السبت ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

فلسفةُ المعارضةِ في فكرِ ميخائيل نعيمة

مقدّمة

في هذهِ المقالةِ أقفُ على مفهومِ المعارضةِ لغةً واصطلاحاً، وأعرضُ لبعضِ الأقوالِ المأثورةِ الّتي لها أثرٌ كبيرٌ في تعميقِ مفهومِ المعارضةِ، ومن ثمَّ أبحرُ في فكرِ ميخائيلَ نعيمةَ؛ لأستنْضحَ مفهومَ المعارضةِ عندَه، وكيف استطاعَ أن يوظِّفَ الحكمةَ وفلسفةَ الحياةِ وجوهرَ الشَّريعةِ الإلهيّةِ السَّمحةِ القائمةِ على خلقِ المتناقضاتِ الّتي لا تستقيمُ الحياةُ إلّا بوجودِها، فلولا الظّلامُ لمَا كانَ النُّورُ، ولولا الكُفرُ لمَا كان الإيمانُ، ولولا الجهلُ لما كان العلمُ.. إلى أخرِ ما لا يُعدُّ ولا يُحْصى من هذهِ التَّناقضاتِ الّتي تبيِّنُ حكمةَ الخلقِ في الكونِ والطَّبيعةِ والمخلوقاتِ.

تعريفُ المعارضةِ:

الْمُعَارَضَةُ (في اللّغةِ): الاحْتِجَاجُ، الْمُخَالَفَةُ، الْمُمَانَعَةُ.

الْمُعَارَضَةُ اصطِلاحاً (في السِّيَاسِيَّة): انْتِقَادُ حِزْبٍ مِنَ الأَحْزَابِ أَوْ فِئَةٍ بَرْلَمَانِيَّةٍ لِأَعْمَالِ الحُكُومَةِ وَالتَّصَدِّي لَهَا بِإِظْهَارِ عُيُوبِهَا.

المُعارَضَةُ: (في القضاءِ): طريقةُ الطَّعنِ في الحكْمِ الغيابيِّ.

المُعارَضَةُ في (الأدبِ): محاكاةُ قصيدةٍ لأخْرى موضوعاً ووزْناً وقافيةً.

أقوالٌ لها أثرٌ:

المعارضةُ في الإسلامِ ليسَت حقَّاً فقطْ، ولكنَّها واجبٌ و تكليفٌ شرعيٌّ أيضاً! فهْمي هُويدي
المحافظةُ على حقِّ المعارضةِ في الكلامِ واجبٌ وطنيٌّ. ونستون تشرشل الشّخصيَّاتُ العظيمةُ كثيراً ما واجهَتِ المعارضةَ العنيفةَ من قبلِ أصحابِ العقولِ الضَّعيفةِ. ألبرت أينشتاين يتركُ اللهُ لضميرِنا اختيارَ الطّريقِ الّذي نقرّرُ اتّباعَه، وحرّيّةَ الاستسلامِ لهَذا أو ذاكَ من التّأثيراتِ المتعارضةِ الّتي تؤثِّرُ عليْنا. آلان كارديك نحتاجُ إلى معارضةٍ لتذكيرِنا إذا كنَّا نرتكبُ أخطاءً. عندَما لا تُعارضُ، تَعتقدُ أنَّ كلَّ ما تفعلُهُ صحيحٌ. مهاتير محمّد لأنّ معارضةَ الشَّيطانِ الخبيثةَ مستمرّةٌ، فإنّ الإرشادَ المُستنيرَ المستمرَّ للرّوحِ القدُسِ ضروريٌّ للغايةِ. كيث ك.هيلبيج
ولكيْ يوضّحَ لنا ميخائيلُ نعيمةَ مفهومَ المعارضةِ، فإنّه يبدأُ بتوظيفِ الحكمةِ الّتي يُلقيها على لسانِ لقمانَ الحكيمِ وهو يعِظُ ابنَه الّذي تولّى الحكمَ في جزائرِ واقِ الواقِ، من خلالِ ثلاثِ نصائحَ جوهريّةٍ وأساسيّةٍ في نظامِ الحكمِ تصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، لكنّه يركّزُ على النَّصيحةِ الأخيرةِ، وهي رحابةُ الصَّدرِ معَ المعارضةِ الّتي بدونِها لا يقومُ حكمٌ سليمٌ من العللِ والأمراضِ الّتي تتربّصُ به وتُنذرُه بالسُّقوطِ والانهيارِ:

"يا بنيّ! ثلاثٌ لا يستقيمُ معَها حكمُ الحاكمِ: أنْ يُحبّ الحكمَ فوقَ حبِّه للمحكومِ. وأنْ يُخضِعَ العدلَ للقانونِ. وأن يضيقَ صدرُه بمعارضِيه. والأخيرةُ هي الأهمُّ.

وثلاثٌ لا يستقیمُ بدونِها حكمُ الحاكمِ: أنْ يُحبَّ المحكومَ فوق حبِّه للحكمِ. وأن يُخضعَ القانونَ للعدلِ. وأن يتّسعَ صدرُه لمعارضِيه. والأخيرةُ هي الأهمُّ."

ويُبيّنُ نعيمةُ أهمّيّةَ النَّصائحِ الثَّلاثِ؛ إلّا أنّ أهمَّها هو رحابةُ الصَّدرِ مع كلِّ معارضةٍ؛ لأنّ ضيقَ الصَّدرِ بها يضعُ الحاكمَ - مهْما بلغَ من القوّةِ والسَّطوةِ - في مهبِّ الرّيحِ؛ وذلكَ لأنّ الحكمَ دونَ معارضةٍ لا يستقيمُ ولا يسلَمُ من الاعوِجاجِ، وحذارِ من القضاءِ على المعارضةِ؛ لأنّ ذلكَ فوقَ طاقةِ الإنسانِ، والحاكمُ دونَ معارضةٍ أشبهُ بالجوادِ دونَ لجامٍ وبالمركبِ من غيرِ شراعٍ:

"لئِنْ اكتملَتْ لكَ كلُّ الصّفاتِ الحميدةِ، يا بنيَّ، إلّا رحابةُ الصَّدرِ، بقيتَ ريشةً في مهبِّ الرّيحِ وألعوبةً في أيديْ محكوميكَ. ورحابةُ الصّدرِ تعْني الصّبرَ الجميلَ على المعارضةِ من أيّ نوعٍ كانتْ ومن أيّما مصدرٍ جاءَت، كيْما يُتاحَ لكَ أن تُقوّمَ اعوجاجَك أو أن تُقوّمَ اعوجاجَها إذا كانتْ معوجَّةً وكنتَ مستقيماً. أمّا أنْ تُحاولَ القضاءَ على كلِّ معارضةٍ فأمرٌ أُعيذُكَ منهُ، يا بنيَّ، لأنّه فوقَ طاقتِك وطاقةِ أيِّ إنسانٍ. ومن ثمّ فأنتَ بغيرِ معارضةٍ جوادٌ بغيرِ لجامٍ و مرکبٌ بغيرِ شراعٍ."

ثمَّ يقدّمُ نعيمةُ الدّلائلَ على حتميَّةِ وجودِ المعارضةِ من خلالِ النّصائحِ الّتي يعظُ بها لقمانُ ابنَه كي ينتهِجَها انتِهاجاً ودستوراً لاستمرارِ حكمِه، ففي الكونِ أمثلةٌ ناصعةٌ على وجودِ النَّقائضِ الّتي قضتْ حكمةُ الخالقِ بوجودِها لاستمرارِ الحياةِ، وهذهِ النَّقائضُ قد لا يُدركُها الإنسانُ بعقلِه، لكنَّه لا بدَّ أن يُدركَها بقلبِه:

"ألَا فاعلمْ، یا بنيَّ أنّ لكلِّ ما في الكونِ معارضاً أو نقيضاً. بذا قضَتِ الحكمةُ الّتي لن تُدركْها بعقلِك وقد تدرکُها يوماً بقلبِك. فحياةٌ وموتٌ، ونورٌ وظلمةٌ، وحرارةٌ وبرودةٌ، وحركةٌ وسكونٌ، وجذبٌ ودفعٌ، ورجاءٌ ويأسٌ، وإيمانٌ وشكٌّ، وفرحٌ وحزنٌ، إلى آخرِ ما هنالكَ من متناقضاتٍ لا تقعُ تحتَ حصرٍ."

ويسوقُ نعيمةُ الدّلائلَ والبراهينَ على حتميّةِ وأهميّةِ المعارضةِ في الحياةِ؛ لأنّ الدُّنيا دونَ معارضةٍ خواءٌ من كلِّ حركةٍ أو حياةٍ، فهيَ حجرُ الزّاويةِ، ومحورُ الدّائرةِ، ونقطةُ الانطلاقِ في الكونِ والحياةِ، والأمثلةُ على ذلكَ أكثرُ من أنْ تعدَّ أوتُحصى في مجرَّاتِ الكواكبِ والبحارِ والأجواءِ، والإنسانُ أيّاً كان حاكماً أو محكوماً يجبُ عليهِ أن يتحلّى برحابةِ الصّدرِ مع معارضِيه وأن يتقبَّلَهم بالشُّكرِ والفرحِ؛ لأنّ الإنسانَ لولا تلكَ المعارضةُ التوَتْ سبلُه وشُلّتْ إرادتُه وطاشَت سهامُه:

"وأنتَ لو سلكْتَ إلى غايتِك من حياتِكَ مسالكَ الكواكبِ في أبراجِها، أو مسالكَ الحيتانِ في أعماقِها، أو مسالكَ النّسورِ في أجوائِها، لما نجوْتَ من المعارضينَ لإرادتِك وغايتِك. لذلكَ فأحوجُ ما تحتاجُ إليهِ في حياتِك، سواءٌ أكنتَ حاكماً أم محکوماً، هو صدْرٌ لا يضيقُ بمعارضةِ المُعارضينَ..".

وتبلغُ الحجَّةُ ذروةَ قوَّتِها في أهمّيّةِ وجودِ المعارضةِ في الحياةِ، فيسوقُ نعيمةُ من الموروثِ الدّينيّ البرهانَ من قصّةِ أبويّ البشريّةِ آدمَ وحوّاءَ حينَما خرجَا على إرادةِ خالقِهما بامتثالِهما لإرادةِ الحيّةِ الّتي خلقَ منْها اللهُ عزَّ وجلَّ معارضاً لإرادتِه كي يَخرجَ بآدمَ وحوّاءَ من غفلتِهما المستسلِمةِ إلى يقظتِهما المتحَفِّزةِ ومن اللّا إرادةِ إلى الإرادةِ، فقد شاءَ اللهُ، لحِكمةٍ نجهلُها اليومَ، ولكنّنا لن نجهلَها إلى الأبدِ، أن يُقيمَ بمشيئتِه معارضاً لمشيئتِه. ولولا ذلكَ لما خلقَ الحيّةَ:

"وإنّك لواجدٌ أبلغَ مثالٍ على صحّة ما أقولُ في حكاية جَدّيكَ آدمَ وحوّاءَ وخروجِهما على إرادةِ خالقِهما بامتثالِهما لإرادةِ الحيّةِ. فكأنّ اللهَ الّذي خلقَ تلكَ الحيّةَ خلقَ فيها معارضاً لإرادتِه كيْما يَخرجَ بآدمَ وحوّاءَ من الغفلةِ المستسلِمةِ إلى اليقظةِ المتحفّزةِ، ومن اللّا إرادةِ إلى الإرادةِ".

ويُؤكّدُ نعيمةُ أنّ المعارضةَ جزءٌ من نظامِ الخالقِ الشّاملِ، فخلقَ الحيَّةَ كمعارضٍ لمشيئتِه، ولولا هذهِ الحكمةُ لقضَى على الحيّةِ حالمَا عارضَتْه، ولمَحَا آدمَ وحوّاءَ من سجلِّ الحياةِ فورَ خروجِهما على مشيئتِه، لكنَّه لم يفعلْ شيئاً من ذلكَ، واكتفَى بلعنِ الحيَّةِ وإخراجِ آدمَ وحوّاءَ من جنَّتِه، وبالتَّالي من غيبوبةٍ لا مُعارِضةٍ إلى استفاقةٍ كلُّ ما فيها معارضةٌ، وهي الطّريقُ الأوحدُ إلى المعرفةِ والحياةِ والحرّيّةِ:

"ولو أنّ المعارضةَ ما كانتْ بعضاً من نظامِه الشّامل لقضَى على الحيّة حالما عارضتْه. ولمَحَا آدمَ وحواءَ من سجلِّ الحياة فورَ خروجِهما على مشيئتِه. إلّا أنّهُ ما فعلَ شيئاً من ذلكَ. واكتفَى بأنْ لعنَ الحيّةَ وبأن أخرجَ آدمَ وحوّاءَ من جنّةِ عدْنٍ. أيّ من غيبوبةٍ لا معارضةَ فيْها إلى استفاقةٍ كلُّ ما فيها معارضةٌ".

فاللهُ سبحانَه وتعَالى قد خلقَ لمشيئتِه معارضينَ، فلم يكمَّ أفواهَهم، ولم يردَّهم بالقوّةِ، ولم يزجَّ بهم في السُّجونِ، كما تفعلُ الأنظمةُ القمعيّةُ الّتي لا تقبلُ معارضاً لها ولو كانَ من عالمِ الملائكةِ، فتكمُّ الأفواهَ، وتستخدمُ كلَّ أنواعِ القوّةِ للتَّخلُّصِ من معارضِيها وتدكُّهم في زنزاناتٍ منفردةٍ، وتدفنُهم في قبورٍ جماعيّةٍ، وتهدمُ مدنَهم وقراهُم، وتأتي بجيوشِ العالمِ لحمايةِ عروشِهم، والتُّهمةُ جاهزةٌ لكلِّ مَن تسوِّلُ له نفسُه التّفكيرَ في الاعتِراضِ، وهيَ العمالةُ والخيانةُ العُظمى للوطنِ والمساسُ بهيبةِ الدّولةِ عظّمَ اللهُ شأنَها، فشتّانَ بينَ حكمةِ اللهِ في خلقِ معارضِيه وبينَ عنجهيّةِ أنظمةِ الأرضِ في قمعِ أيِّ صوتٍ معارضٍ لها:

"لقد كان اللهُ، وهو القديرُ على كلِّ شيءٍ، رحبَ الصّدرِ إلى حدِّ أنّه خلقَ من ذاتِه معارضينَ لذاتِه. فما كمَّ أفواهَهم إذْ عارضُوه. ولا ردّهُم عن المعارضةِ بالقوّةِ. ولا زجَّ بهم في السُّجونِ. ولا محقَ آثارَهم من الأرضِ. بل، على العكسِ من ذلكَ، أبقَى على حياتِهم وأطلقَ لهم الحريّةَ في عالمٍ يُعارضُ بعضُه بعضاً بغيرِ انقطاعٍ. لعلّهم - في آخرِ الدّهرِ- ينتهُونَ من المعارضةِ والمُشاكسةِ إلى التّفاهمِ والتّآلفِ. ثمّ إلى المعرفةِ الّتي لا يفوتُها علْمُ شيءٍ. ثمّ إلى القدرةِ الّتي لا تُعاندُها قدرةٌ. ثمّ إلى الحريّةِ الّتي لا يَحدُّها حدٌّ".

ويختتمُ نعيمةُ رسالتَهُ بمجموعةِ نصائحَ يوجِّهُها لقمانُ لابنِه ولا سيَما أنّه مازالَ بعيداً عن المعرفةِ الّتي لا يفوتُها علمُ شيءٍ، وعن القدرةِ الّتي لا تُعاندُها قدرةٌ، وعن الحريّةِ الّتي لا يحدُّها حدٌّ، فيوجّهُ إليهِ عدداً من النَّصائحِ بصيغةِ تحذيراتِ خبيرٍ بشؤونِ الحياةِ والنّاسِ:

أولاً- تحذيرُه من ضيقِ الصّدرِ بمعارضيهِ أو منافسِيه:

"فحذارِ أن يضيقَ صدرُك بمعارضةِ معارضٍ، أو بمنافسةِ منافسٍ. فأنتَ كلّما تبرّمْتَ بمعارضيكَ ومنافسيكَ شدَدْتَ أزْرَهم عليكَ، وشحذْتَ سلاحَهم ضدّكَ، وربطتَ حبلاً بعنقِكَ ثمّ سلّمتَهم طرفَ الحبلِ فاقتادُوك إلى حيثُ يُريدونَ لا إلى حيثُ تُريدُ. وحادُوا بكَ عن جادّةِ الصّوابِ إلى جادّةِ الضّلالِ".

ثانياً- تحذيرُه من ازدراءِ النَّاسِ:

"فقد يستنسرُ البغاثُ، وقد تستأسدُ الثّعالبُ. والبغاثُ إذا استنسرَ، كانَ أحدَّ مخلبأ وأقوَى مَنسراً من النّسور.

والثّعالبُ إذا استأسدَت كانتْ أشدَّ بأساً وأفظعَ بطشاً من الأسودِ. وأنتَ في الواقعِ لا تعرفُ أيُّ الناسِ هم البغاثُ والثّعالبُ وأيُّهم النّسورُ والأسودُ. لذلكَ أوصيكَ برحابةِ الصّدرِ تجاهَ الأقوياءِ والضّعفاءِ بالسّواء".

ثالثاً- تحذيرُه من المادحينَ قبلَ القادِحينَ وغيرِهم:

واحذرْ، يا بنيَّ، الّذينَ يُغالون في مدحِك قبلَ أن تحذرَ الّذينَ يُغالون في قدحِكَ. واحذرْ أكثرَ من المادحينَ والقادحينَ أولئكَ الّذينَ لا يَمدحُون ولا يَقدحُون. فسلاحُهم أمْضى من سلاحِكَ لأنّ صدورَهم أرحبُ من صدرِكَ".
رابعاً- تحذيرُه من حكمِ النّاسِ بالقانونِ:

"ذلكَ هو الظّلمُ بعينِه. فالقانونُ طوقٌ واحدٌ لرقابٍ عديدةٍ متفاوتةِ الحجمِ والقوّةِ. فرقبةُ الثّورِ غيرُ رقبةِ النّملةِ. ورقبةُ الخنزيرِ غيرُ رقبةِ الحمامةِ. ورقبةُ الحوتِ غيرُ رقبةِ البرغشةِ. وحبسُكَ الخُلْدَ والهَزارَ في ظلماتِ الأرضِ هو خيرُ الثّوابِ للخُلدِ وأقسَى العِقابِ للهَزارِ. وحجبُكَ نورَ النّهارِ عن البومةِ مِنّةٌ. أمّا حجبُكَ إيّاهُ عن النّحلةِ فجريمةٌ".

خامساً- تحذيرُه من ظلمِ القانونِ وعواقبِه:

"ثمّ لا يغرنّكَ، يا بنيّ، أنّ القانونَ في يدكَ يخوّلكَ سلبَ الحياةِ والرّزقِ والحريّةِ. بل عليكَ إذا شئتَ أن تعدلَ أن تعرضَ الحبلَ على عنقِكَ قبلَ أن ترسلَ أحداً إلى المشنقةِ. وقبل أن تزجّ بمخلوقٍ في السّجنِ أن ترسلَ قلبكَ إلى السِّجنِ. وقبل أنْ تسلبَ إنساناً رزقَه أن تتخلَّى عن كلِّ ما لديكَ من أرزاقٍ. فإذا استطعتَ ذلك ثمّ حكمتَ على غيرِك بالشّنقِ، أو بالسّجنِ، أو بتجريدِه من ممتلكاتِه، كنتَ عادلاً في حكمِكَ وإنْ خالفتَ القانونَ".

وبعدَ التَّحذيراتِ تأتي التّذكيراتُ الّتي قد يغفلُ عنْها الحاكمُ في حكمِه، فلا بدَّ من الوقوفِ عندَها وقفةَ تأمُّلٍ وأخذٍ للمواعظِ والعبرِ، منْها:

أولاً- تذكيرُه بأنّ الحكمَ سيفٌ ذو حدّينِ.

"فحدٌّ للمحكومِ، وحدٌّ للحاكمِ. فإنْ شئتَ ألّا يرتدَّ السّيفُ إلى صدرِك حذارِ أن تردَّه إلى صدرِ غيرِك".
ثانياً- الخصامُ دليلُ ضيقِ الصّدرِ:

"ما اختصم اثنان، يا بنيّ، في أمر من الأمور إلا لأنّ صدرَ كليهما ضاق بمعارضةِ الآخر. ومن ضاق صدرُه بالمعارضةِ ضاق بالحياة التي لا تقوم بغيرِ المعارضة. ومَن ضاقَ صدرُه بالحياة فما نفعُه من تجاريبِ الحياة؟ إنّه لعبءٌ على الحياة والموت معاً".

ثالثاً- تعلُّمُ رحابةِ الصّدرِ من الطّبيعةِ:

"فالأرضُ لا تضيقُ بالظّربانِ دونَ الغزلانِ. وبالعوسجةِ دونَ البنفسجةِ. وبالتّرابِ دون التّبرِ. وبالأشرارِ دون الأبرارِ. والبحرُ لا يقبلُ الحوتَ دونَ الأخطبوطِ. واللؤلؤةَ دونَ الإسفنجةِ. والجدولَ الصّافي دونَ السّاقيةِ العكِرة".

ما لمْ يقُلْه لقمانُ وهو يعِظُ ابنَه

عرضْتُ فيما تقدّمَ لنصائحِ لقمانَ لابنِه حينَما حكمَ جزائرَ واقِ الواقِ، كما جاءَت على لسانِ يراعةِ نعيمةَ، ولكنّني آثرْتُ أن أُتِمَّ الرّسالةَ بنصائحَ أُلقيْها على لسانِ لقمانَ الحكيمِ وهو يعظُ ابنَه الآخرَ الّذي لم تُساعِدْه الظُّروفُ على أنْ يتولّى حُكماً، لكنّه وجدَ نفسَه في فسحةٍ من الأملِ في المعارضةِ، قد ترفعُ بهِ بمشيئةِ قادرٍ أحدَ أن يكونَ ذاتَ يومٍ من أولِي الأمرِ.

أيْ بنيَّ: سمِعتَ جواهرَ الحكمِ الّتي صُغتُها في قوالبِ الحكمةِ والموعظةِ، وأنا أُلقيْها في خلَدِ أخيكَ الّذي سيحكمُ جزرَ واقِ الواقِ، أمّا نصائحِي إليكَ إن أصبحْتَ ذاتَ يومٍ معارضاً لحكمٍ استبداديٍّ قائمٍ لا تَدري مَن همْ صانعُوهُ، وكم حجمُ القضايا الكُبرى الّتي باعَها لتجّارِ الكراسِي حتّى جعلُوه صنمَ إلهٍ لا يُمكنُ تحطيمُه إلّا بحكمةٍ إلهيّةٍ وعزيمةٍ ربّانيّةٍ تنبعثُ من جديدٍ على يديّ نبيٍّ موحّدٍ كمَا فعلَ إبراهيمُ الخليلُ عليه السّلامُ بأصنامِ مكّةَ، وهذهِ نصائحِي إليكَ، فلا تُهملْها أو تَغفلَ عنْها؛ لأنّها بمثابةِ أسفارٍ إمّا أن يفهمَها العباقرةُ الأبرارُ، أو يتَحاشَى فهمَها كلُّ حمارٍ:

أوّلاً- حذارِ يا بنيَّ إن أصبحْتَ معارضاً ذاتَ يومٍ أن تكونَ عميلاً لأشرارِ العالمِ الّذين هم مَن يصنعونَ الجبابرةَ في الأرضِ، فلا تُصدّقْ أنّ صاحبَ البستانِ يمكنُ أن يفكّرَ في تغييرِ كلابِ حراستِه إلّا إذا خرجَتْ قيدَ أنملةٍ عن مهمَّتِها، فالكلابُ الرّخيصةُ كثيرةٌ، ليس في استبدالِها ما يدعُو إلى الحَيرةِ أو القلقِ!

ثانياً- حذارِ يابنيّ! وأنت تهيّءُ نفسَك للمعارضةِ أن تثقَ بكلِّ مَن ينعبُ كالغرابِ بأنّه معارضٌ شريفٌ، فمعظمُ هؤلاءِ خونةٌ وجواسيسُ ومرتزقةٌ، فلا تنخدعُ بدعواتِهم ولا يغرنَّكَ نباحُهم، فتقعُ في شرٍّ مستطيرٍ، فتكونُ ضحيّةَ نيَّتِك الطّيّبةِ، ويسلمُ هؤلاءُ النَّابحُون، ويصبحُون أبطالاً بغيرِ قتالٍ، وقادةً بغيرِ جيوشٍ، وملوكاً بغيرِ ممالكَ، وزعماءَ حركاتٍ بغيرِ حركةٍ، فيربحُون المعركةَ دونَ قتالٍ، ويضحَونَ أثرياءَ حربٍ بالمالِ والممتلكاتِ والسّلاحِ، أمّا كرامتُهم فكرامةُ الكلابِ الشّاردةِ مرهونةٌ بمَن يُحسنُ إليهم في العطاءِ!

ثالثاً- حذارِ يا بنيَّ! إن فكّرتَ في أنْ تكونَ معارضاً أن تطمحَ إلى كرسيٍّ أو تنافسَ أصقاءَكَ المعارضينَ الّذين جعلَتْهم عبادةُ الكراسي عبيداً قبلَ أن يؤدُّوا الطّاعةَ في محرابِها، فتضيعُ حقوقُ النّاسِ في العيشِ الحرِّ الكريمِ، وتُهدرُ دماءُ الشّهداءِ الذين ضحّوا بالمالِ والسّلاحِ والأرواحِ من أجلِ تحقيقِ تلكَ المطالبِ، فيقضي الشّرفاءُ في ساحاتِ الوغَى نحْبَ عزّتِهم وكرامتِهم، ويظلُّ السُّفهاءُ والرّخصاءُ والعملاءُ أبطالاً أذلّاءَ أمامَ وسائلِ الدّعايةِ والإعلامِ الرّخيصِ، الّتي تنعقُ صباحَ مساءَ بزعيمٍ جديدٍ ومرتزقةٍ أحدثَ، اجتماعاتٌ في جزرِ واقِ الواقِ، ومؤتمراتٌ في جزرِ قاقِ القاقِ، وندواتٌ في جزرِ آقِ الآقِ، وما كانَ ربُّك بظلّامِ العبيدِ!

رابعاً- حذارِ يا بنيَّ أن تتدّعي أنّكَ معارضٌ بظهورِكَ مرّةً على وسائلِ الإعلامِ وتتدّعي أنّكَ حامي الحِمى وحاملُ مشاعلِ النّورِ، وفي طيّتِك ألفُ خبثٍ ودهاءٍ طمعاً في مالٍ وجنسيّةٍ واستثمارٍ بأموالِ المساعداتِ، فهذا أكبرُ غضبٍ سيحلُّ بكَ إن آجلاً أو عاجلاً، قد تحقّقُ ما تريدُ، وأنتَ تحتَ تأثيرِ الوضاعةِ والخساسةِ، ولكنّكَ يا بنيَّ ستصبحُ عبرةً لكلِّ مَن عبرَ ومَن سيعبرُ؛ لأنّ المالَ الرّخيصَ فطيسٌ، ولأنّ الإنسانَ الوضيعَ صريعٌ، مهْما طالتِ الأيّامُ أو امتدّتِ السِّنون!

خامساً- حذارِ يا بنيَّ إن أضحيتَ محارباً أنْ تحملَ سلاحاً مأجوراً علامةُ الاستئجارِ واضحةٌ عليهِ وضوحَ الشّمسِ، فتقتلُ أخاكَ في الوطنِ الّذي هو ضحيّةٌ بشعبِه وأرضِه وتاريخِه ودينِه، فتقعُ ضحيّةً للأشرارِ الغرباءِ، وتكونُ فريسةً للأغبياءِ الّذين احتكرُوا الوطنيّةَ في نِعالِهم القذرةِ وخُوذِهم النتِنةِ، وبزّاتِهم العفنةِ، فيفْنى الجميعُ شرفاءَ وعملاءَ وأغبياءَ، ويظلُّ المحرّكُونَ مخرجينَ بارعينَ في المسرحيّةِ، ثمّ تنسدلُ السّتارةُ، فينكشفُ الشّرفُ، وتنفضحُ الدَّعارةُ! فيظلُّ عبدُ الكرسيّ صنماً يتلُو آياتِ العبادةِ، ويخشعُ من خلفِه أوباشُ الغوايةِ والدّعايةِ، ويستمرُّ سماسرةُ المعارضةِ في تسويقِ عمالتِهم بشتّى أنواعِ العملاتِ الصّعبةِ في الظّروفِ المستعصيةِ على الحلِّ والانفراجِ، ويظلُّ الأملُ شمعةً تتلألأُ من خلفِ الآفاقِ أمامَ أعينِ المهجَّرينَ قسراً، ويطولُ اللّيلُ ولا تدري متَى الخلاصُ!

سادساً- حذارِ أن تثِقَ بالمموّلينَ لمعارضتِكَ، فكلُّ تاجرٍ يغنّي على ليلاهُ، وكلُّ مستثمرٍ بالدّماءِ يطبّلُ ويزمّرُ على موّالِه، وما الشِّعاراتُ الّتي يرفعُونَها تارةً باسمِ القرآنِ، وتارةً باسمِ الصّليبِ، وتارةً باسمِ سامٍ وتارةً باسمِ حامٍ، ما هيَ إلا فِخاخٌ نصبَها الأشرارُ لنشرِ الرّعبِ والدّمارِ وتخريبِ خارطةِ الأوطانِ والأزمانِ! وستكشفُ معَ الأيّامِ أنّ شعاراتِ الحرّيّةِ والدّيمقراطيّةِ ما هيَ إلّا خرافةٌ ولعبةٌ من لعبِ الأممِ في تخريبِ العالمِ وتدميرِه! أمّا الحقائقُ الكُبرى فلا يعلمُها إلّا اللهُ والمؤمنونَ به بعقولِهم وأفئدتِهم!

خاتِمة

ممّا تقدّمَ رأيْنا كيف استطاعَ نعيمةُ أن يُوصِلَ رسالتَه إلى الحاكمِ أيّاً كانَ وفي أيّ زمنٍ حلَّ، من خلالِ مجموعةِ نصائحَ أسالَها حكماً على لسانِ لقمانَ وهو يعظُ ابنَه في تولّيهِ الحُكْمَ، فثلاثٌ لا يستقيمُ معَها حكمُ الحاكمِ: أنْ يُحبّ الحكمَ فوقَ حبِّه للمحكومِ. وأنْ يُخضِعَ العدلَ للقانونِ. وأن يضيقَ صدرُه بمعارضِيه. وثلاثٌ لا يستقیمُ بدونِها حكمُ الحاكمِ: أنْ يُحبَّ المحكومَ فوق حبِّه للحكمِ. وأن يُخضعَ القانونَ للعدلِ. وأن يتّسعَ صدرُه لمعارضِيه.

والأخيرةُ هي الأهمُّ. ثمّ برعَ في توظيفِ الأمثلةِ من الطّبيعةِ والكونِ على أهمّيّةِ المعارضةِ التي تجلّت في أنصعِ صورِها في الحكمةِ الإلهيّةِ في خلقِه للكونِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى