الأحد ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢١
بقلم علي القاسمي

فنُّ الإدارة الحديثة أو قصة رشيدة وحمدان

كانت هيفاء تعرف ما تريد، وقليلٌ مَن يعرف ما يريد في مثل سنّها. فبعد أن تخرّجت في كلية الهندسة في أفضل جامعات بلادها، قرَّرت أن تدرس هندسة الحاسوب في أمريكا، وتحصل على الماستر فيها، ثم تدرس إدارة الأعمال في أرقى الجامعات التي تمنح شهادة الماستر MBA في هذا التخصُّص. وتعود إلى بلادها لتفتح شركتها الخاصَّة بتسويق الأطعمة والأغذية؛ ولها من ذكائها وأموال أبيها ما يدعِّم طموحاتها.

من أشهر برامج إدارة الأعمال في أمريكا برنامج جامعة بيركلي في كاليفورنيا. يفوق عدد الطلاب المتقدِّمين للحصول على قبولٍ في هذا البرنامج سنوياً أكثر من 2000 طالب، ولكن الجامعة تنتقي منهم 200 طالب أو أقلّ فقط؛ حسب معاييرَ رفيعةٍ مشدَّدة: علامات عالية في الدراسات السابقة، إجادة عدد من اللغات العالمية، خبرة عملية ناجحة، القدرة على الإبداع والابتكار، طموح متوقّد. ولهذا فإنَّ تصفيات القبول تمرُّ بمراحلَ كثيرةٍ، ويخضع المرشحون لاختباراتٍ عديدةٍ، علميةٍ ونفسيةٍ ولغوية. اجتازتْها هيفاء جميعاً بنجاحٍ باهر، وتمَّ قبولها في البرنامج الحُلم.

بعد شهرٍ واحدٍ من بدءِ الدراسة، دخلَ الصفَّ أستاذُ مادَّة " العلاقات العامَّة"، البرفسور روبرت جونسون المرشح لجائزة نوبل في الاقتصاد، وقال: "Quiz"، أي اختبار قصير، تكون أجابته بكلمةٍ واحدةٍ، أو عبارةٍ قصيرةٍ على الأكثر. (وطبعاً لا يقوم الأستاذ بتصحيح الأوراق، بل يتولّى أحدُ مساعديه ذلك). أخرج الطلاب أوراقهم، وكلُّ واحدٍ كتب اسمَه على ورقته. فقال الأستاذ: " ما اسم مسؤول النظافة الواقف خارج الصف؟". "ويقصد بذلك ما نسمّيه نحن بـالكنّاس أو الزبّال. وبعد دقيقتين فقط، طلب الأستاذ من أحد الطلبة جمع الأوراق، وكانت غالبيتها العظمى بلا جواب. في الدرس التالي، أعلن الأستاذ نتائج الاختبار القصير: "جميع الطلاب صفر". وأضاف: "اليوم يبدأ درسكم الأول في العلاقات العامة".

كان الدرس الأوَّل حول العنصرِ الأهمّ في الشركة. إنّه ليس المدير العام، ولا مجلس الإدارة، ولا رأس المال، ولا زبائن الشركة، ولا، ولا؛ بل العنصر البشري فيها، لا سيَّما، العمّال وصغار العاملين، فهم العنصر المنتِج. وينبغي على المدير العام أن يستثمر في هذا العنصر، ليس في إقامة علاقاتٍ طيبةٍ وثيقةِ معهم فحسب، بل الاستثمار فيهم وتطويرهم علمياً ومهنياً كذلك؛ فالإكثار من الدورات التدريبية التي تُحسِّن مهاراتهم المختلفة وتطوّر قدراتهم الذاتية، هو سرُّ نجاح الشركة.

بعدما عادت هيفاء إلى بلادها، افتتحت شركتها، وأخذت في تطبيق جميع ما تعلَّمتْه في ذلك البرنامج بالحرف، وعلى وجه الخصوص معاملة صغارِ الموظَّفين باللطف والكرم، لكسب ثقتهم وإخلاصهم. ومن الأمثلة على ذلك، ما حصل مع سائق سيّارتها الخاصَّة الجديدة من نوع "فورد موستانغ" واسمه حمدان، الذي استخدمته، دون أن يتوفَّر على شهادةٍ ما عدا شهادة " أشهد أن لا إله إلا الله". كلَّ ما لديه من مؤهَّلات هو حبّه لقيادة السيارة، وشبابه فهو في أوائل العشرينيات من عمره، ووسامته، وأناقة ملبسه النسبية. ومنحته راتباً يبلغ ضعف راتب أمثاله من السائقين لتضمن إخلاصه ووفاءَه. وأكثر من ذلك، اقترحتْ عليه، بعد مدّة، دخول معهد مسائي لتعلّم اللغة الإنجليزية، فمعظم الشركات في بلادها تستعمل اللغة الإنجليزية وليست اللغة الوطنية! وطبعاً هي التي ستدفع تكاليف الدراسة.

عندما ترى هيفاء أَمارات الإجهاد أو الإرهاق على ملامح أحد موظفي شركتها الثلاثين، تقترب منه مثل أخ عزيز، وتقول له برفقٍ ومودّة:

ـ "أرى أنك اشتغلتَ كثيراً، وأرهقتَ نفسَك. أقترح عليك أن تعود إلى منزلك لتأخذ قسطاً من الراحة وتعود غداً صباحاً ممتلئاً همّة ونشاطاً. وأنا سأكمل بقية عملك اليوم."

وإذا لم يكن لذلك الموظف سيّارة، فإنها تنادي حمدان، سائقَ سيّارتها الخاصَّة ليصحبه إلى منزله.

وأكثر من ذلك، أخبرتْ سعادةُ المديرة حضرةَ السائق، بأنّها لا تحتاج السيّارة بعد انتهاء العمل وعودتها إلى زوجها وابنتها الصغيرة في منزلها. وحتى إذا احتاجت إلى التنقُّل لأمر طارئ، فإنَّ البرنامج الحاسوبي "سيّارة في خدمتك" يجلب إليها أقرب سيارة منخرطة في هذا البرنامج في الحيّ خلالَ دقائقَ معدودةٍ، لإيصالها إلى حيث تريد، لقاءَ أجرةٍ معقولة. ولهذا فإنَّ السائق حمدان يستطيع أن يأخذَ السيّارة معه إلى معهد اللغة الإنجليزية، ويعودُ بها إلى منزله في أحد الأحياء خارج المدينة، ويرجع بها في الصباح إلى الشركة قبيل بدء العمل فيها. وعلاوة على ذلك، كانت تأتمنه على مفاتيح الشركة ومفاتيح منزلها. فالسائق هو لولبُ الشركة، في نظرها. فهو الذي يحضر الى الشركة قبل بقية العاملين فيها ببضع دقائق، فيفتح لهم أبواب الشركة. وهو الذي يصحب المديرة إلى منزلها، ويفتح لها أبوابه. فلا بدَّ أن تكون لديه نسخةٌ من جميع المفاتيح اللازمة. وهذا هو المنطق "الصحيح".

وعلى الرغم من أنَّ أحد الموظَّفين نبّه سعادة المديرة إلى أنَّ هذا السائق قد يستخدم سيّارتها الخاصة في جلب المسافرين من المطار أو نقلهم إليه ليلاً، وهذا ما كان يفعله قبل استخدامه في الشركة، أو يستعمل سيّارة المديرة في أشغاله الخاصة، فإنها لم تلقِ بالاً إليه، لأنَّ هذا ما تعلّمته في أمريكا، وما تعلَّمته في بيركلي مثل كتابٍ منزَّلٍ لا يأتيه الباطل أبداً من بين يديه ولا من خلفه. وذكّرها موظفٌ آخر بما فعلته مع أحد صغار الموظَّفين، واسمه علاء، فقد علّمته البرمجة بنفسها، ثمَّ أدخلته معهداً متخصّصاً ساعتَين في الصباح لتطوير مهاراته، مدّةَ سنةٍ كاملة على حسابها. وبعد أن أتقن البرمجة، انتقل إلى شركة أخرى براتب لا يزيد على عشرين ديناراً عن الراتب الذي يتقاضاه منها. ولكن هذا ما تعلّمتْه في بيركلي من فنِّ الإدارة الحديثة. ولا يصحُّ إلا الصحيح.

وأكثر من ذلك، وإمعاناً من المديرة في العناية بالموظفين، قرَّرت توفيرَ وجبةِ الغداء لهم مجاناً داخل الشركة، بدلاً من إعطائهم ساعةً ونصف الساعة لتناول الوجبة في أحد المطاعم القريبة. فطبّاختها الخاصة، هي التي تُعدُّ طعام الغداء لها ولبقيّةِ الموظَّفين.

لا ندري بالضبط ما إذا كان كرمُها ولطفُها نتيجةً لما تعلَّمتْه في برنامجِ إدارةِ الأعمال في بيركلي فقط، أو أنَّه طبيعةٌ غريزيةٌ وُلِدتْ معها، أو أنَّه ثمرةُ تربيةِ والدَيها اللذَين كانا يحبّانها حبّاً جمّا، فأشبعاها حناناً وعنايةً في طفولتها، أو أنَّ طبعَها الجميلَ ذاك كان نتيجةً لتضافر تلك العوامل مجتمعة. فالمتخصِّصون في علم النفس التكويني (دراسة المراحل التي يمرُّ بها الفرد لتتكوَّن لديه المعالم النفسية المختلفة) لا يعرفون السرّ في ذلك، فكثيراً ما يجدون توأَمَيْن متماثلَيْن، تربَّيا في بيتٍ واحد، ومع ذلك، لكلٍّ سلوكُه المختلف عن الآخر.

رشيدةٌ فتاةٌ في الثامنة عشرة من عمرها وتنتمي إلى الطبقة الفقيرة وتدرس في مدرسة ثانوية. ولكنَّها واعية بجمالها الذي قد يدرُّ عليها بالنفع أكثر من الدراسة الجامعية. فأكثر الجامعيِّين عاطلٌ عن العمل اليوم. وهي فتاةٌ طموحة، تأمُلُ في تغييرِ طبقتِها الاجتماعية في المستقبل، بفضلِ جمالها لا اجتهادها. فنسبةُ الناجحين في امتحانات البكلوريا العسيرة، لا تشجِّع على الاستثمار في الدراسة. فالنجاحُ فيها يحظى به الطلاب الذين يدرسون في المدارس الأهلية عادةً، ويستطيع أهاليهم أن يدفعوا أجورها الباهظة، التي لا يُطيق تسديدها الفقراء. فأبناؤهم يدرسون في المدارس الحكومية المُكتظَّة صفوفها بالطلاب، ويكثر فيها غيابُ المعلّمين، وتخلو من المكتبات والمختبرات. هذه هي المشيئة الربانية، فقد قسّم الله البشرَ إلى أغنياء وفقراء. ولكنه قسَّمَ البنات كذلك إلى جميلات وأقلّ جمالا، وإذا كانت البنات القبيحات من ذوي الثراء، فإنَّ عمليات التجميل موجودة. وتستطيع بعض الجميلات أن يحقِّقن طموحهن، إذا استخدمن ذكاءَهن وساعدهن الحظُّ، حتى لو كُنَّ من الفقراء.

ولهذا قرَّرتْ رشيدة أن تنتظر الفرصة التي تتعرّف فيها على ذلك الرجلِ الغنيِّ الذي يقدّر جمالها حقَّ قدره، ويوفِّر لها ما تحلم به من حياة الأغنياء وترفهم. ويتلخَّصُ الترفُ في نظرها في فيلا مريحةٍ وسيّارةٍ جميلةٍ. وحسِبتْ أنَّ ما سمعتْه في المدرسة الثانوية من زميلاتها يكفي لجذب الرجل الغني إليها، وإيقاعه في حبّها، وتعلُّقه بها؛ بحيث يتقدَّم لأهلها في طلب يدها منهم مهما كان فقرهم. أمّا ما تعلَّمتْه من جدَّتها عن متطلَّبات الزواج فهو ضرورة المحافظة على البكارة، ولها أن تفعل ما تريد بعد ذلك. فالبكارة في العروس أهمُّ من الأخلاق أو المعرفة أو العمل، كما علّمتها. فأكثر الرجال العرب مولعون بـ "الدماء". ويحقِّق العريس منهم رجولته، بخروجه من مخدع العروس إلى المحتفلين بالعرس من أهله، بأسرع وقت، حاملاً المنديلَ الملطَّخَ بالدماء. وعند ذاك يُطلق أبناءُ العشيرة الرصاصَ في الهواء ابتهاجاً بتلك المناسبة العصماء!

ولهذا كانت رشيدة تغادر مدرستها مساءَ كلِّ يوم، وتقف مع بعض الطالبات في موقف الحافلات. وقد لا تأخذ الحافلة الأولى المُتَّجهة إلى الحيِّ الذي تسكن فيه، بل تنتظر الحافلة التي بعدها. فهذا يمنحها وقتاً أطول لألقاء نظراتها الجذّابة على السيّارات التي تمرُّ أمامها، ولانصراف بقيّة الطالبات من موقف الحافلات. وعلى كلٍّ، فحافلاتنا لا تتقيّد بمواعيدَ مضبوطة. فالوقت لا قيمة له عندنا. ورشيدة تستثمر في الانتظار أكثر من استثمارها في مذاكرة دروسها. والعِلم عند الله متى ستلتقي بالرجل الذي قسمه تعالى لها. فالزواج قسمةٌ ونصيب، ولكلِّ فتاة خاطب. إنَّها تعرف مواصفات الزوج المطلوب: أن تكون سيّارتُه جديدةً أو شبهَ جديدة، ومن نوعيةٍ محترمةٍ، وأن يكون شاباً عليه علامات الجاه والغنى، ويملك فيلا جميلة.

ذات مساء كان السائق حمدان يعود بسيّارةِ مديرةِ الشركة بعد العمل، متجهاً إلى معهد تعليم اللغة الإنجليزية، حينما وقعت عيناه على فتاةٍ لفتت انتباهه بطولها المناسب، ورشاقتها، وملاحة وجهها، ونظافة هندامها. وفكَّر بسرعة: ماذا لو تعرّف عليها هذا المساء. فهو تعلّمَ من الإنجليزية ما يكفي لإيهام المديرة المحترمة بمواظبته على الدروس. أضف إلى ذلك أنّها لا وقت لديها للتدقيق في مواظبته أم لا؛ وكأنَّ رضاها يتمُّ بإنفاق المال على دراسته، وسلامه عليها بالإنجليزية كلَّ صباح:

Good morning, Mame.

واصل حمدان السير، ثمَّ استدارَ عند المنعطف وعاد إلى موقف الحافلات، وأوقفَ سيّارته مقابل الفتاة، وقال بلطف:

ـ "هل تودّين أن أوصلك، آنستي؟"

ومَن لا تركب في سيّارةٍ رياضية مكشوفة؟! نظرت رشيدة إلى السيّارة وراكبها، فأَلْفَتْ أن جميع المواصفات المطلوبة متوافرة فيهما. ولكنّها تظاهرت بشيءٍ من التردُّد وكثيرٍ من الحياء والاستحياء، واقتربتْ بخطواتٍ خجولة من السيّارة قائلة:

ـ " شكراً. أخشى أن وجهتي ستبعدك عن قصدك."

أجابَ حمدان بابتسامٍة مرحة قائلاً:

ـ " قصدي هو قصدك أينما كان."

فتحت باب السيارة، وبخفّة الشباب جلست إلى جانبه. ومن دون أن يطلب منها، سحبت حزام الأمان وتمنطقت به، بطريقة تبرز نهديها النافرين. سلّمت عليه، وقالت:

ـ " اسمي رشا". (والرشا هو صغير الغزلان العربية بعدما يقدر على السير، وكثيراً ما يشبّه الشعراءُ العرب الفتاة الجميلة بالرشا. وتستعمل رشيدة هذا الاسم بدلاً من اسمها التقليدي، ولكن هذا الاسم المختصر الجميل من المضنون به على غيرِ أهلِهِ).

رد حمدان السلام وقال:

ـ سعدتُ وتشرّفتُ، اسمي حمدان."

وبعد قليل من الصمت، أضاف متسائلاً:

ـ " أين المنزل، يا آنسة نجلاء؟"

طبعاً رشيدة لا تخبره الحقيقة، بل ستعطيه عنوانَ أقربِ حيٍّ نظيفٍ إلى منزلها الكائن في منطقة سكن عشوائي من القصدير، قائلة:

ـ " أنتَ تعرف، أنَّني لا أستطيع أن أدخل حيِّنا في سيّارةِ رجلٍ غريبٍ. أهلي سيقتلونني إذا رأوني معك." وضحكت. فشاركها الضحك.

ليس اللقاءُ الأوَّل هو لمعرفةِ كلِّ ما تريدين من المعلومات، بل لكثيرٍ من الابتسام، ومن نظراتِ العينَين الساحرة. وعندما يسألكِ الرجلُ: متى سيلتقي بك المرَّة القادمة، لا تقولي: غداً. دعيه ينتظر يومَين أو ثلاثة. فهذا يجعله أكثر اشتياقاً لرؤيتكِ. ألم تحفظي في مدرستكِ قصيدةَ الشاعرِ العذريِّ قيس بن الملوح الذي جنَّنه الشوق لرؤية ليلى العامرية، فَلُقِّبَ بالمجنون، وقال:

شَكَوتُ إِلى سِربِ القَطا إِذ مَرَرنَ بي ... فَقُلـتُ وَمِثـلي بِالبُكاءِ جَـديـرُ
أَسِـربَ القَطا! هَل مِن مُعيرٍ جَناحَـــهُ ... لَعَلّي إِلى مَنْ قَدْ هَوَيتُ أَطيرُ؟

ولهذا، ضربتْ رشا له موعداً بعد ثلاثة أيام، وبعد انتهاء الدراسة، وبعد وقتٍ كافٍ لانصراف بقية الطالبات من موقف الحافلات. وأعطتْه رقم هاتفها المحمول، فهو رسولُ الشوق، تماماً مثل المِحرار الذي يستخدمه الأطباء لقياس درجة حرارة المريض. والحبُّ هو مرضٌ من الأمراض.

في اللقاءات اللاحقة، ازدادت المودَّةُ بين رشيدة وحمدان. واكتشف حمدان أنّ رشا تتمتَّع بسرعة بديهة وقدرة على الدعابة والفكاهة، وأنّها تكُنُّ له محبّةً صادقة. ومن ناحيته، كان يتصرَّف على سجيّته. أمّا هي فلم تستعجل في أمرها. فلم توجّه إليه أسئلة عن عمله ودخله الشهري أو السنوي، لئلا تثير شكوكه في مقاصدها. المهمُّ أن تبدو تلقائيةً طبيعيةً في سلوكها وكلامها. أضِفْ إلى ذلك كلِّه، إنَّ إحساسها الداخلي يؤكّد لها أنَّ هذا الشاب هو الزوج الذي انتظرتْه طويلاً. ويخبرنا علم اللغة النفسي أن ما نفهمه من الكلام، منطوقاً أو مكتوباً، لا يعتمد فقط على فصاحته وبلاغته، بل كذلك على ما نرغب نحن في سماعه، مهما كانت قدراتنا اللغوية سامقة. فقد كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات يوم:

" شهادة جامعية، وأربعة كتب، ومئات المقالات، وما زلتُ أُخطئُ في القراءة.. تكتبين لي: صباح الخير، وأقرؤها "أُحبُّكَ".

ذات يوم، سافرتْ مديرةُ الشركة وعائلتُها إلى أمريكا لشهرٍ كامل، بمثابة عطلتها الصيفية السنوية. فقد وفرّتْ تقنياتُ الاتصال الحديثة للمديرة التواصلَ المجاني عن بُعد باستخدام الفيديو سكايب، بالشركة والعاملين فيها، عندما تريد، كما لو كانت معهم. أضفْ إلى ذلك، أنَّ ثمّة برنامجَ عملٍ لكلِّ موظَّف وموظَّفة في الشركة، لا يعتمد على ساعات وجودهما في مقرّ العمل، بل على مقدار مُنجَزهما الإلزامي في الأسبوع أو الشهر. وحبَّذا لو قام الموظفون بأداء واجباتهم في منازلهم، فهذا يوفّر للشركة كثيراً من المصاريف، مثل تكلفة الكهرباء اللازمة للمكيّفات وغيرها.

اغتنم حمدان غياب المديرة، مثل فرصةٍ ذهبية، فوجَّهَ الدعوةَ لرشا لتمضية يوم العطلة الأسبوعي معه في المنزل والتمتّع بالسباحة في المسبح.

قبلت الدعوة قائلةً:

ـ "أهلي لا يسمحون لي بالخروج أيام العطلة الأسبوعية. ولكنّي سأخبرهم بأنَّني سأدرس مع زميلتي فاطمة، استعداداً للامتحان العام. فصخبُ الأطفال الصغار في بيتنا يحرمني من التركيز اللازم للدرس."

هيأَ حمدان كلَّ ما يلزم لتمضية يوم العطلة الموعود. فالمجمِّدة في الثلاجة العملاقة، زاخرة باللحوم والخضروات والفواكه. وما عليه إلا إخراج ما يحتاج منها قبل 24 ساعة، ووضعه في قسّم آخر من أقسام الثلاجة. وما على نجلاء إلا إضافة المتبّلات، ووضع اللحوم فوق الشواية الكهربائية. وسيعاونها. فالتعاون بينهما في إعداد طعام الغداء، يزيد علاقتهما حميميةً ومودَّة. أمّا ألبسة السباحة (المايوهات) له ولنجلاء، فقد تكفَّلت ثقافة الاستهلاك التي اكتسبتها سعادة المديرة وزوجها في أمريكا بتوفيرها، فثمة ألبسة سباحة كثيرة متفاوتة الأنواع والألوان والمقاسات، فاختار منها ما يناسبه، وانتقى لرشا ثلاثة مايوهات بألوان مختلفة حرصَ أن تكون من ذوات القطعتين التي تبرز أكبر مساحة ممكنة من جسمها البض. ولم يفُتْه أَن يزيل ما يثير شكوكها من غرفة الجلوس مثل صور سعادة المديرة وزوجها وابنتها، فقد وضعها في مخزن الفيلا، لحين قرب عودة سعادتها من عطلتها السعيدة. كما أنه قفلَ غرفة نوم عائلة المديرة، واكتفى بفتح غرفة نوم الضيوف.

رافق حمدان صديقته العزيزة بسيّارته إلى الفيلا الجميلة. ولم يحتَج إلى أكثر من ضغطة على الضوء المخصَّص لفتح باب مرأب (كراج) السيّارة، ما أبهرَ نجلاء، التي تحكّمتْ بمشاعرها فأخفت انبهارها. وازدادت إعجاباً بالفيلا الفاخرة، وجُنينتها الغناء الواسعة العامرة بشجيرات الزهور ذات الألوان المختلفة، والأشجار المثمرة؛ ويتوسطها مسبح أولمبي أزرق اللون تظلّه أشجارُ الصفصاف الباكي الباسقة. وتفاقم انبهارُها عندما دخلا غرفة الاستقبال الواسعة المؤثثة بذوق رفيع، وبألوان متناسقة، ومصابيح جميلة، وفي أحد أركانها آلة البيانو الكبير. هنا لاحت لنجلاء فرصة ذكية لمعرفة شيءٍ عن شخصية حمدان، فسألته:

ــ " هل تجيد العزف على البيانو؟"

فأجاب بلا تكلّف، محاولاً أن يظهر طبيعياً:

ــ "لا، ولكن بعض الضيوف يودّون أن يعرضوا مهارتهم في العزف."
وأضاف معللاً ذلك:

ــ "تعرفين أنَّ العزف على البيانو يحتاج إلى سنواتٍ طويلةٍ من التمرين كلَّ يوم. إنه إضاعة للوقت".
وهنا سألها:

ــ "هل تودّين السباحة في المسبح. فالجو جار."
قالت:

ــ "أتمنى ذلك، ولكنّي لا أعرف السباحة."

قال بحماس ملحوظ:

ــ " أستطيع تعليمك في أقل من ساعة. بعد السباحة، سنتناول الغداء بشهية أكبر."

أجابت بأريحية:

ــ "اتفقنا."

وأردفت إجابتها بضحكةٍ عاليةٍ تليق بتلك الفيلا الفاتنة. فشاركها الضحك.

وكما حرصت رشيدة على عدم التطرُّق إلى وضع عائلتها الاجتماعي أو الاقتصادي أو أسم رب العائلة، فقد حرص حمدان على تجنب الكلام عن عمله ووضعه الاجتماعي.

معظم الرجال في مثل سنِّ حمدان وبداية حياتهم العملية، لا يفكِّرون في الزواج وتحمُّل مسؤولياته الكبيرة، بل يريدون تمضيةَ وقتٍ سعيد مع الفتاة، وممارسة ما يمكنهم من الجنس كغنيمة.. أمّا أغلبية الفتيات في بلادنا فيحلمن بالزواج، حتى قبل تلك السنِّ بأعوامٍ عديدة، وشعارهن: "الزواج أولاً، وكلُّ شيء يأتي بعده." وهكذا كان حمدان ورشيدة يمثِّلان دورَين متشابهين في الظاهر مختلفين في الباطن.

مرّ يومُ العطلة على ما يرام. واختارت أحد المايوهات الثلاثة التي عرضها عليها حمدان. فقال:

ـ اعتبري هذا المايوه هدية لك مني. ونحتفظ بهذَين الاخرَين هنا للمرة القادمة. (وقال في نفسه: لا يمكن لسعادة المديرة أن تتذكر جميع المايوهات التي يفوق عددها السبعة والسبعين، وهو عدد لا يضارعه إلا عدد أزواج أحذيتها).

وفي المسبح، تظاهر حمدان بتعليم رشا السباحة، وتظاهرت هي بالتعلُّم. ولا أحد يعلم مقدار ما تعلمتْه فعلاً منه. وكشف حمدان عن حرمانه، وظمئه الشديد إلى تقبيل رشا. فسمحت له برشفات سريعة محسوبة تبلُّ صداه ولا تسمح له بالوصول إلى النبع. فظلَّ ظَمِئاً على شوقٍ.

وأُعجبتْ رشا بطريقة شواء اللحم على المشواة الكهربائية، وسعدتْ بتناول الغداء تحت ظلال أشجار الصفصاف الطويلة الأغصان، بالقرب من المسبح الأزرق. باختصار أعجبها كلُّ شيءٍ في الفيلا. وبعد تناول طعام الغداء، استطاعت بسهولةٍ الاعتذار عن مصاحبة حمدان إلى غرفة النوم لـ " الراحة"، بعذرٍ كثيراً ما تستعمله النساء المتزوجات وغير المتزوجات، وهو عذرٌ يصدق قرابة أسبوع واحد في الشهر، تماماً مثل الساعة الخَربانة التي تصدق مرّة في اليوم.

دأبَ حمدان على مهاتفة رَّشا مرتَين أو ثلاث في اليوم خلال الأوقات المناسبة لها، مُعرباً عن كثيرٍ من الودِّ والشوق عبر كلماته ونبرات صوته. وكانت رشا تتجاوب معه بدهاء شعرة معاوية في الحُكم الذي قال ذات مرّة:

"لو أنَّ بينى وبين الناس شعرةً ما انقطعتْ؛ لأنّهم إنْ مدّوها، خلَّيتُها (ارخيتُها)؛ وإنْ خلّوا مددتُها (شددتُها)"

وفي يوم العطلة الأسبوعية التالي: أخبرت رشيدة أهلها أنَّها استفادت من دراستها مع زميلتها فاطمة، وأنَّ موعد الامتحانات اقترب، وعليها مراجعة دروسها معها. وهكذا أمضت جميع العطل الأسبوعية ذلك الشهر مع حمدان. وبذلت رشا جهدا وعناية لإسعاد حمدان وإذاقته حلاوة عسلها وشهْدها ومهاراتها، من دون أن تنسى وصية جدّتها. وشعر حمدان بسعادة غامرة، فلأول مرَّة في حياته يعاشر فتاةً بمثل جمال رشا وطيب كلامها، وروعة معاملتها. وأحسَّ إحساساً غامراً أنَّ الحبَّ الحقيقي ربط بين قلبيهما، ووحَّد روحيهما. فهي نصف روحه الذي كان يبحث عنه. وخُيِّل إليه أنّهما سيتزوجان وسيواجهان الحياة معاً، ويبنيان عشَّهما بالتعاون. لقد غلبت عليه هذه الرؤى الجميلة؛ ورافقته أحلام الليل والنهار السعيدة، حتّى أصبحتْ جزءً من حياته وواقعه.

ذات صباح، كانت رشيدة على متن الحافلة في طريقها إلى المدرسة، عندما لمحت أخاها، رشيد، واقفاً على قارعة الطريق وهو يتحدّث مع رجل آخر. لم تصدِّق عينَيها أوَّل الأمر. لوت عنقها وحملقت فيهما بشدّة. نعم إنهما أخوها رشيد وحمدان يتكلمان معاً. لماذا؟! هل جاء حمدان إلى أخيها ليخطبها منه؟ غير معقول. فالعادة أنَّ الخِطبة تتمُّ في منزل الفتاة وبناء على موعد مسبق، وليس على قارعة الطريق. هل جاء حمدان ليعرف أحوال عائلتها؟ وكيف وقع على أخيها؟! وظلّت تضرب أخماساً بأسداس. ولم تفهم شيئاً من الدرس الأوَّل ولا الدرس الذي بعده. وارتأتْ أن تتمارض وتذهب إلى المديرة وترجوها السماح لها بالعودة إلى المنزل. ولكن أخاها رشيد لن يكون في المنزل، فهو لا يعود من عمله قبل السادسة مساءً. وهي لا تريد أن تتصل به هاتفياً وتسأله عن الرجل الذي كان يتحدث معه في الشارع هذا الصباح. ولماذا؟ وكيف تعرفه؟ وظلَّت تتقلَّب على جمرِ الهواجس والشكوك.

بعد أن التقت رشيدة بأخيها ذلك المساء على سُفرة العشاء، تأنَّتْ إلى أن وجدتْ فرصة لتقول لأخيها رشيد إنها رأته هذا الصباح وهو يتحدَّث مع رجلٍ آخر على قارعة الطريق. وسألت بشيء من اللامبالاة عن ذلك الرجل.

أجاب أخوها رشيد:

ـ "إنه حمدان زميلي في الشركة. (ومن المصادفات أن أخاها رشيد يعمل بُستانيا في الشركة نفسها، للعناية بحديقتها وأشجارها ومزروعاتها، كما يذهب بين الفينة والأخرى إلى فيلا المديرة للعناية بحديقتها كذلك).

سألتْه رشيدة بدون إرادةٍ منها:

ـ "هل هو مدير الشركة؟"

ـ "لا، هو سائق المديرة."

وجدت نفسها تقول بشيء من الاستغراب:

ـ "هل أنتَ متأكِّد؟!" وأضافت مستدركةً:

ـ " فهو يرتدي بدلةً أنيقة!"

ـ "لأنه يرافق المديرة في اجتماعاتها مع الزبائن في مقرّاتِهم، وتريده أن يعطيهم أفضل انطباع عن الشركة." (تماماً كحرصها على نظافة السيارة نفسها في عيون الزبائن).

في تلك الليلة، لم تذُق رشيدة للنوم طعماً. فقد أصابتها الطعنة اللئيمة في صميم أعماقها، وقضت على جبل أحلامها، كما تدمر أمواجٌ عاتيةٌ تَلاً من الملح على ساحل البحر في ليلة عاصفة هوجاء. فهي لا تعتزم أن تتزوَّج سائقا كذاباً خدعها بطلاوة لسانه، وضحك عليها. وبُعيد الفجر، وكما يقول المثل الفرنسي: La nuit porte conseil " الليل يأتي بالنصيحة"، اتخذت قرارها القاطع: ستقطع شعرة معاوية، بل ستجتثها اجتثاثا من أصلها، وستقلعها قلعاً من منبتها. ولن تضيّع وقتها، والزمن أمامها. في الصباح ستبادر بتغيير رقم هاتفها. وتبديل محطة الحافلة التي تستقلها بعد المدرسة (مع العلم أنَّ عطلةَ شهرٍ ستبدأ بعد بضعة أيام ليستعدَّ خلالها طلاب البكلوريا للامتحان). بخلاصة: لا تريد أن تراه أبداً، حتّى لو فرش الأرضَ لها ببساطٍ منسوج من ذهب خالص، وأقبل عليها زاحفاً على يديه ورجليه مثل كلبٍ ذليل، وهو يعضُّ بين أنيابه المكشِّرة على خاتم الزواج من الألماس الأكثر شفافية، والأشد لمعاناً، والأندر لونا، والأكبر حجماً.

رجعت سعادة المديرة وزوجُها وابنتُها من عطلتهم السعيدة في أمريكا في الموعد المحدَّد وبرقم بالرحلة اللذَين أعطتهما لسائقها المخلص. واستغربت سعادتها، وهي تخرج من قسم الإجراءات في المطار، أنَّ سائقها حمدان لم يَلُح لعينيها. والعادة أنَّه يحضر قبل وصولها، ويفعل كلَّ ما يستطيع لكي تراه في الانتظار، ويلوّح إليها بكلتا يديه مرحِّباً. كان ذلك يوم العطلة الأسبوعية. فاتصلت بالمهندس عبد الخالق، المدير وكالةً، في منزله لتسأله عن حمدان. أخبرها أن حمدان حضر إلى العمل قبل ثلاثة أيام وهو مكتئب ثم أصابته دوخةٌ، وكان على وشك أن يُغمى عليه. فنقلناه إلى الطبيب الذي شخّص حالته بفرط ضغط الدم المفاجئ، وأعطاه وصفة بالأدوية اللازمة، وأوصاه بالاستراحة في منزله مدَّة أسبوعَين. ومع ذلك فقد عزم حمدان على استقبالك في المطار. فمنعتُه من ذلك خشية أن يُصاب بالدوار وأنتم معه، واحتفظتُ بمفاتيح السيّارة في مكتبي.

الحلُّ بسيط: أخذتْ سعادة المديرة سيّارتَي أُجرة من المطار، إحداها لعائلتها. والأخرى لحقائبها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى