الأربعاء ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم نجمة خليل حبيب

طقوس العودة في المتخيل الروائي

نموذج: "عائد الى حيفا"، "نهر يستحم في البحيرة"

بين "عائد الى حيفا" و"نهر يستحم في البحيرة" ثلاثين عاما من الزمن قام خلالها اختلاف في الخطاب السياسي وجنوح في الرؤى والمعايير الجمالية أدى الى اختلاف في نبرة الروايتين وانتسابهما الابداعي، إلا ان كلا النصين سقطا في الغيبة وعمهما إحباط وخيبة وانكسار

يقول غلين باومن في دراسته وطن من الكلمات: تفحصت خطاب الهوية لدى الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان وفي انتلجنسيا الدياسبورا الفلسطينية في بلاد الغرب وكذلك لدى الناس في الداخل، قصد تقييم الطرق المختلفة التي شكلت بها ثلاث جماعات مختلفة من الفلسطينين هويتها . . . وقد تبين لي أنه في الحالات الثلاث كان يجري تصور العودة الى فلسطين كلحظة يمكن خلالها تحقيق هويات أعاقتها اشكال متنوعة من القمع والاضطهاد. وليس هذا بالامر المستهجن، فالعودة هاجس في الضمير الجمعي الفلسطيني لأجله قاوم الفلسطينيون كل اغراءات الدمج والتدجين وأصروا ولا يزالون على اعتبار وضعهم الحالي وضعا مؤقتا. فقد قاوم فلسطينيو المخيمات كل المحاولات التي تهدف الى جعلهم حالة إنسانية، مجرد لاجئين. وفي الغرب, ورغم أنهم يحملون جنسيات الدول التي تأويهم، لا يزالون يعتبرون انفسهم فلسطينيين قلبا وقالبا. وفلسطينو الداخل، الذين حملوا الجنسية الاسرائيلية مرغمين، يعبرون عن رفضهم للامر الواقع بالاصرار على رفض التسميات التي اطلقها العبرانيون على الامكنة ويصرون على تداول أسمائها العربية التي كانت لها من قديم ويحرصون كل الحرص على غبقائها حية في نفوس أبنائهم. وحتى بعد اتفاق اوسلو فان الفلسطينيين لا يزالون مقتنعين في صميم قلوبهم ان الارض كلها لهم, فهم وان ابدوا القابلية والرغبة الصادقة للفصل بين ما يكنه القلب وما تسمح به السياسة على ارض الواقع فمن قبيل ايمانهم بانهم في النهاية "ام الصبي" مستعدين للمشاركة بالارض خوف ضياعها كلها. . . بل إن العودة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية مفهوم مقدس متغلغل ليس فقط في الخطاب السياسي والادبي فحسب بل في صلب الخطاب الشعبي. فقد استبدل الفلسطينيون الكثير من التعابير اليومية التي تقال في المناسبات الاجتماعية بتعابير تحمل معنى العودة كمثل : "بالبلاد", ب"النصر" , عيدنا يوم عودتنا. . إلا ان أحدا لم يكن ليتوقع ان تكون هذه العودة على طريقة سعيد س. في "عائد الى حيفا" او يقنع بها على طريقة يحيى يخلف في "نهر يستحم في البحيرة"

كتب غسان كنفاني روايته بعد انتكاسة 67 في حين كتبها يحيى يخلف بعد اتفاق أسلو عام 98. إلا ان العودة في كل منهما لم تكن مما أمله الفلسطيني بل كانتا، في كلا الحالتين، عودة منقوصة مخيبة للامال والاحلام رغم ما بينهما من فوراق.
يقوم الفارق الرئيسي بينن الروتيتين على كون العائد في الاولى (سعيد س.) عاد إثر هزيمة عسكرية في حين كانت عودة الثاني (صاحب نهر يستحم في البحيرة) إثر معادلة سياسية.

تنتمي الروايتان الى مناخ ادبي مختلف لذلك نرى أنهما تنحيان منحى مختلفا في كثير من الوجوه.
لقد كتب كنفاني روايته أيام كان الالتزام والواقعية الاجتماعية في الادب تخوضان معركتهما ضد نظرية الفن للفن, أيام كانت الذاكرة الادبية تعيش مناظرة طه حسين ورئيف خورى فتنحاز اقلية خجولة للاول وتتتصر الاكثرية للثاني. أيام كان القارئ العربي يأمل من مبدعيه ان يكونوا أصحاب رسالة وانبياء رؤيويين, وفي مناخ كهذا، إضافة الى ما نعرفه عن انتماء المؤلف الايديولوجي ومن ثم تبنيه لقيم الرؤية الواقعية في الادب جاءت روايته متسمة بطابع زمانها فكان اول ما ميزها انها عكست واقع الحال في النفس العربية, فكانت رواية محكومة بالغضب وبالنبرة العالية الصاخبة الضاجة بالاعتراض الى درجة يحس معها القارئ ان ضربات قلبه تزداد ودمه يعلو ويثور, سواء كان ذلك أثناء وصف الكاتب لحالة حيفا قبل واثناء معركة نيسان 1948 المصيرية أو لعذابات الام المفجوعة التي اضاعت ولدها وظلت تعيش هاجس هذا الضياع على مدى عشرين سنة "عذابا ينتصب عملاقا في احشائها ورأسها وقلبها وذاكرتها وتصوراتها ويهيمن على كل مستقبلها". بل إن هذا الغضب يقتحم الرواية منذ اسطرها الاولى "حين وصل سعيد س. الى مشارف حيفا, قادما اليها عن طريق القدس, احس ان شيئا ما ربط لسانه, فالتزم الصمت وشعر بالاسى يتسلقه من الداخل, ودون ان ينظر اليها كان يعرف انها آخذة بالبكاء, وفجأة جاء صوت البحر, تماما كما كان, كلا لم تعد اليه الذاكرة شيئا فشيئا بل انهالت في داخل راسه كما يتساقط جدار من حجارة ويتراكم بعضه فوق بعض . وهي الى ذلك تدين إدانة فجة وتوجه اصبع اتهامها للهاربين والذين جبنوا وتصرفوا بقدرية و لامبالاة. " كيف يستطيع الاب والام ان يتركا ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان . . . كان عليكم إلا تخرجوا من حيفا . وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم باي ثمن ان لا تتركوا طفلا رضيعا في السرير واذا كان هذا ايضا مستحيلا فقد كان عليكم الا تكفوا عن محاولة العودة . . . . لقد مضت عشرون سنة يا سيدي ! عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من اجل ذلك . . . (406-09)

أما رواية يخلف فجاءت في زمن تنكر فيه الادب لصاحبه وتبنى الكثيرون نظرية موت المؤلف وسلخ النص عن بيئته وحاضنته الاجتماعية والسياسية وتنكره لاي صفة تعليمية او رسولية او رؤية سياسية او قومية او اجتماعية. نظرية تقول بقدر ما يبتعد الكاتب عن قضايا مجتمعه بقدر ما يكون مبدعا، وبقدر ما يغرق في الصمت ويكتب الهامش بقدر ما يكون مجليا في ابداعه. لذا غاب الغضب من الرواية وتملكها حزن هادئ رزين وخفتت نبرتها فقاربت الهمس الشعري. "صباح من ندى ومن كلوروفيل ومن تداعيات ومن اضغاث احلام وفرح ناقص وابتسامة تشبه البكاء" . وترافقها هذه النبرة حتى في اشد فصول الرواية تأزما عندما علم الرواي ان جثة خاله لا تزال محفوظة في الثلاجة, لم يستصرخ ضمير العالم ولا أنّب ولا أدان بل قال: يا عبد الكريم الحمد . . كيف تحملت كل هذا الصقيع طوال هذه المدة وكيف قضيت عمرا آخر في الثلاجة. ألم ترتعد فرائصك, ألم يقشعر بدنك وانت الذي عشت عمرك كله في الاغوار الحارة؟ انت الذي هرب من البرد والصقيع من اجل نهاية اكثر دفئا . . . كيف داهمك هذا البرد الذي لا يكف عن التسلل الى عظامك ليلا نهارا هذا البرد الذي يخز الروح ويحز الوريد والاعصاب؟ (120) وهي عكس "عائد الى حيفا", تدين ضمنا ودونما صراخ، الطرف الاخر، فهو الذي افشل كل مشاريع العودة. لقد اقتحم العائد حصن عدوه ومد له يدا مسالمة ولكنه رفض اليد الممدودة. رفضها عندما رفض تسليم جثة الشهيد الموجودة في البراد منذ اربعين سنة, وعندما رفض صاحب النزل إيواء الفلسطينيين لانهما من "المناطق "واخيرا عندما فشلت الهيئة الاذاعية من اقامة برنامجها التوفيقي بعرض قصة الطيار وعبدالكريم

تدور احداث عائد الى حيفا في معظمها في الطريق الى حيفا عندما يقرر سعيد س. وزوجته الذهاب "الى هناك", وتفقد بيتهما الذي تركاه وفيه طفل رضيع أثناء معركة حيفا عام 1948 . وتعطي الرواية حيزا كبيرا للمفهوم الذهني للوطنية والمواطنة وتبين من خلال التداعي قسوة الظروف التي أدت الى مأساة عائلة سعيد س. وتطرح مفهوما مختلفا عما كان سائداً لمعنى الوطن في الخطاب الفلسطيني. فالوطن ليس ريشات الطاووس المشكوكة في المزهرية ولا بالابن المتروك في السرير ولا هي لحم ودم، بل هو المستقبل المتمثل بالابن الاخر خالد. ورغم ان مشهد الرواية الرئيسي هو في المحاورة التي دارت بين دوف المولود خلدون وابيه البيولوجي وتنكر الولد لهذا الاب وانتمائه الى التربية وليس الى الدم، إلا ان ما يدور حول هذا المشهد هو الذي يصنع فنية الرواية ويرقى بها فوق مستوى الخطابي والدعائي, ولعل أهم ما يميز نص كنفاني هذا هو نجاحه في قول الذهني بقالب فني تمسي معه المقولات الذهنية نتيجة حتمية لمسار الحدث الروائي. فسعيد س. الذاهب الى بيته تحت إلحاح زوجته صفية يستعيد ماضيه كله. يستعيد احداث حيفا في نيسان 48 وما كان من امر خروجهما الاضطراري, وهو إذ يصل الى المنعطف المؤدي الى البيت يقفز امامه الماضي مؤلما موجعا: الدرجة المكسورة, وريشات الطاووس, الكنبة الوحيدة الباقية, ومسكة الباب, ورنة الجرس. اذن، فالحدث هو العنصر الاهم في الرواية فبسببه قامت الرحلة وبسببه نسي الطفل الرضيع في السرير وبسببه ايضا ملكت مريام وزوجها بيت سعيد وصفية وابنهما الرضيع. لذا تنتهي الرواية وهي تنتظر الحدث (التحاق خالد بالفدائيين) لتعمل التغيير المرجو.

تروي رواية نهر يستحم في البحيرة قصة فلسطيني عائد من منفاه ـ تونس ـ الى غزة فلسطين ومنها الى قريته الجليلية سمخ التي تقع ضمن الاراضي المحتلة منذ عام 1948 وعكس ما هي عليه الحال في عائد الى حيفا فان العائد هنا يعيش جميع تفاصيل رحلته يستذكر الماضي وليس اللحظة الحرجة فقط كما هي الحال مع سعيد س.، يستحضر الارض ويعطيها حيزا كبيرا في السرد وفي الحدث: يعرض ما اصابها من تغييرات وما ابقت عليه من ملامحها كما انه يعرض للكثير من المشاهد الغرائبية الغنية بالدلالات السياسية والوطنية كمثل الشائعة التي تقول بوجود التماسيح في البحيرة، وان واحدها خرج واكل اطراف رجل. ثم يتبين كذب الاشاعة وتضخيمها فما التمساح الا تمساح صغير سئم البركة الصغيرة فهوجم وحوصر ومورست عليه قوة كبيرة "جاؤوا بالدبابات والجنازير والسلاسل لتكبيله". ثم إشاعة الاحداث الجيولوجية التي غيرت مجرى النهر والتي تعني ان تغييرا جوهريا سيحصل بسبب هذا، فالمياه ستمسي مالحة وستموت كل الاحياء في النهر. ثم الحواجز والخوذ والتوقيفات، امور وإن جعلت العودة كابوساً بعد ان كانت حلماً، إلا أنها ترمز في العمق الى هشاشة هذا الكيان ونشاذه وخروجه عن المألوف.

وفي الرواية أيضاً عائدان فيهما الكثير من الرمز هما: الطيار اليهودي الذي سقط في البحيرة وظل يحتفظ بملامحه على مدى ستة وثلاثين سنة والفلاح الفلسطيني الذي حفظ في الثلاجة مثل هذه المدة. وعائد ثالث هو الفلسطيني المغترب القادم من اميركا، الباحث عن السلام من خلال بحثه عن حبيبة خاله(اليهودية) وما مني به من خيبة عندما تنكرت الحبيبة لهذا الماضي ووقفت إزاءه عمياء خرساء طرشاء.

في نهر يستحم في البحيرة يكون الدافع حنين العائد الى بلدته واسترجاعه لذكريات حميمة، وفيها فرحة العائد بانتقال المقاتل من وضعية المنفي الى وضعية المواطن ـ الشرطي ـ يقف على ارض هي ارضه ويلبس بذلة كاكية تعطيه هويته واتنماءه ألا ان هذا الفرح الطفولي لا يلبث ان ينقلب حزنا هادئا، وعكس ما تبثه فينا رواية كنفاني من توتر وانفعال تغرقنا رواية يخلف بشحن يشبه الغيبوبة . إلا أن كلا الروايتين يفاجئها التغيير الذي احدثه الاحتلال. سعيد س. يرى التغيير جذريا انقلابيا, فشخصية الابن خلدون تحولت الى العدو دوف, في حين رأى يحيى التغيير تغييرا فيزيولوجيا أحدثته السنون كأمر لا بد منه: الحبيبة وعد التي كبرت ورحل بريق خاص من عينيها وبدأت التجاعيد تحبو تحت جفنيها, هي الحبيبة القادمة "من وراء الريح والضباب وبوابات الغربة والضياع ومن وجع سبعة وعشرين عاما ومن اخاديد وشقوق السنين الهرمة, إلا ان كلا التغيرين قاد الى نتائج متقاربة فقد ادت في الحالة الاولى الى خبو عاطفة الابوة بل تحولت الى عداء, وهي في الثانية وان لم تتحول الى عداء ألا انها خبت وجنحت الى حبيبة أخرى هي عائشة

جمالية المكان

لا يحفل كنفاني كثيرا بالمكان في روايته، فهو عنده ليس اكثر من ظرف لاحتواء الحدث، في حين خصص يخلف حيزا كبيرا له حتى كاد يكون الشخصية الرئيسية في الرواية. فهو حاضر منذ اللحظة الاولى ينفعل ويتفاعل بالحدث، ولا غرو في ذلك فالمكان في الذاكرة الجمعية الفلسطينية كان وسيبقى, فعل وجد واشياق دائمين, واغلظ الايمان انما تحلف بتراب فلسطين .
وللمكان، عند يخلف، ميزة يتفوق بهاعلى جميع الشخصيات والادوار الاخرى, ميزته في ديمومته وصموده. فقد استطاع المحتل ان يغير معالم بعض الامكنة فامست القرية "سمخ" "تسيمخ", وبني على انقاض القرى العربية مستعمرات مختلفة شكلا, وحتى انه تدخل في عمل البحيرة فغير انواع سمكها, ولكن هذا لم يمس إلا القشرة الخارجية فيما بقى كنه الاشياء على حاله لم تستطع ان تطاله يد التغيير وإن جهدت
"إنه بحر غزة المتوسط الحنون الذي لم يستطع احد ان يبعده عن مكانه, وعلى الرغم من سبعة وعشرين عاما لم يستطيعوا ان ياخذوا معهم البحر. سحبوا معداتهم ودباباتهم واسلحتهم الثقيلة, ولكنهم لم يستطيعوا ان يسحبوا معهم البحر" (21). وها هو النهر رغم كل الاقاويل والاشاعات التي صيغت حوله لم يزل ينبع من البحيرة. البحيرة التي لها سمة التطهير. فهي تستقبله من الجنوب وتغسله من كل ما علق به من شوائب وادران ليخرج من الطرف الاخر نقيا فحلا يتدثر بزرقة داكنة تلقيها الاشجار الكثيفة التي ما انفكت تنبت على جانبيه
وتشتد لغة المكان ويعبق جوه كلما اشتدت ازمة البطل وضيقت عليه الحقيقة التاريخية الخناق. فعندما تضيع سمخ بين الماضي والحاضر ويقوم على انقاض بيوتها تلال من الاسمنت ويتغير اسمها الى تسيمخ , عندما تتأزم الامور في نفس العائد وفيما هو يحدق بعيون هنا وهناك علّه يقبض على اثر ما, عله يجد شيئا من مزق الايام الماضية . . . عندما ينسحب البطل الى حقيقته الداخلية, تأتي عناصر الطبيعة (المكان) لتكون همزة وصل بين الداخل والخارج. "وامسكت فجأة خصوصية الرائحة, شممت رائحة البحيرة, رائحة المياه تختلط برائحة الاعشاب التي تنمو على حوافها, رائحة قادمة من ستة واربعين عاما, مثلما يتذكر المرء رائحة الحليب وهي تقطر من ثدي امه, او مثلما يتذكر فجأة رائحة الصابون الذي كانوا يغسلون به شعر راسه . . . يا لتلك الرائحة الكامنة في اعماقي مثل النار الكامنة في قلب حجارة الصوان (31)

يأخذ بطل الرواية في قصة عائد الى حيفا الدور القيادي فيها فهو الذي يقود الرحلة وهو الذي يتصدى لدوف ويجيب على تساؤلات مريام وهو الذي يقرر متى يبدأون ومتى يتوقفون اما في رواية يخلف فإن الراوي, بطل القصة, يبقى في منطقة الظل شأنه شان اي مهزوم في هذه الحياة. يكاد يقتصر دوره على المشاهدة او رواية الخبر دونما اي تدخل فاعل، والكاتب في ذلك كان منسجما مع بطله وخط سيره, فالشخصية مهزومة ضائعة بين موقفين: قبول الهزيمة او رفضها, لذا فان دورها في الاحداث لا بد ان يكون هامشيا. وهذه السلبية ـ اللاموقف ـ تسبغ الشخصية في جميع تصرفاتها, فهو يترك للاخرين كي يقرروا له ( لقد قررت مجد اين ومتى وكيف يلتقيان, وقرر له اكرم اين يقضي ليلته ووقت يتابع السير وساعة التوقف وحتى نوع طعامه وشرابه . . . ) فكأن الكاتب اراد ان يقول, لقد انتهى دور المقاتل المشرد ليبدا دور المغترب التاجر . . . مرة واحدة تدخل الراوي بالحدث وكان فاعلا فيه عندما قرر الاخرون العدول عن متابعة الرحلة فاصر هو على اكمالها ـ وللحدث دلالة سياسية بالغة الاهمية ولكنها خارج اطار هذا البحث ـ
وكنتيجة لهذا التهميش الذي يصيب الشخصية تنسحب الى الداخل , تعيش همومها وتتغذى حزنها وذكرياتها , الاليم منها والمفرح , فتكثر اسماء محطات من الماضي : العرقوب, جنوب لبنان, الاغوار الجنوبية ممر العمل الفدائي ايام مرحلة الشباب المبكر والضحايا التي سقطت دون ثمن . . . وتلك القرية التي تذكر ببؤس الدونكيشوتية التي اضاعت فلسطين عام 84 . . . ثم القرية الحلم، سمخ، بعيدة وقريبة . . . كما لو انها هناك في بقعة ما في ذلك الكوكب الذي يسكن السديم (7)

يتمثل الاخر في رواية كنفاني بدرجة كبيرة ب"دوف" الابن المولود عربيا "خلدون" والمحول الى اسرائلي بالتربية وهو في رواية كنفاني موجود بقوة, إما عدوا يواجِه او مضللا وضعته الظروف في مواجهة لم يكن يريدها، كما أن في المشهد ظاهرة لعلها الاولى في تاريخ الرواية العربية، عنيت بها أنسنة العدو. جاء ذلك من خلال عرض شخصية مريام والاحداث التي ادت بها الى فلسطين، فإذ هي ضحية ومضلَلة، لا غازية ومعتدية بل امرأة مرهفة الاحساس يسيئها ما تقوم به المنظمات اليهودية من اعمال اجرامية فتتالم لرؤية طفل عربي يلقى في الشاحنة كحطبة وفيما يفرح زوجها لانه يشاهد سبتا يهوديا تبكي هي لانه لم يعد هنالك جمعة حقيقية ولا احدا حقيقيا (377) . وللعدو عند كنفاني اليد العليا، فهو يدين ويعطي دروسا في الوطنية لا يستطيع إزاءه الفلسطيني إلا الغضب, في حين تقف رواية يخلف على مسافة من الاخر، فلا تسمه باية سمات خاصة فلا هو صديق ولا هو عدو صريح, بل هو واقع يفرض على العائد التعامل معه وتقبل اسقاطاته. إلا انه كما في عائد الى حيفا له اليد العليا ايضا، فهو المسؤول عن فشل التواصل واقامة الحوار. وتشمل المسؤولية المجتمع بجميع فئاته: فها هو صاحب النزل يتخوف من استقبال الفلسطينيين في نزله لانهم من "المناطق". وها هو اكرم العائد من منفاه ليحي التعايش, ليعيد للزوجة اليهودية التي فصلت عن زوجها قبل خمسين عاما, خاتم زواجها يرى انها قد انكرته. فهي عمياء صماء خرساء. ويفشل البطل أيضاً في استعادة جثة خاله المحتفظة في الثلاجة منذ ثلاثين سنة. كما تفشل البعثة التلفزيونية في احياء مهرجانها التوفيقي الذي حشدت له كل الامكانيات. رغم كل ذلك فقد علمته التجربة ان الوطن ليس مجرد ارض وتاريخ بل هو مواطنة, اي فعل ايمان دائم لا يهن امام الهزائم مهما كان وقعها قاسيا ومتتاليا, والمواطنة تقتضي منه ان يناضل, ان يظل يحلم ويعمل لتغيير الواقع واعادة صياغة الوطن والارض والانسان . . . كما انه تعلم ايضا ان يده الممدودة وحدها لا تستطيع شيئا ان لم تقابلها ارادة التغيير من الاخر الذي لم ينتقل بعد بمفهوم الوطن الى عمقه الاشمل، المواطنة. وقد لجأ يخلف الى الغرائبي والمدهش ليلفت الى ما في هذا "النسيج المسمى وطنا" من تناقضات وعدم انسجام: ففيه يتحول مجري النهر ويتغير منبعه ومصبه وتمسي مياهه مالحة . . . وفيه تنقلب دورة الحياة فيكون الاب في العشرين والابن في الاربعين والزوجة في الستين. وفيه ايضا تتمرد التماسيح على انهارها . . . هذه هي اسرائيل: إشاعات واكاذيب وحواجز نفسية تقام كل يوم بينها وبين الفلسطيني. لذا انتهت قاذفة السلام بقنبلة، معلنة مسؤولية الاخر عن هذه النتيجة، فهو ما زال يفتعل المخاوف ويقيم الحواجز بينه وبين الفلسطيني، خائف ان يطلع له حوت من بحر غزة وعلى الحواجز يفتشون عن ضبع له انياب, عن كركدن عن وحيد القرن , وفي طبريا إشاعة تقول ان تغييرا جيولوجيا ضرب البحيرة ونكّر تماسيحها فخرجت هائجة تتعقب الناس وتفترسهم ثم ينكشف الامر, ويتبين انه لا يعدو عن مجرد هروب تمساح صغير لا اسنان له من حديقة الحيوانات وقد تم تقييده واعادته الى قفصه بحركة استعراضية دعائية فيها الكثير من اصطناع الخوف

ونلاحظ في عودة سعيد س. اختفاء للسلطة المحتلة، فلا حواجز ولا عوائق على الطريق ولا اشاعات تسري هنا وهناك فقد قام سعيد س. في رحلته كمن يقوم برحلة من بيروت الى صيدا لم تعترضه حواجز تفتيش ولا نقاط حدود ولا تشكيك ولا مشككين, في حين كانت طريق صاحب نهر يستحم في البحيرة مليئة بالعقبات بل ان اكثر احداث الرواية وصورها الرمزية انما تتم في الطريق من رام الله الى سمخ.

لا تاتي رواية كنفاني على ذكر المنفى إلا عرضا في حين يخصص يخلف مكانة خاصة له ويعليه على الوطن. ففي مقارنة بين وعد الحبيبة الفلسطينية وعائشة التونسية, تتغلب الثانية على الاولى, فما عائشة في بهائها وعطرها وثوبها المطرز إلا المنفى الرحب الذي حضن الفلسطيني وعطف عليه في حين كان الوطن مثخنا بالجراح والذكريات الاليمة
 عائشة قطعة من روحي (الراوي)
 عائشة هي جنون الفلسطيني التائه (وعد)
 عائشة دمعتي وابتسامتي . . . عائشة قمري ووردتي
 لعلها وردة الجرح
 بل هي وردة الدفء العربي(8)
في حين كانت وعد الحبيبة التي كبرت ورحل بريق خاص من عينيها وبدأت التجاعيد تحبو تحت خفنيها , هي الحبيبة القادمة "من وراء الريح والضباب وبوابات الغربة والضياع ومن وجع سبعة وعشرين عاما ومن اخاديد وشقوق السنين الهرمة " (9)

ومما تجدر ملاحظته هنا, ان الكاتب في نظرته هذه خالف ما هو شائع في الادب الفلسطيني, فنحن قليلا ما قرأنا في هذا الادب تمجيدا للمنفى بل نقمة وأدانة له: فمن قصص" سميرة عزام" الى روايات "غسان كنفاني" الى اعمال "الياس الخوري" وصولا الى زميلة الكاتب في تجربة تونس "ليانه بدر", نقرأ مرارة غربة واغتراب وصعوبة تقبل. فالمنافي باستثناء دولة عربية واحدة او اثنتين ,كانت اطرافا تتجاذب الفلسطيني فهذا ينبذه وذاك ينفيه وثالث يقمعه وكل يجد التبرير الملائم لفعلته. فالفلسطيني ناكر للجميل حينا ومتآمر حينا اخر وطامع بالحكم في ثالثة . . . ولطالما سمعنا قصصا عن فلسطينيين بقوا لايام في الجو وتبادلتهم المطارات عشرات المرات، واخرين ظلوا لاسابيع في البواخرلان الموانئ لا تستقبلهم وذاك يرميهم على الحدود في العراء الى ما شاء الله. إلا أننا لا يمكننا أن نتجاهل ما رمى اليه الكاتب من هذه المقارنة فهو حتماً رمى الى القول انه عاد الى وطن ليجده منفى اشد مرارة وقسوة من المنافي الاخرى التي شكونا منها. منفى يرفضك بكل فئاته, الرسمية منها والشعبية. في حين كان المنفى العربي حضنا شعبيا دافئا يعوض ما تلحقه الجهات الرسمية من رفض وتنكر وإسآة . . . ومما يرجح هذا التأويل ان موقف الشخصية كان مختلفا في اول الرحلة . لقد فرح لمشاهدة الوطن وغّلبه على المنفى, واشار ضمنا الى مرارة الحياة المتشردة . فها هو بطل القصة ( الراوي , المؤلف) يفرح لمشاهدة الشرطة الفلسطينية في غزة ويترجم لمشاعر الشرطي فيقول: هو سعيد بما امنته له الاتفاقية فهو يشعر بسعادة غامرة عندما يقارن بين وضعه الجديد ووضعه السابق إذ كان يعيش في معسكر السنكات مع قبائل الهدندو , "لقد خلع بذلته الكاكية المرقطة ولبس ثياب الشرطة واستمتع باستقبال حافل من الجماهير عشية دخوله من معبر رفح "(1) وما هذه المواقف القلقة إلا انعكاس للبلبلة الحاصلة في ضمير الكاتب ومن ثم ضمير الانا الجمعي إزاء التحولات الدراماتيكية التي طرأت على القضية وابنائها, فزعزعت ما كان ثابتا لديها من قناعات

اما من ناحية الاسلوب فقد اتبع كنفاني الاسلوب الواقعي المباشر فقد كانت رحلة العودة لسبب ذاتي مباشر هي رغبة الام في الاستفسار عن ابنها المفقود وكانت الاحداث طبيعية كمثل ما يمكن ان يحدث لأي كان. أما يخلف فقد اعتمد رمزية تكاد تصل حد السريالية احيانا, فهو مثلا اعتمد على شخصية خارجة عن نطاق الحدث, مستلة من التاريخ القريب, يستدعيها حين يتأزم النص لتنفث عما في الصدر من رفض لامنطقي لسير الاحداث. هذه الشخصية هي الجندي الياباني اونودو الذي بقي لعدة قرون بعد هزيمة بلاده ثابتا في كمينه يرفض كل الدلائل التي تشير الى الهزيمة . . . لقد انتظر اونودو المتماهي بالفلسطيني المهزوم في متراسه ثلاثين سنة ينتظر عدوا لا ياتي ويرفض تصديق المنشورات التي القتها الطائرات المعادية معلنة استسلام بلاده . . . ثم يرفض تسليم سلاحه عندما يتحقق له صدق هذه المنشورات . ورغم ذلك اصر على البقاء في كمينه. وعندما اضطر لمواجهة الواقع الاليم اصيب بصدمة نفسية حادة : فقد وجد نفسه فجأة رجلا بلا قضية

وبكلمة، فان نص "نهر يستحم في بحيرة " وإن نحى في كثير من ظواهره منحى مختلفاً عن كلاسيكيات الادب الفلسطيني, إلا أنه أبقى على الميزة الرئيسية لهذا الادب لناحية كونه ادبا قلقا مشحونا دوما بالرفض والغضب, ولكنه وليد المرحلة التونسية متفاعل مع الحدث المستجد (اتفاق اوسلو) يتقدم فيه الحزن والانكسارعلى الرفض والغضب, وفيه يتراجع دور المقاوم المنفي ليفسح في المجال لدور المهاجر المؤمرك. والنص في مجمله رحلة عبور حزين عكس منطق الاشياء, من المنفى الى وطن لم يحرر . . . تحكمه رؤيا ضبابية للمستقبل , اللهم إلا تلك الصرخة الغاضبة التي تختتم فيها القصة : "القنبلة موجودة داخل صدري . . . في اعماقي . . . حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة واخرى (41)

أما رواية كنفاني فهي على حد تعبير د. فيصل دراج تأمل لحوار العدل والقوة العقيم. وفيها يضيء كنفاني انفعال الانسان الموجود في قلب الظاهرة . وفيها يقف كنفاني لاول مرة في الرواية العربية, امام صهيوني محدد الاسم والعمل والمسار بعيدا عن التجريد التبسيطي العربي المسيط . فكأن كنفاني يعترف بالوجود الصهيوني كي يعرف وبشكل مشخص سبل مواجهته دون شعاراتية وفائض لغوي. ولأن كنفاني تعامل مع عسكري صهيوني مشخص لا ترديه لغة الوعيد قتيلا فهو لم يقف على "الشرفة العالية" بل كتب مرتبكا وارتبك وهو يتمرد على مقاياسات مجردة

مراجع الدراسة

 آفاق المنفى, غلين باومن, مجلة الكرمل, عدد 61 ,خريف 1999، رام الله، فلسطين، ص. 11.

 غسان كنفاني، الاثار الكاملة، المجلد الاول، الروايات، مؤسسة الابحاث العربية، ط. 3، 1986 [1972]
341 ص: بيروت، لبنان

 يحيى يخلف، نهر يستحم في البحيرة، دار الشروق 1997، ط: 1، عمان، الاردن، ص: 1

 يخامره للوهلة الاولى شعور بالفرح لرؤية الشرطة الفلسطينية وانهماك الناس في حياتهم الجديدة , ثم لا يلبث ان يعتريه حزن وقلق لما يطالعه من بؤر فساد ومشكلات يومية يرمز اليها بداء الرمد حينا والحوت الطالع من البحر حينا اخر. ثم يتطور الحدث , إذ أن دخول البطل (الراوي) الى غزة لم يكن هدفا بحد ذاته بل وسيلة للعبور الى قريته الجليلية سمخ .

 فيصل دراج، المثقف الفلسطيني وقراءة الصهيونية، مجلة الكرمل، عدد: 67، ربيع 2001، رام الله فلسطين، ص: 119

نموذج: "عائد الى حيفا"، "نهر يستحم في البحيرة"

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى