الخميس ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

عندما تتفاقم المصائب

كثيرًا ما نرى أن المصائب تتعاظم على الإنسان، فبدلاً من أن يأتي فرج ما فإذا ببليّة جديدة تطلّ وتحُلّ، وكم نلاحظ مثل ذلك ونحن نعاني من السياسة الإسرائيلية، إذ أنهم بدلاً من أن يطفئوا نارًا أوقدوها، فإذا بهم يلقون عليها مواد اشتعالية.

هل اعتاد الشعب الفلسطيني على خوض المنايا؟ وهل يمر مع ذلك بالوحول – كما يصف المتنبي؟

المتنبي اعتاد على تراكم المصائب، وها هو يصف حاله في ذلك:

رماني الدهرُ بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرتُ إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال

إذن فهو محصّن أو مطعّم، فيقول: أصابني الدهر وترادفت على قلبي فجائعه، حتى لم يبق منه موضع إلا أصابه سهم منها، فصار القلب في غلاف من سهام الدهر.

والغشاء وحده كاف أن يصدّ ما يستجدّ من السهام، فلا ينفُذ إلى فؤاده سهم، فالنصال أخذت تقع على النصال، والفؤاد يظل سليمًا بعد هذه الأرزاء المتلاحقة.

ولذا يتابع القول:

وهان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي

يذكر البحتري عددًا من بلاويه:

فقرٌ كفقر الأنبياء وغربة
وصبابة ليس البلاء بواحد

ليس البلاء بواحد، فهنا اجتمع الفقر والغربة والصبابة، والأولان سببان جعلا أبا حيان التوحيدي يحرق مكتبته، فقد وصل به الحال إلى يأس مطلق من عطاء الحكام، ومن جهة أخرى من جهل الناس بكتاباته، فالغربة في الوطن منفى.

نعود إلى المتنبي الذي يرى أن نكد الدنيا حاصل، ومن جملة ذلك أن يكون للإنسان عدو، ويجد هذا الإنسان نفسه مضطرًا لصداقة العدو أو ممالأته، فيقول:

ومن نكّد الدنيا على الحرّ أن يرى
عدوًا له ما من صداقته بدُّ

وفي هذه القصيدة كان يتذمر من أهل زمانه، فقد انقلبت الموازين:

أذم إلى هذا الزمان أهيلَه
فأعلمُهم فَدْمٌ وأحزمهم وغدُ

يقول المتنبي كذلك:

أنكرتُ طارقة الحوادث مرة
ثم اعترفت بها فصارت دَيدَنا

المعنى: أوّل ما طرقني الدّهر بحوادثه أنكرتها، وقلت لم يقصدني، وإنما أخطأ في قصدي، فلما كثرت عندي حوادثه عرفتها، وصارت عادة لي لا أنفكّ عنها، ولا تفارقني، فألفتها.

وكان البحتري قد قال في هذا المعنى:

وآنست من خطوب الدّهر كثرتها
فليس يُرتاع من خطْب إذا طلعا

المتنبي يكثر من الحديث عن بنات الدهر (مصائبه)، فيقول مخاطبًا الحمّى، في معناه الذي بدأت به:

أبنتَ الدهر عندي كلُّ بنت
فكيف وصلتِ انت من الزِّحام؟
جرحتِ مجرَّحًا لم يبقَ فيه
مكانٌ للسيوف ولا السهام

فهو يعترف أن النكبات تتفاقم وتشتد عليه:

أظمتنيَ الدنيا فلما جئتها
مستسقيًا مطرت عليّ مصائبا

يبدو أن المصائب تخلق المواهب، وإلا فما سرّ هذه الشهرة التي حظي بها المتنبي بعد كل رزاياه وطوارق الدهر حتى أمطرت عليه الدنيا مصائب؟

ذكرني ذلك بما قاله نابليون بونابرت:

المصيبة هي القابلة القانونية التي تولّد العبقرية.

تقول العرب في الداهية الدهياء:

هذه "ثالثة الأثافي"- معناه هذه هي التي كمّلت المصيبة أو الداهية.

ورد في (لسان العرب):

قال أبو عبيدة: ثالثة الأثافي القطعة من الجبل يجعل إلى جانبها اثنتان فتكون القطعة متصلة بالجبل.

قال خُفاف بن نُدْبة، وهو شاعر مخضرم:

وإن قصيدة شنعاء مني
إذا حضرت كثالثة الأثافي

وقال أبو سعيد معنى قولهم: "رماه الله بثالثة الأثافي"- أي رماه بالشر كله، فجعله أُثْـفِـيَّة بعد أثفية، حتى إذا رمي بالثالثة لم يترك منها غاية.

والدليل على ذلك قول عَلْقمة :

بل كل قوم وإن عزّوا وإن كرُموا
عريفُهم بأثافي الشرِّ مرجومُ

ألا تراه قد جمعها له؟

مما أذكره في تلاحق المصائب ما ورد في مسرحية شكسبير (هاملت):
|
When sorrows come, they come not single spies But in battalions.

عندما تأتي المصائب، فإنها لا تأتي جواسيس فرادى، بل كالجيش بكتائبه.

ويلتقي بذلك وقول الشاعر:

تأتي المكاره حين تأتي جملةً
وأرى السرور يجيء في الفلتات

مع ذلك، ولكي نعزي من يلاحقهم الدهر دِراكًا نقرأ لهم بيت الشاعر:

قل للذي بصروف الدهر عيّرنا
هل حارب الدهر إلا من له خطر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى