوات والأجساد.

رميت جسدي المتهالك بأول مقهى صادفتني. طلبت كاس شاي بالنعناع.اهتزت روحي من الداخل دون استئذان وارتسمت على شفتاي ابتسامة غير إرادية لكنها صادقة. أخذت أراقب ما يجري حولي وكأنني ولدت من جديد. لمحت عيناي صدفة إشارة تدل على أنني أجلس في مقهى بالسوق الداخل. هذا السوق الذي طالما عشته وتخيلته مع قصص "محمد شكري"..كنت كالطفلة يوم العيد التي تتلقى هديتها لأول مرة. ارتسمت ابتسامة أكبر على شفتاي وكادت أن تتحول إلى قهقهات تجلجل سكون أهل المقهى. تداركت نفسي وخبأت ابتسامتي بيدي وشكرت "محمد شكري". طلبت كأسا آخر بالنعناع، تلذذت أكثر ومع كل رشفة، كنت أسافر مع ذيول رائحته إلى أعماق طنجة. جلست طويلا أحتسي الشاي وأهيم مع نفسي خارج إطار الزمن.

الجلوس بين أحضان هذه المقهى بالذات له طعم آخر. كيف كان شعور الآخرين؟لست أدري. أهل طنجة من عشاق الليل الجميل . يحبون السمر مع مدينتهم ذات الزمن الجميل. رغما عني تركت المقهى وتركت السوق الداخل. قمت أتحسس طريقي بين الأزقة الضيقة التي عشقتها. الظلام في طنجة لا يخيف ولا يدعو الناس إلى العودة إلى أوكارهم ، ليلهم به صفاء وهمس وإبداع وراحة للنفس..تعيش ليلك وكأنك خلقت له وخلق لك. ليل يحنو عليك ويجعلك تمضي أحلى أيامك بين أحضانه. كم كنت أعيش هذا الإحساس وأنا ألتهم كتب "محمد شكري". لما وطأت قدماي أرض المدينة، كأنني كنت أعرفها جيدا. أكيد كنت يوما ما هنا وعدت من جديد. كنت على وشك العودة، لولا سماعي لصوت أمواج البحر وهي تتعارك فيما بينها للوصول إلى الشاطئ. "حرام أن أنام في ليل طنجة وليلها بالسهر يحلو". همست إلى روحي التي كانت تنط من الفرح والبهجة ولا تسأل عن العودة. مشيت كثيرا وسط الجموع التي كانت تتزايد كلما التفت إلى الوراء.

لا أرى سوى رؤوسا تتجاذب أطراف الحديث والشكوى. امتلأ صدري بهواء البحر العليل ومدني بطاقة لا توصف. كاد الفجر أن يحل علينا ضيفا من جديد، أسرعت الخطى، ورفضت النظر إلى الوراء حتى لا يحن قلبي وأضعف عند أول لمسة صباحية. خرجت منها خروج المنهزمين. كان الفجر يستعد للظهور وملئ الدنيا بالنور، انسل جسدي بين أشعته المترددة كرضيع يحبو. أخذت طريق العودة.رفضت التفكير. تفكيري في درجة الصفر. صمدت طويلا حتى خانتني روحي و اشتاقت إلى قهوة طنجة وشاي طنجة وأزقة طنجة وليلها الأبدي.أحببت هذه الخيانة التي سكنت جراحي و أمدت في عمري للقاء آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى