الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
قراءة في ديوان

«على ذمة عشتار» للشاعر جواد العقاد

عبد الرحيم حمدان

أهْدَى إليَّ جواد لؤي العقاد أحد طلابي بقسم اللغة العربية بجامعة الأزهر بغزة، مجموعته الشعرية الأولى، التي تعد باكورة نتاجه الشعري.

وبعد فراءتها والتمعن فيها اكتشفت أنه شاعر موهوب، وصوت عذب من الأصوات الشعرية في شعرنا الفلسطيني المعاصر، وقد حملت مجموعته الشعرية عنوان:" على ذمة عشتار".

من يتأمل قصائد الديوان، ويتجول في حناياها، يكتشف أنه أمام شاعر موهوب، يمتلك من أدوات الشعر ما يجعله يشق دربه نحو الإبداع والتفوق، بخاصة إذا ما استمر في التزود بالموروث الشعري العربي: القديم منه والحديث، وتوغل في مكنوناته قراءةً وحفظاً وفهماً.
المتمعن في هذه المجموعة الشعرية، يدرك أنّ الشاعر عمل على تطوير مضامينه الفكرية، وأدواته الفنية بدأبٍ وإخلاص؛ بحسبانها الوسيلة الأولى للمضي على درب الشعر الطويل.
ستقارب هذه القراءة العجلى المجموعة الشعرية الأولى للشاعر جواد التي صدرت سنة 2017 م، عن مكتبة الوسيم ومطبعتها الحديثة بغزة، وهي تمثل نضج تجربة الشاعر الشعرية وتطورها، وتبشِّر بميلاد شاعر موهوب.

تبدأ المقاربة من العنوان، وهو نفسه عنوان القصيدة الاولى في الديوان" على ذمة عشتار"، إذ يعثر القارئ على الثيمة المركزيّة التي يقوم عليها مجمل الديوان، وهي انبعاث الإنسان العربي، وبعث الأمة من الموت ونهوضها من الرماد، فالعنوان يمتاح دلالته من الموروث الأسطوري؛ ليكون أقدر على البوح بتجربة الشاعر ومضامينه المتعددة، فعشتار أسطورة ترمز للبعث والتجدد والحياة والنماء، إلى جانب تردد ثيمات فرعية أخرى مثل: الحب الإنساني، والقلق والخوف، والعملية الإبداعية، والأماني والأحلام. بيد أن الثيمة المركزية هي التي ترددت وتوزّعت على قصائد الديوان جميعها، وتمثلت في ألفاظ الأسطورة بعينها، ودلالاتها الأخرى: الاشتقاقيّة والمعنويّة، بصورة لافتة للنظر، فشكّلت بذلك ملمحًا أسلوبيًّا واضحا، وأسّست حقلًا دلاليًّا ًظاهرًا، ونهضت بوظيفة بنيويّة محدّدة في رؤية الشاعر للعالم من حوله.

يقع الديوان في(88) صفحة من الحجم المتوسط، ويضم بين دفتيه(41) قصيدة من صنع الشاعر باستثناء قصيدة وحيدة للشاعرة رامية الصوص، بعنوان: هي الغيوم ص (52).

تتراوح قصائد الديوان بين الطول والقصر، وتنتمي جميعها إلى نمط شعر التفعيلة.

صدرت هذه المجموعة الشعرية في طبعة أنيقة وجذابة، أما لوحة الغلاف فتنتمي إلى الفن التشكيلي، وهي مهداة من الفنان فايز الحسني.

اشتملت المجموعة الشعرية على إهداء شعري جاء متعدد جهات الإهداء، فشمل كلاً من:

الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والأب والأم، والأخت، وفلسطين، والحبيبة القصيرة.

يقول الشاعر جهاد العقاد في إهداء ديوانه:

إلى الصَّبَّار الذي يتهجد في دمنا
الوطن الذي يسكنني..
أبي..
أمي..
حبيبتي القصيرة ذات الأحلام العالية..

وبالنظر إلى قول الشاعر: "إلى الصبار الذي يتهجد في دمنا"، فالقارئ يلتقيه مأخوذاً من قصيدة رثى فيها الشاعر الفلسطيني المشهور محمود درويش التي يقول فيها:

يا قُبَّرة الجليل خُذْ ماءَك من قلوبنا
وخدرُ جرحنا يصيغ الأوجاعً ناياتٍ
ويتسعُ؛ ليكونَ طوقا لألم البلاد
وللصّبَّار الذي يتهجدُ في دمنا.،

وهذا الإهداء بوصفه عتبة نصية مهمة تبوح بما تتسم به قصائد المجموعة الشعرية من روح إنسانية ووطنية، مفعمة بصدق العاطفة، وتوهج الوجدان يحتوي الديوان على مقدمة نقدية بقلم الكاتبة والروائية الفلسطينية "بشرى أبو شرار" التي ختمتها بقولها: ""إن جواد تَفوَّق على نفسه في ما قدَّم من جمال فكرة، ومعنى رائع" (ص 10)

وقد ألقت هذه المقدمة النقدية أضواء على تجربة الشاعر الفكرية والشعورية، وأبرزت فيها جماليات الفضاء الشعري الذي تمتعت به هذه المجموعة الشعرية؛ فجاءت إضاءة كاشفة لتجليات عناصر الإبداع الفني لدى هذا الشاعر الشاب.

وتضم المجموعة الشعرية قصائد عديدة ومتنوعة في موضوعاتها: الإنسانية الوطنية، والعاطفية الحزينة، والقصائد الأغراض الشعرية العامة: كالرثاء الوطني للشعراء الفلسطينيين، فضلا عن معالجة القضايا القومية، والبوح بهموم الأمة العربية وقضاياها المعاصرة.

بيد أن الرؤية العامة في هذه المجموعة الشعرية بأسرها تتألف من بعدين أساسيين هما: البعد الإنساني، والبعد القومي الوطني، وهما يتماهيان معاً تماهيا عضوياً بارعاً؛ الأمر الذي ضمن لهما درجة عالية من النضج والعمق والتكامل.

وستتم مقاربة نصوص هذه المجموعة الشعرية بمنهج قائم على تحليل النص الأدبي، يتكئ على قاعدة مبنية على ذوق أدبي سليم، وطبع عربي صادق، وحس وجداني صاف.

فالشّاعر في عنوان مجموعته الشعرية كان يتحدث عن عودة الحياة إلى الأمة بعد الممات.. إانها اسطورة البعث والتجدد، العودة إلى المقاومة لتحرير فلسطين بعد عشرات السنين من الاحتلال، فهذه العودة تعادل الحياة بعد الموت أو "البعث".

وقد جاءت حكاية هذه العودة على لسان "عشتار" آلهة الحياة والبعث والتجدد، فالثيمة الأساسية التي تدور حولها القصائد هي البعث والتجدد في حياة الشعب الفلسطيني، وبذلك يعدُّ هذا الديوان أحد تجليات أسطورة "عشتار" في الشعر الفلسطيني المعاصر.

لقد جاءت الأسطورة مرتبطةً بواقع الشاعر جواد الشعوري ارتباطـاً وثيقاً، فهاجسه الرئيس في هذا الديوان، هو الحياة والموت، على الرغم من كونه في مقتبل العمر وميعة الشباب، فهو بعـد أن تجـاوز العشرين من عمره أصبح مسكوناً بهاجس البداية والنهاية أو الولادة والموت، وخير مـا يعبر عن هذا الهاجس هو أسطورة البعث التي تجلّت عنـده بالتّعـالق النـصي بأسطورة "العنقاء" ذات الطابع الفلسطيني، يقول الشاعر مخاطباً الشاعر الفقيد محمود درويش:

أيُّها المُلوَّنُ بالحُب وبنرْجسِ الجليل
مَنْ سيجمعُ شملَ الزعترِ البلديّ.
وينحتُ وطناً على خاصرةِ العنقاء.

فـ "العنقاء" التي ترددت في المجموعة الشعرية في غير موضع ترمز للانبعاث والحياة والبعث من الرماد.

ستكتفي هذه المقاربة بدراسة قصيدة واحدة، وتحليلها تحليلاً فنياً، فقد رثى الشاعرُ جوادُ العقاد شاعرً فلسطين محمودَ درويش، وهو من الشعراء الذين نالوا شهرة واسعة في ميدان الشعر الفلسطيني؛ بوصفه رمزا من رموز الشعر المقاوم. ففي القصيدة التي تحمل عنوان أحد دواوين الشاعر محمود درويش وهو ديوان: "لماذا تركت الحصان وحيدا"؟ يرثي فيها الشاعر محمود درويش، يقول في مطلعها:

أبانا!
ملَّ الجبلُ الخشوعَ
وأنت تتلو تهاجيدك
صاعداً من رمادك نحو الفجر
"لماذا تركتَ الحصانَ وحيدا"!؟
يصهلُ شوقاً ولا لجامَ يمنعُ عنه البكاء.

لم يكن الشاعر في هذه الأسطر معنياً برسم صورة حسية للمرثي؛ وإنما كان مهتماً بإبراز المعالم المعنوية والنفسية له، وكان الشاعر يجنح لانتقاء مفرداته وألفاظه وتراكيبه بعناية؛ لتعبر عن رؤيته ومعانيه بدقة واقتدار. وجعل لهذه اللغة حقلاً دلالياً موحياً بمعانيه مثل: الجبل، الخشوع، الرماد، الفجر، تهاجيد، الحصان، لجام، الشوق. وقد استثمر ما توحي به اسطورة "العنقاء" وزرعها بطريقة غير مباشرة في تعبيراته وتراكيبه التي تحمل معاني البعث من خلال الرماد.

مزج الشاعر في رثائه للشاعر محمود درويش بين البعدين: القومي والوطني موظفاً البعد التاريخي الذي مرت به القضية الفلسطينية، يقول في خاتمة قصيدته:

أبانا!
بيروتُ تُهدِي العواصم
أثواباً سوداء مطرزةً من وجع القدس
وبها رائحةُ الجليل: ترابٌ وهواءٌ وزيتونُ
ترتديها حين يمر اسمُك ويخدشُ الذاكرة
فأصابُ بالشوقِ
وأقولُ: لماذا تركتَ الشعرَ يتيما!؟

يدرك المتلقي قدرة الشاعر على التعالق النصي مع النصوص المستوحاة من نصوص الشعراء الآخرين، فإذا كان محمود درويش قد عاتب أباه في رقة وحنان؛ بسبب تركه الحصان - رمز الدار والوطن- وهاجر الى أرض المنفى تاركاً الحصان وحيداً لا حامي له ولا سند، فإن الشاعر جواد أبدى حزنه الشفيف على مملكة الشعر، وعبر عن أساه وحزنة لفقد الشعر أحد أيقوناته الثمينة، وقاماته السامقة، فغدا الشعر يتيماً بفقده،

لقد اتسعت دائرة الألم والتوجع في الخطاب الشعري السابق؛ الأمر الذي أثري الجانب الدلالي للصياغة، وضاعف من إحساس المتلقي بالحالة الشعورية التي عبر عنها النص، وهذه الطريقة تشي بوضوح بقدرة الشاعر البارعة على الإبداع والتفوق.

يستخلص المتلقي من الأسطر السابقة معالم الرثاء ومقوماته لدى الشاعر جواد، فلا يجد نواحاً أو تفجعاً ولا إثارةً للمشاعر تجاه المرثي، ولا يجد تعداداً لمناقبه التي تنتهي بموت صاحبها؛ وإنما يلتقي تصويراً للصفات المعنوية، وتجسيداً للصفات النفسية في إطار الواقع المعيش المتوتر الذي تنبع من جنباته الحياة والحركة. يقول الشاعر مناجياً الفقيد:

أنتَ حاضرٌ في الغياب
أتخيلُ وجهَكَ القمحي
حين أغطي اللغة بمِعطف البلاغة
وأدرِّبُ قلبي عَلى احْتِرافِ البُكاء
كي تتسعَ أثقابُ النَّاي نبكيك شوقاً
أيُّها الطائرُ الذي يغسلُ وجَهَ السماءِ كلَّ صباحٍٍ

توسل الشاعر في هذه الأسطر أدوات التعبير الفنية، ووسائله المتنوعة؛ لنقل تجربته الشعرية، فقد استثمر لغة شفيفة مترعة بالإيحاء، تحمل طاقات دلالية رحبة، وترسم فضاء شعرياً واسعاً من الدلالات والمعاني، لغة تصويرية، تترع بالمجازات والاستعارات الشعرية مثل: حضور الغياب، الوجه القمحي، الطائر، الناي، يغسل وجه السماء، كل صباح، أغطي اللغة، مِعطف البلاغة، البكاء.

هذه الصور الشعرية لها دور بارز في تجسيد معاني الشاعر وأفكاره، وجعلها واسعة الدلالة، تؤدي دورها في التأثير في المتلقي، وتحقق المشاركة الوجدانية مع الذات الشاعرة.
وتتجلى جماليات الخطاب الشعري في هذه القصيدة في تكرار أسلوب النداء في كلمة " أبانا" التي ترددت في غير موضع من القصيدة، فكانت بذلك لازمة لغوية وإيقاعية غدت بمثابة وسيلة ربط لعناصر التعبير الشعري المتنوعة، فأسهمت في تحقيق مبدأ التماسك النصي في القصيدة، وكانت أيضا نموذجا للتعالق النصي مع قصيدة محمود درويش التي تردد فيها أسلوب النداء "يا أبي" غير مرة، يقول في مطلعها:

إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي..
ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي !
لماذا تركت الحصان وحيداً!؟ ـ
لكي يؤنس البيت، يا ولدي.
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها..

والقصيدة - بعامة- غنية بإيقاعها النغمي المتولد من تكرار تفعيلاتها المتتابعة التي تصطبغ بالحزن والأسى، وبالقوافي المتنوعة التي تجسد تعدد عواطف الشاعر وتنوعها من: أسى وحزن منساب دفين، وألم وفقدان وخسارة.

تتجلّى في القصيدة نّغمة موسيقيّة مكثّفة جاذبة للأذن والعين في آن، تتدفق في انسياب موسيقي عذب.

تمتعت القصيدة - محل الدراسة - بوحدة عضوية ونفسية، إذ تهيمن عليها فكرة واحدة، وإحساس بالحزن والألم الممض. وقد لفت عناصر القصيدة بوشاح شفيف ضم عناصرها الموضوعية والفنية في وحدة متماسكة.

لم يتبق لي في هذه المقاربة إلا أن أهمس في أذن الشاعر الشاب ناصحاً له بأن يتخذ من العناصر الدرامية أدوات بنائية للمعمار الفني لقصائده، وأقصد بها الاتجاه إلى رسم الشخصيات ومعالمها وأبعادها، والصور الكلية، وتبني تقنية الصراع الدرامي، والأخذ بإمكانات عنصري الزمان والمكان الثرة، الحوار الدرامي بنوعيه: الخارجي والداخلي.

إن توظيف مثل هذه التقنيات الدرامية تسهم بحق في تعميق التجربة الشعرية وإغنائها، وتجعلها أكثر رحابة في الفضاء الشعري وأكثر اتساعاً وشمولية.

وأختم مقاربتي النقدية بالإشارة إلى أن الشباب هم أمل المستقبل، وعدة البلاد المنتظرة، والعناية بهم تشجيعاً وتوجيهاً أمر واجب، يتحتم أن يُعهَد إلى الجامعات والمراكز الأدبية الثقافية مهام تنميته وتدريه ومرانه والأخذ بيده؛ لأنها الجهات القادرة على خلق جيل جديد حيٍّ من الشباب الواعد الموهوب في مجالات أدبية عدة: شعراً وروايةً وقصةً ومسرحيةًَ وغيرها من فنون الأدب، بحيث بات يُشار إليها بالتفوق والنجاح في ميدانها الخاص بها، وما زال المتلقون ينتظرون من الشباب المزيد والمزيد.

عبد الرحيم حمدان

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى