السبت ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

عُجالة

دائماً تكون من أمرها على عجل، زياراتها مستعجَلة ومجتزَأة ومقتَطعة، حتى أحاديثها مبتورة، لا تسمح لك في عجالتها أن تجيب على أسئلتها، وكأنها تسألك فقط لمجرّد الكلام ولا تريد أجوبة.

ولا تفسح لك مجالاً لتبرّر شطط أقوالك أو شذوذ مواقفك، فهي غير مهتمّة بتبريراتك، أصلاً إن تحدّثتَ إليها فلا تكون معك، وإن أبدت لك بعضاً من اهتمامٍ ظاهريّ أو أظهرت ميلاً للإنصات إلى ما تقول.

عرفتُها هكذا مستعجِلة، وكأنّ أحداً ما يلحق بها أو تريد اللّحاق بأحد، وحتى مشيتها ووقع خطواتها يوحيان إليك بأنها هاربة، ولا تعرف سبب هروبها أو تهرّبها..هاربة إلى الأمام ممّا قد يأتيها أو يتأتّى عليها من الخلف، مع أنها تهرب ولا تنظر خلفها..هاربة من كلّ الاتجاهات، حتى غدت بلا اتجاه ولا وجهة.

قلت لها:

 كم أشتهي لو تعطيني مزيداً من الوقت معك.

قلتها وأعرف أنها لن تجيب إلا بنظراتٍ لا معنى لها، لأنّها أثناء ذلك تكون قد لملمت نفسها وبدأت بالخروج من عتباتي.

قالت لي مرّة، وهي نادراً ما تقول وتستفيض:

 المدفعية تقصفني من بعيد بشكل مستمرّ، وأسمع صفير القنابل وهي تتهاوى من عليائها فأغيّر مكاني فوراً كي لا تصيبني..صفير القنابل المتهاوية لا يفارقني، فألتجئ في الحفرة التي صنعتها القنبلة، لأنّ القذيفة التالية نادراً ما تعاود الوقوع بنفس الحفرة..اهرب معي بلا وجهة..أراك لا تهرب وتلزم مكانك وكأني بك غير مقصوفٍ مثلي؟

 أنا ألتزم قلة الحركة لأني واقع في حقل ألغامٍ مخفية ومموّهة بعناية، فلا أتحرّك إلا لماماً، وكل خطوة أو كلمة أو رأي أو موقف أتجاوز فيها حدودي أظنّ أن لغماً ما سينفجر وتكون نهايتي.

تعلّمتُ من علاقتي المديدة معها أن أكمل أحاديثي لوحدي بدونها، فأستحضر خيالها الشهيّ وصورتها الخصبة، وأصيح بها وأبكّتها وأعاقبها وقد أثبّتها في مقعدها وأقيّدها فلا تهرب..عندها أقول لها ما يشفي غليلي.. عندها سأثبت لها بأننا لا يمكننا الهروب من قدرنا المكتوب على الجبين.

ثم تعلّمت من علاقتي المديدة معها أن أختصر وأقتضب جُمَلي، ثم تعلّمت أن أجيب بنعم فقط ولا فقط، ثم تعلّمت بألا أجيب على أسئلتها إذ لا تنتظر أجوبة، ثم تعلّمت أن أنظر إليها وتنظر إليّ فقط نتبادل النظرات السريعة، ثم تعلّمت أن أخجل من عيونها فلا أدقّق النظر بل أستعدّ للهروب حتى من عيونها..أصبحنا هاربان معاً.. من بعضنا..من وقتنا..من اللاشيء الذي يلحقنا!

حتى المصافحة اليدوية، تسحب يدها من يدك قبل أن تقبض على راحتها، أو تحتضن أصابعها، لا تسمح للتّماس اليدوي أن ينقل الشحنات المتبادلة، وكأنّ التماس هو نوع من المَساس بها، لذا تنزلق يدها المتعرّقة الباردة منكمشة إلى قوقعتها كرأس السلحفاة.

فعلاً، تجمع النقيضين المشهورين في شخصيّتها، الأرنب بسرعته وتقافزه، والسلحفاة بانكماشها ووجلها. الأرنب ببياضه ووداعته وطراوة حواشيه وعجالته والسلحفاة الخجولة بقساوة قوقعتها لو لمستها!

والاثنان السابق ذكرهما لا يؤذيانك ولو حاولت إيذاءهما..يدافعان عن نفسيهما بالهروب والهروب فقط.

 صار عندي الكثير الكثير لأقوله لكِ..فمتى ستعطيني من وقتك ما يشبعني أو يرويني؟

يا صفحة الماء الجارية بعجالة..متى تسمحين أن أعبّ من قطراتك المتسارعة؟

أيضاً قلتها وما كنت أنتظر جواباً.

لا أخفيكم، أنني صرت أستسيغ عُجالتها التي تبقي المجاهيل مجهولة، فالسين تبقى سيناً في معادلاتها التي لا حلّ لها، لأنها تحتمل الكثير من الاحتمالات. وأخيراً صرت أقلّدها كمن يتبنّى سياستها وأرى ما يفعله الآخرون معي من دردشات فارغة مضيعة للوقت، وثرثرة بلا طائل.

ما أجملها عندما تقول لي كيف حالك؟!

ولا أجيب..لأنني عندما سأجيب سأكذب عندما أقول إني بخير..الحقيقة يا قوم أنني لست بخير، وينقصني الكثير، ولا يعجبني شيء ممّا يحيط بي بدءاً من أقرب المقرّبين وصولاً إلى رأس الهرم..ولكني راضٍ قانع خانع كالسحفاة الذليلة، وهارب خائف مرتعد من المجهول كالأرنب.

لذلك تعلّموا منها، ولا تسألوني كيف حالك ؟..لأنّ حالتي ـ والله ـ مزرية.

ولا تسألوني كيف صحتك ؟..لأن صحتي من سيء إلى أسوأ.

ولا تسألوني أين أصبحت ؟..لأني أصبحت في الحضيض.

فعلاً لا تنتظروا أجوبة مني، فلن أقوى على قول الحقيقة!

لن أقدر على البوح بما في نفسي الأمّارة بالسوء..وسأهرب على عجل كمعلّمتي في الاستعجال والهروب وعدم المواجهة. سأدفن رأسي أولاً كالسلحفاة تحت قوقعتي ثم سأهرب متقافزاً كالأرنب الجبان.

فعلاً لا أستطيع قول الحقيقة الجارحة للآخرين الذين أتبادل معهم الابتسامات وهي في الحقيقة طعنات متبادلة. والمصافحة التي تهزّ يدي مطوّلاً أحسّ فعلاً بأنها ممسكة بخناقي، أما العيون التي تلتقي بعيوني فأحسّ من سهامها بما يجرحني وقد يقتلني.

صرت مثلكِ يا صديقتي مستعجلاً عند لقائي بالقوم، فلا يسخن مقعدٌ لي إن جلست، ولا يطول حوارٌ إن تكلّمت، ولا نميمة، ولا اغتياب، ولا نفاق مع أحد.. ما أجمل عجالتك يا صديقتي!

وكنت لا أزال مصرّاً على مطالبتها بمزيد من الوقت لأعبّر لها عمّا في نفسي، وكنت أريد أن تسمح لي بمغازلتها مثلاً بكلمات محضّرة مسبقاً، وكنت أريد أن ألعب معها لعبة الهمس واللمس والتطاول التدريجي، وسياسة الخطوة خطوة، كأيّ عاشق يريد أن يروّض فرسة حرون..ولكنها كانت تهرب وتهرب.

كنت أريد أن أعرف رأيها فيّ على الأقل، بمعنى هل أستمرّ في ملاحقتها أم أنه لا نصيب لي معها ؟..كنت أريد أن أعرف كأيّ رجل، هل أنا الوحيد في حياتها، أم واحد ممّن تتهرّب منهم؟

أحببتها هكذا، مستعجلة عجولة، متخفّية خلف أسوار من الوقت الضيق الذي يبقيها مجهولة لا تفضحها الكلمات.

جاءت إليّ ذات يوم بدون ميعاد، دخلت وأغلقت بابي خلفها، لاهثةً من درج منزلي العالي الذي تقافزته، تعلّمْتُ ألا أسألها عن حالها ولا تسألني عن حالي، لأننا بتنا واثقَين أننا واقعان في مستنقع من الوحل وحالتنا يُرثى لها وما من جديد.

شربَتْ جرعة من كأس ماء موجودٍ على طاولتي منذ البارحة، ورشفت ثمالة من فنجان قهوة باردة..نفرت دمعة من عينها..حتى دموعها مستعجلة تفور وتسيل فتبلل فوراً وجنتيها وذقنها..ورغم دهشتي لم أنبس ببنت شفة لأني تعلّمت منها فنّ الصمت الذي يُغني عن الكثير من الكلام.

قالت:

 لن أهرب منك اليوم، فأنا هاربة اليوم إليك.

هل جرّبت الحبّ على عجل عزيزي القارئ؟..إنّ الحبّ العجول يكون صامتاً عادة وبلا مقدّمات أو توطئات مملّة، إنه شبيه بعاشق يسرق معشوقته إلى سطح العمارة النائمة، مستعجلان إذ أن الوقت لا يرحم، ويستلذّان بدقائق الثواني التي استقطعاها خفية عن الجفون النائمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى