الأحد ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٢١
بقلم نجاة بقاش

عيد ميلادي..

سألني السعيد.. عن تاريخ ميلادي.. فقلت والله لا أدري أي الأيام عيدي.. هي تواريخ عديدة ولدت فيها.. وأخرى كانت تواريخ وفاتي.. صدقني أيها السعيد، لم تعد الأعياد تغريني.. ولم تعد للأمكنة والهدايا نفس المعاني.. كما الأعراس بالضبط، لم تعد تناسبني.. أشياء كثيرة أفتقدها.. تمنيتها.. انتظرتها.. للأسف لم تأت.. وأخرى تغيرت ملامحها حتى نال النسيان مني..مع مرور الوقت.. أدركت قساوة زوال العمر.. أدركت أن السعادة وجدت لإسعاد الغير.. فضلت البقاء لوحدي.. أراقب طلوع الفجر.. لم أجد أوفى منك.. من السماء والبحر.. إذا كانت شمسهم، تشرق وتغيب.. فشمسنا، أبدا عنا لا تغيب.. فقدت أشياء كثيرة.. لكنني لم أفقد أمل اللقاء بك.. خلسة من هناك، كنت أراقبك.. أفرح لفرحك.. أحزن لغيابك.. أسأل السماء أن تحفظ الطفل البريء الذي بداخلك.. ان ينتفض الفيلسوف المشاكس بأعلى صوته ويصرخ.. أكره السجائر التي تدخنك.. والكأس الذي يشربك.. أغضب حينما أراك تائها بين أفكارك.. حاضرا.. غائبا.. متجاهلا.. عنيدا.. يا حارق التبغ رفقا.. أما الفراق فموعده غدا... فترفق لا تعجل بالرحيل.. ينتهي وينقطع عني حبل الإبداع..

هناك تواريخ عديدة.. نولد ونموت فيها.. قد تعني لنا الكثير.. وأخرى قد لا تعني لنا شيئا.. تواريخ تذكرنا بلحظة سعيدة عشناها.. مثل الأمراء.. وأخرى تجعلنا نحزن.. نبكي مثل الأطفال.. حرقة على رحيل الأحباب.. على فقدام لعبة صنعتها الأقدار.. أو تكسير مزهرية غالية الثمن.. تلك كانت قمة الإحساس بالعار..

لا أدري هل أعتمد يوم صرخة أمي.. تاريخ ميلادي؟.. أم تاريخ اعترافه لي بالحب تاريخ ميلادي؟.. صدقني، لست أدري.. هي تواريخ كثيرة ولدت فيها.. وتواريخ كثيرة وقعت شهادة وفاتي.. فإيهما تاريخ ميلادي؟ لست أدري.. دعني أحكي لك قصتي.. حتى تستوعب قصدي.. أنا لم أكن يوما بنت السلطان.. لا طلت يوما عنب اليمن ولا بلح الشام.. أحلامي كانت بسيطة.. لكنها في الأصل عميقة.. كنت أخشى الموت والظلام.. أترك مسافة بيني وبين حاملي السلاح.. يخيفني منظر الدبابات.. وصوت الزلزال.. لا يستوعب عقلي الثنائيات.. ولا يتسع قلبي للأحقاد.. انا بنت السماء.. هادئة كالليل.. هائجة كأمواج البحر.. إذا فرحت.. جعلت الطيور تطير فرحا.. وإذا انتابني الغضب أصبحت كالبركان.. الحب أنا.. الثورة أنا.. النسيم العليل أنا.. الإعصار أنا.. الحرب والسلام انا.. كل التناقضات أنا.. فخذ ما شئت مني أنا يا أنت..

أتذكر حينما كنت صغيرة.. تأخر أبي -أطال الله في عمره- عن تسجيلي في المدرسة.. بسبب انشغاله بأداء واجبه الوطني.. بعد أن ملأت الدنيا صراخا.. وعويلا.. قام جدي لروحه السلام.. بواجبه نحوي.. كم كانت فرحتي كبيرة وأنا أملأ القسم ضجيجا وحبورا.. غناء ورقصا.. فرغم الحضور الوازن للأستاذ.. كنت أحس بأنني ملكة في القسم.. كنت سعيدة جدا وأنا ألبس معطفا أبيضا منقوش عليه اسمي.. باللون الوردي.. لم أجد أدنى صعوبة في التأقلم.. رغم التعثر الذي شاب عملية الالتحاق.. كم كانت دهشتي كبيرة حينما اكتشفت أن لدي اسم ثاني.. غير اسمي الذي أعرفه.. اسم تعريف يربطني بعائلتي.. رددته مآت المرات حتى أحفظه في ذهني.. كما كانت سعادتي لا توصف وأنا أتقمص إحدى شخصيات أميرات ديزني.. اعتقدت حينها، أنها كائنات أتت من السماء.. لتزورني.. بل لتنقذني.. لا يمكن رؤيتها إلا أنها كانت تعيش معي.. لا تفارقني.. آمنت بوجودها.. أكلمها وتكلمني.. أحملها معي في محفظتي.. لم تكن المدرسة مجرد فضاء لتعلم النحو والجبر واللغات.. بل حديقة ألتقي فيها بصديقاتي.. المدرسة كوكب ولدت فيه عدة مرات.. كنت أحزن كلما رنت الأجراس أو أغلقت الأبواب.. معلنة مغادرة الفصل..

أنا لم أندم على الثورة التي أعلنتها ضد أبي.. ولم اندم على إعلان العصيان على أمي.. – أطال الله في عمرهما- فداء للعلم والمعرفة.. والذهاب إلى المدرسة.. لم تنل مني الحلويات اللذيذة التي استعملت لإغرائي.. حتى أعدل عن موقفي.. حتى الدمى السمراء والشقراء.. لم تستطع اقناعي.. كما لم تنل من ظهري، إيقاعات العصا المطاطية.. ولا المحاكمة بالسجن.. صامدة أنا أمام كل هذه البلاوي.. أمام كل الإغراءات والتهديدات التي استعملت في حقي.. تلك كانت مدخلا لمسلسل من المفاوضات.. بل أول معركة أخوضها ضد الفكر الظلامي والإرهاب.. كم كانت فرحتي كبيرة وأنا ألبس الزي الرسمي.. بربطة العنق.. عانقت الحرية.. عفوا عانقت عالم المعرفة.. ما أثار انتباهي أنذاك هو تحية العلم في الصباح.. وصوت قرع الأجراس.. والمعطف الأبيض.. الذي كان يوحد بين التلميذ والأستاذ..

لم تكن المدرسة بالنسبة لي مجرد أقسام وكراسي وطاولات.. بل كانت الملجأ الوحيد لي.. تأشيرة نحو الاعتراف بكياني.. فرصة لنسج صداقات.. أرسم على جدرانها أحلامي.. أكتب عبارات بالكاد أفهم معناها.. اكتب أسماء أساتذتي وصديقاتي.. حتى لا تخونني ذاكرتي.. خلال كل موسم مدرسي، تفقد المدرسة إحدى تلميذاتها بسبب الزواج المبكر أو الهجرة نحو الضفة الشمالية.. كم كان ألمي كبيرا وأنا طفلة صغيرة.. لم أجد مبررا مقنعا لكل هذه القسوة.. التي تجعلني أفقد أعز صديقة.. سكنتني الرغبة في الرحيل.. علي ألتقي بهن يوما.. حتى نتمم ما كنا قد بدأناه.. الهجرة كما الزواج.. مناسبات للاحتفال.. أما بالنسبة لي، فكنت أتألم من شدة الفراق.. عشته حرمانا وخسارة.. اعتبرته غضبة من السماء.. ما أصعب فراق الأحبة بدون عناق.. بدون ترك جواب أو رسالة أو عنوان..

لم تكن التمارين المدرسية واجبا بالنسبة لي فحسب.. بل هواية ومتعة.. حصلت على أعلى المعدلات.. أدركت مبكرا ان العلم نور والجهل عار.. وان التحصيل المعرفي.. هو الوسيلة الوحيدة للانعتاق.. للسفر بعيدا.. بحثا عن الحقيقة..

شهادة الباكلوريا كانت من أهم المحطات في حياتي.. بل كانت أهم يوم لميلادي..
سألني السعيد ما تاريخ ميلادي.. قلت والله لا أدري أيهما عيدي.. هل أعتمد يوم صرخة أمي.. ميلادي.. أم لقائي به تاريخ ميلادي.. صدقني، اختلطت الأمور عندي.. هي تواريخ كثيرة ولدت فيها.. وتواريخ أخرى مت أنا فيها.. أيهما تاريخ ميلادي؟ لست أدري؟..

ما أقساك يا زمن الوصل.. أبكيك حرقة، لم تعد كالأمس.. بالأمس كان العيد عيدي.. واليوم أصبح الاحتفال بالآخرين شعاري.. في طريق الرحلة.. إلتقيت بأشقياء مثلي.. ولم ألتق برفيقات الدرب.. هناك من استسلم للأقدار.. تاركا كلماته فوق الخرائب.. تاركا خلفه كل الأحلام.. لم تكن المهمة سهلة بكل اختصار.. فرصة كذلك لألتقي بأصحاب الفخامة.. بشخصيات أميرية ظننت أنها لا توجد إلا في محفظتي.. في مخيلتي وأنا طفلة صغيرة.. انتابني شعور بالغربة وأنا في العاصمة.. لم أجد فيها ما جئت من أجله قاصدة.. وجدت أوجها عابسة.. تركب سيارات فاخرة.. تغيب السعادة عن وجهها رغم الأبراج والمنازل الشامخة.. رغم الإدارات والوزارات.. رغم الكليات والجامعات.. متسولون هنا وهناك.. نظرا لتشابه الوضعيات أجد نفسي مستعينة بالاقتباس.. تطلب مني يا حجاج أن أكتب النثر والأشعار.. أن أتجول منتصبة مثل الفرسان.. وانا ممنوعة ليلا من التجوال.. وقلمي مسيج منذ أعوام.. مقيدة أنا بالرمزية.. كي أفلت من الأصفاد.. كيف لي أن أكتب يا حجاج.. والسيف مازال فوق الرقاب..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى