الجمعة ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم أنس الفيلالي

طوبى لمن يتركوننا أيتاما بدون مديح وثني[1]

لا مراء أن الاحتفاء بالأعلام الثقافية، هو تقليد غربي، عمل به في الحضارات الغربية التي استمدته من خلالها باقي الحضارات الأخرى، كحضارتنا العربية الإسلامية.

ويبقى التكريم مفهوما متدحرجا بين مفهومين في برزخين مختلفين: مفهوم التكريم عالميا ومفهوم التكريم عربيا. ففي ما يخص المستوى الأول، المستوى العالمي، يتشكل مفهوم التكريم بمفهوم الاعتراف بعطاءات المكَرََمِ، ومفهوم الاعتراف بالخطأ لدى الذين كانوا ضحايا الحيف، كما وقع مع القديسة جان دارك في القرن العشرين، بعدما حكم عليها حرقا، ضمن النساء الاثنين والخمسين ألفا من ضحايا "حملة محاربة السحرة" المعروفة في أوروبا القرون الوسطى.

أما في ما يخص المستوى الثاني في شقه العربي، فإن "تكريم" المثقف والأديب والفنان "يؤجل" إلى حين وصول المكرم أرذل العمر، أو لوفاته.. ومع أن الأستاذ الراحل كان يكرم في حياته كل مرة من أناس يحبونه قولا، وفعلا في تكريمات رسمية، تربوية وطلابية، نظمت على شرفه العام الذي ودعناه، فشهادتي اليوم في الراحل، لن تتعدى التكريم ومفاهيمه المتفق عليها عالميا وعربيا وأخلاقيا، فالاعتراف بالجميل للأموات والأحياء مرده البناء والتشييد لما تركه أو خلفه هؤلاء الأعلام، كخريطة لبناء الحاضر التليد بأعينهم، وكأرضية لاستشراف مستقبل خصب من الماء والثلج، بعبيرهم الأخاذ.

كما أن الراحل بنى كل الحواجز التي يمكن أن يكرم بشأنها كل مرة في حياته، وليس فقط بعد وفاته، فصداقتي بالراحل كانت ذات مفاهيم عديدة تتشابك في الصديق، والأستاذ، والأب، وغيرها من المفاهيم التي جمعتني به من كثرة مجالستنا لبعضنا البعض، واقتسامنا الهموم الاجتماعية والثقافية والاعلامية التي نتشارك فيها. فقد حمل هذا الرجل الهوميري الشمس والضوء و الماء، للهواء الذي يطالعه، وكل الأبواب المشرعة في كل خطو، وشهادتي لن تخرج عما ذهب اليه الروائي السوداني الراحل الطيب صالح:" ... ان الوفاء للموتى، وتكريم ما أنجزوه أهم وأكثر نبلا من الوفاء للأحياء. فمع الأحياء تظل شبهة المصلحة والعلاقات تحوم لأسباب شتى. أما بعد أن تذهب الروح الى ملكوتها.. فيصبح للوفاء نكهة أخرى، دافعها المحبة الخالصة التي لا يخالطها كدر ولا تشوبها شائبة."

عن بداية معرفتي بالراحل:

لم يغب عن ذهني ذاك اليوم الذي جمعني لأول مرة بالأستاذ محمد أبو الوفاء، في اطار الدعم الذي يمكن أن تقدمه مؤسسة القصر الكبير للتنمية لمهرجان الشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني الذي كنا نظمناه سابقا بالحي الجامعي بتطوان، وفعلا كان من الأوائل الذين دعموا المهرجان ببعض الكتب التي عرضناها بالمعرض الأول الذي كان قد شرفنا بحضوره، مع الأستاذ المؤرخ العالم الحاج محمد أخريف، والأستاذ مصطفى الجباري. وكان من حسنات هذا اللقاء الذي جمعني بالراحل التطور الذي ستعرفه علاقتنا، من الأحسن الى تشاركنا هم العديد من القضايا التي تجمعنا، خاصة التي تخص مدينتنا، المدينة التي لا يغيب حديثه عنها في كل المحطات. وهي من ميزة وطنيته المثلى لوطنه الصغير.

محمد أبو الوفاء الفاعل الجمعوي:

لا يخفى على المتتبع للشأن الثقافي الجمعوي بالمدينة، والذي لا يميزه عن بقية المدن المغربية، الذي يعمل على تكريس العلاقات المصلحية الشخصية، والعمل في اطار الجماعات المحزوبية، و تقزيم "المثقف الحر" والفساد الثقافي.. والاقصاء الرخيص.. والاقطاعيات الشعرية والمؤسساتية المفروضة بثقافة السلطة لا سلطة الثقافة، هي حالات جميعها عرفتها ومازالت تعرفها المدينة ، وبمعرفتي بالأستاذ محمد أبو الوفاء الذي كان يحارب ويحارب على خطوه طريقا غير الذي تعرفه المدينة في التعامل الجمعوي مع المثقفين والمبدعين ، وهو ما لمسته في تعامله مع المبدعين بالمدينة، في اطار اشتغاله في جمعية مؤسسة القصر الكبير للتنمية، وجمعية القصر الكبير للصحافة والاتصال، فالراحل من القلائل الذين انساقوا في العمل من أجل القصر الكبير، وتاريخه وقيمته بين باقي المدن على المستوى الجمعوي، فقد كان لايفرق بين المبدعين و الأنسجة الثقافية التي كان يعمل الى جانبها، بل وتكريم كل المبدعين الذين يتكرم بدعوتهم في كل لقاء. بكلمته الطيبة مع الجميع باختلاف بنياتهم الاجتماعية والتعليمية والعمرية. ولا أخفيكم أيها السادة الأفاضل علاقة بالجانب الجمعوي في شخص الأستاذ محمد أبو الوفاء، أني تشاركت معه في برمجة العديد من اللقاءات التي كان ينظمها، بل وفي كل الحيثيات الخاصة بذلك، خاصة في حفل توقيع" ديوان جلد الذات" للشاعر الراحل محمد عفيف العرائشي، وحفل التأبين الذي خصصناه له بعد ذلك. والملتقى الرمضاني الأخير، وكنا نشتغل في الأيام القليلة الماضية على لقاء، خاص بجائزة الشاعر الراحل محمد عفيف العرائشي، بل وقد حددنا قيمة الجائزة، والمشاركين من المبدعين.

محمد أبو الوفاء الإعلامي:

وغير بعيد عن اهتماماته الجمعوية، يبقى الأستاذ محمد أبو الوفاء كاتبا اعلاميا من طراز رفيع، أهلته ثقافته العلمية الرصينة بأمور المجتمع، أن يكون اسما بارزا في العديد من الصحف الوطنية والجهوية. وبتوطد علاقتي بالراحل فيما يخص هذا المجال، فقد طلبت منه اعادة نشر مقالاته على نطاق أوسع في الصحافة الوطنية والعربية، والذي استقبله بصدر رحب، ونشرت العديد مما كنت أتوصل به منه في صحف وطنية وعربية ورقية عديدة، كان أولها جريدة العرب اليوم الأردنية التي نشرت له تغطيته لحفل تأبين الشاعر الراحل محمد عفيف العرائشي، هذه الثقة الكبيرة التي حطها في فيما كنت أحطه للراحل كاعتراف بالجميل لكثرة ماكنت استقبله من تشجيعات كثيرة تخص الابداع والدراسة.

ولعل قبل ايام من لقاء الراحل برفيقه الأزلي، كان لقائي الأخير معه في مقهى العيون، مع خيرة من الأصدقاء الأساتذة والمبدعين، حول الجانب الاعلامي، حين كان يدافع بشدة عن الاعلامي المغربي خالد مشبال، وتاريخه النضالي والاعلامي، في موضوع علاقته بمدير جريدة المساء المغريبة.

محمد أبو الوفاء الإنسان:

المعروف أن مساحة محمد أبو الوفاء الانسانية، تغطي السماء والأرض ببهاء قلبه الخالص، الطافح بالبيوضة و الأحاسي الجميلة، وهو ما خلصت اليه في علاقتي بالراحل في السنوات القليلة التي جمعتني به، فهو يفرح لكل الأخبار السارة التي يشاطرنا اياها، ويحزن لمايصيبنا من مصائب. ومن انسانيته التي كانت تحضر دائما في مجالستي بالراحل،تعامله مع كل أصناف البشر كيفما كانت طبيعتهم، بنوع من الاهتمام والاعتناء والدعم في أمور شتى، فطوبى لمن يتركوننا أيتاما بدون مديح وثني.

كما أشير لوفاء الراحل، أنه كان بصدد اصدار كتاب خاص، يتضمن المقالات الصحفية والتاريخية التي كتبت حول القصر الكبير، وهو مشروع غالبا مع كان يحدثني عنه في كل لقاءاتنا التي جمعتني به في الأيام القليلة، وأتمنى بهذا الصدد، لو تم تجميع هذا الكتاب مع مقالاته التي كان يود نشرها في كتاب آخر، لنشرهما على النطاق الذي كان يحلم به الراحل.

لكل ماتقدم، يبقى الأستاذ محمد أبو الوفاء، شعلة أضاءت مخيلة مدينة القصرالكبير، بعلمها وثقافتها و انسانيتها، وتكملة لطريق شقه قبله شعراء وأدباء وفنانين من الماضي الجميل، الذين لا نجد لهم ذكرا بالمدينة غير الأشلاء التي يحتفظ بها المتخصصون.

فدعوتي الأخيرة لكل السلطات المسؤولة والمنتخبة، والمهتمين بالشأن الثقافي ، بمحاولة حفظ ذاكرة هاته المدينة ، كما في باقي المدن المغربية، وذلك على الأقل بتسمية بعض الشوارع والأزقة و المدارس والساحات التي يغلب عليها حاليا البعد السياسي الوطني، عن الثقافي المحلي، بأسماء أعلامها من العلماء والمثقفين أمثال:" المرتجي السوسي، محمد الخمار الكوني، عبد السام عامر، قاسم الفيلالي، محمد عفيف العرائشي، محمد أخريف، الشريف العربي العسري، عبد الرحمن بن خليفة، مصطفى الطريبق، نور الدين الدامون، محمد سعيد الريحاني، أحمد الطود، محمد يعلى، عبد الخالق قرمادي..."، وحبذا لو تسمى أحد الأجنحة المدرسية أو المدارس بالمدينة باسم الأستاذ الراحل محمد أبو الوفاء. ولعل بهذا العمل المتواضع، نستطيع القول قليلا بأننا احتفينا بتاريخ وأعلام القصر الكبير.

رحم الله الفقيد وألهم اسرته ومحبيه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى