الاثنين ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
في رواية " بلا دماء "
بقلم محمد سمير عبد السلام

عبث ما بعد الحرب

فى روايته " بلا دماء " ترجمة د. /أماني فوزي حبشي ، ميريت 2004 ينطلق الوعي المبدع للكاتب الإيطالي " أليساندرو باريكو " من قراءة تحريفية خلاقة لتراث الجحيم الشعري ، فى مواجهة الواقع ، وصيرورة الشخوص فيه ، إذ يعيد النظر فى آثار الحروب السياسية الأخيرة ، وفق موضوع مجازى ، أو " نصى " بالأساس ، وهو " الجحيم " بوصفه كوناً للقتل وشلالات الدماء والألم الذى لا يحتمل ، ليؤكد أنه يتمدد عبر صور وأصوات القتلى داخل الذات وخارجها ، فى انعكاسات مرآوية لا متناهية ، من الأصل التصويري الغائب ، يحدث هذا التمدد فى نطاق دائرة عبثية مشتعلة ، بنيران كائنات " رامبو " المتخيلة وغيرها ، فى داخل الشخوص الروائية ، وحواراتهم المسرحية / السردية فأحد أبطال " فصل فى الجحيم " عند " " رامبو " يريد أن يعوى فى الطرقات وأن يرى ثروته ملطخة بالدماء ، ثم ينصرف إلى الهلوسة فيعانق الغيلان والخيول والملائكة
( راجع / فصل فى الجحيم / آرثر رامبو / ت / رمسيس يونان ، دار التنوير ، بيروت 1998 ) إنه إيحاء بالدخول إلى الجحيم وازدواج الممارسة بصوره الكثيفة ولكن هذه الصور والهذيانات ، سوف تأتى من مكان بعيد وداخلي في " ساليناس " كأنما ترده على حلقة نارية أصيلة ، ومستمرة ، بل مقطوعة عن سياقها التاريخي في الرواية . فحدث انتقام " ساليناس " لأخيه من الدكتور " روكا " الذى تخفى مع الأطباء فى زى السجانين وترك المرضى والجرحى فى جحيمهم ، ينفصل كلياً عن دوائر الحرب وأسبابها ونتائجها ، إنه استعادة إحلالية للجحيم فى الواقع بين ذاته والموضوع الخارجى ، وهو الدكتور " روكا " فيشكلان معاً قوس دائرة النار المجازية المستعصية على أى تأويل تاريخي ، وبهذا الصدد يرى " باشلار " أن النار تقع ضمن عناصر الصور ، الأكثر جدلاً ، لأنها تكون ذاتاً وموضوعاً فى آن وقد تذكر أو تؤنث فى الوعي المبدع أما النار الذاتية ، فيكفى أن تشتعل حتى تكدس جمعاً من المتناقضات ، ولذلك فعقد النار شاعرية وعصابية وانقلابية أيضاً ( راجع / باشلار / التحليل النفسى للنار / ت / د/ زينب الخضيرى / شرقيات 2003 ) . هكذا تنبع دائرة التفجر من الراوي / الراصد فى الرواية ، حين تطهره النار برؤية اشتعال الشخوص " ساليناس " و " روكا " و " نيتا " و " آل جوري " وغيرهم ، فى كون من الجحيم ، كأنه المخروط ، انطلاقاً من إحلال عبثي لمفردات هذا الكون محل الأيديولوجيات والدوافع الأرضية للحروب ، فقد تحول " ساليناس " / المنتقم من وجه الفأر وكرهه لحمل الأسلحة ، إلى لاعب ، ثم أحد شياطين الجحيم انطلاقاً من التجسد الموضوعي الصلب لذلك الصوت المتألم ، المقطوع عن صوت أخيه الأصلي في ذاكرته ووعيه ، حتى تمحو النار تاريخه وصوته الخاص وتستبدله بصوت ناء متألم ، ومشتعل يسعى على محو الآخر وتوليد " الصوت نفسه " بداخله ، إمعاناً فى الانتقام والتطهير والمساواة فى ذلك الكون الجديد . يرتد ( روكا ) / الطبيب – إذا – بالتداعي إلى ذاكرته الجمعية المتوحشة التى هرب منها فى زى " سجان " بينما تلاحقه أصوات المرضى فيصرخ مع ساليناس ، بصوت مشابه حينما يفجر الأخير ركبته وتتطاير الدماء . أما الرفيق الأقوى لساليناس وهو " آل جورى " فيعيد تمثيل أو مسرحة قتل زوجته وابنتيه فى جسد ابن ( روكا ) ، فزوجته كانت مشنوقة ومدلاة ، أما انتباه فتلطخت أفخاذهما بالدماء . تستلب هذه الصورة تاريخه وتدفعه إلى وعى ساخر ببرودة القتل العبثية عقب هذه المشاهدة المتكررة للصور ، فينطلق النار ساخراً على ابن ( روكا ) ويمزقه حتى تبرز من المشهد ، عظام الأسنان ، فهى تستعيد ذكرى رأسي ابنتيه المحلوقين وسط الدماء والرماد ، هكذا تنعكس مرآة الجحيم من ذاكرة ( آل جورى ) إلى ( جسد الابن ) بتأثير سحري مراوغ لدائرة النيران ، ذلك التأثير يوحى أيضاً بدلالة التفتيت الضاحك للذات ، إذ يمحو موضوع الدم والعظام هويتها ، فى اتجاه رغبة لا واعية فى التطهير والسقوط المستمر فى الدائرة ذاتها .

أما ( نيتا ) أبنة ( روكا ) فتبلور مفهوماً أنثوياً تأملياً للدائرة الأرضية الوجودية ، فقد خبأها الأب فى حفرة مماثلة لطولها فى أحد المخازن ، وكانت تغنى وتعد النجوم حتى يمر الوقت ، ثم أحبت وجودها على شاكلة القوقعة وكأنها صدفة وحيوان فى وقت واحد . إن القوس الأرضى الحامي هنا يطلق لخيالها الحرية فى معانقة وتوليد " الإيروس " / الحب والحياة وإن أتى ذلك من داخل الجحيم . من هنا تستحيل نيرانه إلى اكتساب أنوثة تقاوم تناقضات الاحتراق ، والتهديد بانتهاء كائنات الجحيم المجازية ، ذلك لأن الإيروس يستطيع الاحتفاظ بذاكرة الجحيم واستعادتها . هكذا ينبني الجزء الثاني من الرواية من خلال استجماع الذاكرة والتاريخ بصورة سردية إكمالية ، فتبدأ نينا بالتعرف على الطفل الذى صاحب ساليناس ورفيقة ، فى حادث القتل ، وقد شاخ لينحرف بتوقعاتها وصورتها المشوهة في ذاتها ، إلى صورة جديدة ، وذاكرة أخرى تستبدل تلك التى قاربت البهوت ، فيذكر أنها كانت ضمن لعبة ورهان بين الصيدلي الذي حماها والكونت الذى راهن ليقتلها ، لأنه يعرف من تكون ، وأولادها الذين أقروا بجنونها ثم ذكرها بصمتها الدائم،فهل هو(صمت) لعودة كائنات الجحيم الأبدية ، وقد أتت للانتقام ؟ أم أنه حدث متولد عن لذة التأمل فى الجحيم ، بوصفه حياة ، يتجسد فيها التطهير واستعادة لحظة الإنقاذ ، والمساواة ؟

إن الاحتفاظ بدوائر الجحيم المؤلمة يشترط بقاء الوعي المدرك ، ذلك الذى ولد فى ( نينا ) وخلقه السارد والطفل الكبير " تيتو " ، لإحداث لذة الكشف ، وانبثاق جنة موعودة فى المتخيل . يمكن استدعاؤها دوماً من خلال الصمت أو عناق الجسدين ، بلا دماء ، وبلا عودة للقبض على الحياة السابقة للجحيم ، ولكنها استعادة مؤجلة للاحتراق الفوري ، وإن كان مضمونه ملحاً فى الوعي واللاوعى وأحلام الجسد أيضاً .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى