الثلاثاء ١٣ آذار (مارس) ٢٠١٨
شِعْريَةُ الْحُبّ بَيْنَ الْقَصيدِ والْوَطَنِ

في ديوان (سُكَّرُ الْكَلِماتِ)

مصطفى الشاوي

وَالشِّعْرُ مثْلُ الْغَيْمِ يَحْمِلُهُ الهَوى// حُرّاً يُحَلّقُ فوْقَ كُلِّ جِدارِ

يمتلك الشعر قوة سحرية قلما تتوفر في غيره من الأنواع الأدبية والفنية عموما، جعلت وتجعل منه جنسا أدبيا ملكيا يتربع على عرش كل الأجناس الفنية. ولا غرابة في ذلك مادام لا أحد ينكر قوة تأثيره في المتلقي. وقد كان للشعر دور ريادي في الدعوة إلى التحرر في بلدان عربية كثيرة وفلسطين تحديدا. حيث سخَّر كثير من الكتاب والشعراء أقلامهم وكتاباتهم وحياتهم خدمة للقضية، حتى ارتبطت أسماء الكثير منهم بالقضية التي شغلت الناس في أقطار العالم كله أو جله. ولا نكاد نجد شاعرا أو كاتبا عربيا لم يتناول القضية الفلسطينية في أعماله. إلا أن طريقة حضورها في القصيدة تختلف باختلاف التجارب الشعرية، وباختلاف الشعراء واختلاف أعمالهم.

وفي هذا السياق نستضيف التجربة المميزة للشاعر الفلسطيني خالد شوملي الذي من المفروض، وبحكم إقامته في الغرب (ألمانيا) وبعده عن الوطن، أن يعيش اغترابا مضاعفا ومعاناة عميقة قد تحضر بشكل فني رصين، ووفق رؤيا فكرية، استنادا إلى خصوصيات القصيدة الشعرية على جميع مستوياتها الفنية والجمالية، وتأسيا على تجربته الشعرية الغنية حيث أصدر حتى الآن عدة دواوين شعرية: لِمنْ تَزْرَعُ الْوَرْد 2008، مُعلَّقَةٌ في دُخّانِ الْكَلامٍ 2012، سُكَّرُ الْكَلِماتِ 2013، اَلْقَصيدُ الّذِي أسْكُنُهُ 2015، ضَيِّقٌ مَنْفاك 2015، أنَا لا أريدُ قَصائِدَ مَنْفى 2016. ونرغب من خلال هذه القراءة الكشف عن تجليات شعرية الحب التي تهيمن على الديوان المقروء ونفترض أن تُؤطَّر ضمن بعدين مركزيين يتفاعل كل منهما مع الآخر: عالم الحب وعالم القصيد والوطن.

ترى كيف يعالج الشاعر الفلسطيني القضية في شعره وكيف تستحضر قصائد الشاعر خالد شوملي الوطن وكيف تتجلى فكريا وفنيا وجماليا؟ وهل يختلف هذا الحضور من قصيدة لأخرى أم أن التجربة في مجملها تستند إلى رؤيا فكرية عامة تشترك فيها كل قصائده ودواوينه؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وما ستفرزه مسالك هذه القراءة نستضيف في هذا السياق ديوانه الموسوم بـ (سُكَّرُ الْكَلِماتِ) الصادر عن مطبعة دار الجندي للطبع والنشر بالقاهرة سنة 2013. نقارب هذا الديوان ويحدونا سؤال مركزي ترى ما مفهوم حب الوطن عند الشاعر خالد شوملي؟ وما هو تصوره لهذا المفهوم من منظوره الشعري؟ وكيف تتحقق شعريته من داخل قصائد الديوان في مختلف تجلياتها والفنية والجمالية؟

1 ــ شعْرية الدّال/اتّساقُ المُتَباينِ:

نقصد بالدال الشكل الفني للنصوص الشعرية الخمسين التي يضمها الديوان والتي أحسن الشاعر تشكيلها لتحقق شعريتها على أعلى مستوى؛ استنادا إلى طريقة تأثيثها، وتوزيع سواد الكتابة على بياض الورق. وقد أرادها الشاعر أن تكون متنوعة تراهن على الاختلاف شكلا ومضمونا. ووفق هندسة محكمة تنم عن تجربة الشاعر ونوع ذخيرته المعرفية المكتسبة. ورغبة في شد انتباه القارئ وتحفيزه على مواصلة القراءة يمزج الشاعر بشكل متداخل وتناوبي بين النص الشعري القصير والمتوسط والقصيدة المُطَوَّلة تبعا لنَفَسه الشعري وطبيعة اللحظة الشاعرة التي يصدر عنها كل نص.

لعل أول ما يثير انتباه القارئ في الديوان عنوانه الذي جاء تركيبا إضافيا أضيفت فيه لفظة (سكر) إلى لفظة (الكلمات) وجاءت الكلمة الأولى مفردة، أما الثانية فجاءت جمعا، لتفيد الإضافة التخصيص، فاللفظة الثانية (الكلمات) تخصص اللفظة الأولى، ذلك أن السكرَ صفة الكلمات مما يولِّد انزياحا دلاليا ويفتح باب التأويل، إذ يقتضي طرح أسئلة من قبيل؛ ترى ما المقصود بهذه الصفة وأين تكمن وكيف تتحقق جماليا في الديوان على مستوى مختلف مقومات النص الشعري؟ وكيف يشكل القارئ على غرار الشاعر المعنى كاحتمال جمالي من ضمن احتمالات أخرى ممكنة في سياق بحثه عن المعرفة؟

ـ يا سُكَّرَ الْكلماتِ في فَمِهِ/ وأنت تُحرك الْمَعْنى تَأمَّلني/ وأنْتَ تُشَكِّل الْمَجْهُولَ مَعْرِفَةً/ تَذَكَّرْني احْتِمالاً وارِدا.

وما يثير انتباه القارئ أيضا جمالية لوحة الغلاف للفنان يوسف كتلو والتي تتناغم مع التصميم الفني الدقيق للفنان محمد عاطف. واللوحة تحيل بشكل تجريدي على فضاء له رمزيته وإيحاءاته ومكانته لدى المسلمين عامة والإنسان الفلسطيني خاصة، وهو بيت المقدس. أما المكون الفني الثاني الأساسي في اللوحة فهو صورة فارس يمتطي صهوة جواد جامح وعلى أهبة الاستعداد للانطلاق بما ترمز إليه هذه الصور من بطولة وشجاعة وإقدام. وهكذا توحي اللوحة الفنية للقارئ بعدة أبعاد تأويلية، بحيث تشكل مع العنوان ثنائية دلالية ما يجمعهما خفي ومضمر وغير محدد تحديدا دقيقا. إذ يصعب على القارئ أن يتبين منذ القراءة الأولى للعتبتين العلاقة الدلالية الجامعة بينهما، وهو ما يخلق تنافرا دلاليا يدهش القارئ ويدفعه إلى البحث عن الانسجام.

وفي هذا السياق يمكن التمييز بين الشكل الشعري العمودي، والشكل الشعري التفعيلي، والمقطوعة الشعرية القصيرة؛ إذ يعمد الشاعر إلى تطوير الشكل بإعادة تأثيث وتوزيع البيت الشعري أوالسطر الشعري، أي تغيير طريقة بناء القصيدة وتوزيع أبياتها. ومن خلال الرهان على اختلاف الوزن والروي والقافية والوزن. ويجد هذا الاختلاف تفسيره في كون أن الحب لا يتحقق شعريا لدى الشاعر خالد شوملي على مستوى المضمون فحسب بل على مستوى الشكل الفني أيضا. ذلك أن المراهنة على وحدة الجوهر ضمن المتعدد والمختلف هو الهاجس الفكري والفني والوجداني الذي يسعى الشاعر إلى تحقيقه على كل المستويات مهما اختلف شكل القصيدة:

ما فَسَّرَ الْحُبَّ مَجْنُونٌ وَلا فَطِنٌ // في عَنْكَبُوتِ الْهَوى تَاهَتْ فَلاسِفَةُ

وتتعدد الفواصل المعتمدة في بناء وشكل النصوص الشعرية بتعددها، ومن أهمها الفاصل الخطابي الذي يولد نبرة إيقاعية متماثلة تؤشر على بداية مقاطع النص الشعري ونهايتها وتتشكل وفق لوحات فنية تشد انتباه القارئ وتدعوه إلى تأملها بعمق، كما تثير انتباهه بما يحدثه تكرار جمل بعينها أو جمل مختلفة المدلول ومتشابهة من حيث تركيبها ويتولد عنها ترديد صوتي ودلالي يحقق التناغم شبه التام على المستوى الإيقاعي ويولد التعدد الدلالي بمجرد تغيير حرف واحد في المتوالية الصوتية: النبيذ اللذيذ/ الربيع البديع/ الحبيب القريب/ النساء الدواء/ الفريد العديد/ العتيد الجديد.

وقد يلجأ الشاعر خالد شوملي إلى بناء النص الشعري على جملة شرطية مركبة من جملتين جملة فعل الشرط (لو أنها قمر) كما في النص الشعر (قمر) والتي تتكرر أكثر من مرة وتأتي جواب الشرط جملا شعرية تؤثث النص وترسم مقاطعه:

لَوْ أنَّها قَمَرُ!/ لَسَهِرْتُ كُلَّ الليْلِ أنتظرُ/ ولَحِكْتُ مِعْطَفها مِنَ النّجْماتِ/ ثُمَّ غَزَلْتُ ألْفَ قَصيدَةٍ وبَقَيْتُ أنْتَظِرُ.

ويستعمل الشاعر الالتفات كمحسن لفظي يؤثث المدلول الشعري الرؤيوي وفق تصور جمالي. من أمثلة ذلك تغيير الضمير الدال على المتكلم/الشاعر أو الدال على المحبوب/الآخر الغائب. وهو ما يبرر اطراد استعمال ضمير المخاطبة بكثرة في جل قصائد الديوان، ويدل أيضا على أن الآخر يمثل امتدادا للذات امتدادا مشتركا، وعلى أن الشعري مشحون بالعاطفي والوجداني والإنساني، ويصعب على القارئ عزل بعضهما (الأنا/الآخر) عن بعض أو تحديد المقصود بالخطاب؛ فمن التي لم تنتظر حتى يقول لها الشاعر أحبك ولم تنتظر كي يودعها ولم تنتظر حتى يرتب عرش القصيدة والحال أن المعني بالخطاب غير محدد:

لَمْ تنْتَظِرْ كَيْ يُوَدّعَها/ وَيقولَ لَها: حَاذري..حاذِري الْبَحْرَ وَالشَّبَكَة

وكل عناوين قصائد الديوان دالة دلالة بليغة على مدلولها مما يجعلها عتبات أساسية لولوج عوالم النصوص الشعرية، من أمثلة ذلك قصيدة (قطوف من حديقة سرية) التي تمت هندستها مثل حديقة شعرية تعددت أشجارها وأزهارها وورودها واختلفت أنسامها وأنغامها، وجاءت فواصلها ممتدة عبر اثني عَشَرَ مقْطعا شعريا، وتتعدد مواضيعها، وتسعى من خلال كل مؤشراتها الفنية والجمالية إلى خلق الانسجام داخل التعدد ويؤشر على هذا الاختلاف تنوع قافيتها ورويها من مقطع إلى آخر؛ ويعبر الشاعر في مطلعها عن إحساسه بالحسرة والقلق نتيجة الفراق الذي يعتبره نتيجة حتمية للقاء، فشأنه ومُحبّه كشأن نجمين في السماء لم يجتمعا إلا ليفترقا، ومن داخل القصيدة يجد الشاعر منطقا يبرر مقامه وقصيده:

ـ هُـوَ الْقَصيدُ الَّذِي سَيَغْزلُني // عِقْداً جَميلاً يُزَيِّنُ الْعُنُقا

ـ رُوحـــي تُناديهِ والْفُــؤادُ لَهُ // فَلَيْتـَهُ لِلْـقَصيدِ يَنْـتَبِــهُ

2 ــ شعْرية المدلول/ رُوحُ الْمَحبّة والشعر:

قد لا يجد القارئ نصا شعريا في (سكر الكلمات) يخلو مما يدل على الحب أو مما يدل على الشعر؛ وكأن الشعر في جوهره حب ومن أرقى تجليات الحب الشعر. والأمثلة على هذا المنحى كثيرة ففي قصيدة (نخل الأماني) يطرد المعجم الدال على الشعر من قبيل (بيت القصيد/ ورود قصائدي/ جمر القصيد/ ما أجمل الكلمات/ ما أرشق الشعر/ الكلام/ المعاني/ روح الشعر/ والشعر فطمته/ والشعر من ذهب/ قصائدي...). ويتبين أن الشاعر يقعِّد وينظر للشعر من منظوره الخاص عندما يجعل القصيدة تتحدث عن نفسها بنفسها. وقد أراد الشاعر أن يعكس تصوره للحب وللشعر في أطول قصيدة في الديوان (بكل لغات الكون) تضم ثمانية وأربعين بيتا شعريا وتغطي عشر صفحات، وهي قصيدة ميمية على بحر الطويل، مطلعها:

أتمُّ قَصيدي ثُمّ آتي أتَمْتِمُ // كأنّ حُروفيْ وَحْدها تَتَنَظَّمُ

في القصيدة غوص في لغة الشعر وجوهره وبلاغة الصمت وتجلياته بين المحب والمحبوب وترجمة لغة الحواس إلى مضامين مفعمة بالمعاني الراقية والدلالات العميقة التي تصور إحساس الذات الذي تقصر لغة الشاعر عن إدراك أبعادها وإيصال خطابها وفق ما هو مرغوب فيه. فإذا كان لسان المقال لا يترجم للمحبوب مشاعره لأن الصمت أبلغ من الكلام فإن لسان الحال يعرب بصدق عن هذا الحب الذي لا تعكسه اللغة ولا تستوعبه العبارة. ولا مراء في أن تعبير الشاعر عن قصور اللغة عن إدراك مفهوم الحب وتصويره على الوجه المطلوب دليل على أن الحب جوهر مشترك بين جميع الكائنات وأعمق من أن تتم ترجمته إلى لغة أوكلام، وكأن لسان القلب أبين من لسان القصيد.

إلَيْكِ فُؤادي فَاسْمَعِي نَبَضاتِهِ // وَما أصْدَقَ الْقَلْبَ الذّي يَتَكَلَّمُ

والصدق من ميزات الحب الذي ينشده الشاعر خالد شوملي ويسعى إلى تجسيده في الواقع وتفعيله في الحياة واستنباته في تربة النص الشعري من خلال توارد معجم شعري مفعم بالمعاني الدالة على هذا الحقل ومحورها (القلب) وهي الكلمة التي تتكرر بكثرة وبمختلف مرادفاتها، وتأتي دالة على الصدق والوفاء والحياة والشعر والجمال. ويتشبث الشاعر بالمحبوب في ظل هذا المعجم المفعم بالمشاعر وبالقيم ويتعلق به تعلقا مثاليا قويا يتعالى عن كل زمان وكل مكان ويتجلى في كل شيء جميل في الكون والحياة:

تَعَمَّقْتِ في بَحْري فَكُنْتِ امْتِـــدادَهُ // وَنَحــْنُ كَــهَـذَا اللَّيْـلِ لا نَـتَــقَــسَّـمُ

أرَى فِيهِ أحْلامي وَبَدْري وَأنْجُمي// وَغيْري اشْتَكى:يَا لَيْلُ كَمْ أنْتَ مُظْلِمُ

وإذا كان العاذل يمثل طرفا محوريا في حكايات وأدبيات الحب والغرام المتعارف عليها في الموروث الشعري الغزلي فإن صرم حبل الود بين المحب الذي يجسده الشاعر والمحبوب الذي يتجلى في ديوان (سكر الكلمات) في عدة أبعاد دلالية وتأويلية يدفع بالشاعر إلى تفنيد أقوال العذّال وادعاءاتهم وكل مزاعمهم الكاذبة. وفي نفس السياق، ولكي يعمق الشاعر مدلوله الشعري وحجته، يقترح عدة صور شعرية تنبني على ثنائية الشيء وضده يضمنها حكما تعكس تصوره ورؤيته وتجربته الخاصة التي ترفد من مدونة الشعر العربي في أبها نماذجه الراقية:

وَمَنْ يَضْرِبِ الْعَلْياءَ سَهْماً كَأَنَّهُ //عَلَى نَفْسِهِ يَرْمي الْحَصاةَ وَيَرْجُمُ

وَمَنْ عَابَ أنْهاراً لِرِقَّةِ مَـائِهَا // فَــلا يـَـلُـمِ الْـبُــــــرْكَانَ إذْ يَتَجَهَّــمُ

ولا يملك الشاعر في المقطع الأخير من قصيدة (بكل لغات الكون) إلا أن يستمر في سيرة الصعود ناشدا الحب ومرجحا منطقه وعارضا تصوره على شكل مؤشرات دالة وإيحاءات ذكية يستقيها من تدبره للطبيعة وتفكره في الكون من حوله ويعضد تصوره المبني على الحجة والبرهان. وتتداخل فيها الحبيب بالقصيد والواقع بالحلم والحقيقة بالخيال. ويركب الشاعر صهوة الخيال راغبا في القبض على الصور المثلى للحبيب التي تخرج في كثير من سياقاتها عن الزمان و المكان المحددين، خاصة عندما تسكن ذات الشاعر وتتحكم في مشاعره ووجدانه، وعندما يروم القبض على صورتها يجدها عصية ونافرة ومنفلتة، صورة تتناغم وتصور حب الشاعر خالد شوملي لموطنه الأصلي وبلده الحبيب فلسطين التي تجسد أرقى تجلياته العاطفية والفكرية في الماضي والحاضر والمستقبل:

هُوَ الشِّعْرُ عُنْوَانِي وَأنْتَ قَصِيدَتي// وَمَا أجْمَلَ الْأشْعارَ إذْ بِكِ تُخْتَمُ

وعلى إيقاع المحبة نفسه يرسم الشاعر في مطلع أول قصيدة في الديوان صورة لقمرين جميلين يرقصان على تقاسيم الكمان ويشعران بنشوة اللحظة على الرغم من خوفهما مما يترقبانه مما قد يحدث، ويلتصقان ثم يكتملان ويختفيان في بحر الجمال حتى الموت. إنه تجسيد فني لدورة زمنية يعيشها عاشقان ومحبوبان يواجهان كل التحديات ولا يعبآن بتحديات الحياة، ويستمران على الطريق في ألفة ونشوة وعشق وتوحد إلى آخر قطرة في العمر. وتنفتح الثنائية الرمزية على العاشقين بمفهومهما العام الذي يمكن أن يشمل الشاعر والآخر بأبعاده الدلالية المختلفة كالأهل والأحباب والخلان والوطن.

وينتظر الشاعر وصل الديار، ديار الأهل والأحباب والوطن، متحديا الزمن، وعلى الرغم من إكراهات البعد والنوى، ويشتاق الشاعر للمحبوب فيقيم رحلة العشق والكشف والحنين راكبا صهوة الخيال مزودا بالنور والضياء. ويقوده الليل بسكونه إلى التأمل في محيطه المكاني وفي امتداده الزماني، فلا عقارب الساعة الخرساء تجيبه، ولا الرغبة في نسيان الذكريات تطاوعه، فيفيض قلب الشاعر شوقا وعشقا وتوقا ليؤكد أن حبه باق إلى الأبد كخيار لا رجعة فيه.

سَوْفَ يَبْقى الْحُبُّ دَوْماً لِي شِعاراً // وَشِراعاً مُشْرَعاً فَوْقَ الْبِحارِ

بَعْدَ عُمْرٍ جَاوَزَ الْخَمْسينَ عِشْـــقا // حُبُّكِ السَّاحِرُ لِي أحْلى خِيــارِ

وعلى نفس النهج يظل الشاعر صامدا في طريق الحب ماض بلا نكوص ولا رجعة ولا هوادة ولا ضير في ذلك فالحب سرمدي ما دام المحبوب يتجسد في كل شيء جميل في الوجود. لأن المحبوب يمثل الحياة كلها بليلها ونهارها وحاضرها ومستقبلها، فهو المصير وهو الحال والمآل. وبالمقابل يصور الشاعر الطرف الآخر في حالة إعراض دائم ونفور متواصل غير مبرر لا يفي بوعوده فيخيب أحلامه ويستمر في نكرانه وجحوده على الرغم مما قدمه الشاعر في حقه وما توسل به من كلام جميل والتماسات للظفر بحبه، وعلى الرغم من هذا وذاك يظل الشاعر متشبثا بالأمل والحلم:

وَهْيَ الْغَدُ الآتي وأمْسي // وهْيَ بَيْنَهُمَا الْمَدَى الرَّحَبُ

ومن القصائد المركزية أيضا في الديوان قصيدة (أحْببتُ فيك صَراحةَ الصّبّار) التي يضمنها الشاعر تقديره واحترامه للمحبوب الذي تدل عليه كاف الخطاب إذ يحييها على وجه التعجب على صبرها واستماتتها بعد أن يصور مكانتها في القلب والوجدان والملاحظ أن الشاعر في هذه القصيدة كما في غيرها لا يقصد بالخطاب شخصا محددا بقدر ما تمتد دلالته إلى وطنه فلسطين ومن المؤشرات الدالة على هذا المعنى قوله:

وَكَرامَة الثّوّارِ فيك تَشُدُّني // نُبْل الْفداءِ وَرَمْزُ كُلّ فَخارِ

ويصور الشاعر اللقاء بالحبيب كلحظة عابرة تنقضي بسرعة ولا تؤتمن على بقائها ودوامها، وينم هذا عن تصور الشاعر للزمن الذي يتقلب ويتغير ولا يستمر على حال. وتسكن نغمة الرحيل والهجر كثير من قصائد الديوان منها قصيدة (وداع) ونغمة الشوق والحنين في قصيدة (شوق) التي ينادي الشاعر في مطلعها نجمة الحب ويلتمس منها أن تطير إلى جبل الأحباب منبع الحلم والذكرى والأمل، ويعرب عن تعلقه بها ومكانتها في القلب الذي يضاهي الكون جله أو كله:

أنا وأنْتِ وكُلُّ الْكوْنِ ثالثُنا // والْكَوْنُ أَهْمِلُهُ إنْ كُنْتِ أنْتِ مَعِي

3 ــ شعرية الرؤيا / وحدة الوجود:

تنهج قصائد كثيرة في الديوان نهجا فنيا يرمي إلى القبض على المنفلت من الرؤى الوثابة عبر مضامين ومشاعر ومعاني العشق والحب والتذكر والتفكر، والإحساس بالهجر والوحدة والغربة عن الوطن وعن الأهل، والشعور بالأرق والوجع والألم والشوق إلى الحلم والأمل والحرية. وتتكرر ثلاثة عناصر أساسية في بعض قصائد الديوان هي الانتظار والليل والقصيد، وتتفاعل تفاعلا قويا لتنسج الرؤيا الفكرية التي يصدر عنها الشاعر. وقد يخاطب الشاعر المعني بالصفة دون تحديده ليصور الشعر كوسيلة للتقرب إلى المحبوب ورؤيته وأداة للكشف عن حقيقة الرؤيا في بعدها التأويلي. ويعمد الشاعر في قصيدة (نجمة الحب) إلى تشبيه نفسه بالبدر الذي إنْ هلّ عليها أن تنتبهَ إليه، لأن ما يكتب من شعر إنما من أجلها، ولا غرابة في ذلك، فهي التي لا شبيه لها في الروعة والخيال والجمال.

يا نَجْمةَ الْحبِّ هَلَّ الْبَدْرُ فانْتَبهي // لَمْ يَكْتُبِ الشّعرَ إلاّ كَيْ يَراكِ بِهِ

ويخاطب الشاعر في نص (مشاغبة) القمر فيعاتبه على بعده ويلتمس منه أن يسكن جنان قلبه، تعبيرا عن التوق إلى الجمال والكمال، وعندما يتحقق الوصال كما في نص (احتراق) يحدث الاختناق ويغرق المحبوب في بحر الحب فيموت. وتراود الشاعر نشوة الحرف فيرى في الشعر ذاتَه التي تصيبها نشوة الحب والهيام والحلم والحرية فترقى إلى مدارج رحبة لا تحكمها قيود ولا جدران:

كَبرْتُ في الْحُلْمِ والأشْعارُ تَحْملُني // ضَاقَ الفَضاءُ وهَذا الفَضاءُ مَا اتَّسَعَا

وترصد قصائد الديوان تجادل عالمين داخلي خاص وخارجي عام تقوم بينهما علاقة تفاعل قوية تعرف حركية متغيرة ومتقلبة لا تستقر على حال بقدر ما تتحكم فيها اللحظة الشعرية ونوع الإحساسات والمشاعر والهواجس التي تنتاب الذات التي تسعى من خلال القصيدة إلى الكشف عن تجليات الرؤيا الفكرية التي تعكس تجربة الشاعر؛ وفي غياب الحب يفقد العالمان حلاوتهما وتفقد الكلمات سكرها، ولا غرابة في ذلك، ما دام الحب إكسير الحياة والحرف روح القصيد. وعلى هذا المنوال يسري الغرام في قصيد الشاعر نهرا متدفقا ويتخيل حضورَ كُلِّ من يحب في مختلف عناصر الكون والفضاء والطبيعة، ويتذكر، من خلال هذا كله، الماضي الجميل بمختلف مؤشراته الحميمة، ولا لوم للشاعر ولا عليه في اقتحام أبواب التذكر وفتح نوافذ الحنين ومباهج الشوق المحرقة:

مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْحُبِّ يَرْفُضُ غَيْرَهُ // لَمْ تَخْتَلِفْ في حُكْمِها الْأَذْواقُ
ويصور الشاعر نفسه وكأنه يزرع الزهر في حقول الأحبة وينسج بيت القصيد كي يرتديه الحرير، ومن بداية كل لحظة إلى نهايتها يغادر المكان حرا طليقا لأن في حريته حياته ودونها الموت الزؤام. كما في قصيدتي (دعيني طليقا) و(يا طائر الحب). ويستمر الشاعر محلقا ناشدا الحرية وعازفا على وترها المطرب. وينبني نسيج مدلول القصيدة على ثنائية النور والنار التي يشكل كل منها حقلا دلاليا وقطبا يتفاعل مع الآخر ليؤسس لرؤيا فكرية تجعل من الشعر عالما خاصا يسكنه الشاعر ويتخذه ملاذه إذ يجد فيه حريته التي يفتقدها في الواقع، حيث تغدو القصيدة جمرة ولهيبا ويحسده على هذه الحرية التي تجعل منه طليقا ومتحررا من كل القيود:

في قَهْـوَةِ الْخَدَّيْنِ سُكّرُ فِضّـةٍ // وَفَمُ الْقَصيدَةِ جَمْرَةٍ مِنْ نَارِ
وبعد أن تستيقظ أشواق الشاعر عبر القصيدة وبها يؤكد مرة أخرى حبه للمحبوب ويأمل أن تهب رياح لواقح وسحب ممطرة فتسقي الواقع الجذب ويعم الخصب و والسلام والجمال. ولا يتوانى الشاعر في التعبير عن عسر القبض على الرؤيا الشعرية التي توازي حريته عندما لا تطاوعه القصيدة وتتبعثر أفكاره وحروفه فيعيش مخاضا وصراعا حقيقيا لا يقل صعوبة عما يعيشه الإنسان الفلسطيني وهو يسعى إى تحقيق حريته ووجوده المستقل والمرغوب فيه على أرض الواقع، لكن الأمل يراود الشاعر فيعن له بدر حالم ومشع ينير مداره المظلم:

وكَمْ اقْتَرَبْتُ مِنَ الْقَصيدَةِ حائراً! // ثُمَّ ابْتَعَدْتُ مُبَعْثَرَ الْأفْـــكارِ

وأعَدْتُ تَرْتيبَ الْحُروفِ مُجَدّداً // فَقَرَأتُ ما بَيْنَ الرّمادِ دَمارِي

فأدَرْتُ نَرْدَ الشّعْرِ أرْجُو حَظّهُ // فَرَأيْتُ بَدْراً سَاحراً بِمَـدَارِي

نستنتج أن نصوص الشاعر خالد شوملي تصدر عن وعي فكري وفلسفي عميق يتعالى عن الواقع الفعلي الكائن ويتوق إلى عالم ممكن تتحقق فيه تصوراته المحتملة وهو تصور تشكله مختلف قصائد الديوان وتعكسه وبشكل تفاعلي ومنسجم كل مكونات النص الشعري وعلى جميع مستوياتها التعبيرية، وهو ما يكشف عن طبيعة المتخيل الشعري عند الشاعر الذي حاولنا ملامسته في هذه المقاربة التي رامت رصد تجليات موضوعة الحب وشعريته والكشف عن أهم العناصر المشكلة لها.

ويتبين أن شعرية النص الشعري عند الشاعر خالد شوملي تستند إلى تصور فكري رحب وعميق يتسم بالصدق والخيال والجمال. ويراهن على التحقق الجمالي بناءاً على التباين على مستوى الشكل الفني للنصوص الشعرية والرغبة في خلق التشاكل من داخل القصيدة وحسن المواءمة بين شكل القصيدة ومضمونها وخلق الانسجام التام بين جميع مقوماتها الفكرية والفنية والجمالية. بحيث تغدو القصيدة في تجلياتها الكثيرة وطن الشاعر ويغدو الوطن هو القصيدة التي تعيد صوغ العالم.

أمّا أنا فَالْقَصيدُ لي وَطَنٌ // وَالْحُلْمُ بِالْمُستحيلِ وَالنَّظــرُ

وتطاوع القصيدة الشاعر وتنصاع له وتنقاد وفق طبيعة الرؤيا الفنية التي يصدر عنها ووفق هندسة نصية محكمة. ولا يتوانى الشاعر في تشكيل قصائد الديوان من خلال اعتماد فواصل متعددة والمراهنة على أهمية التشكيل كبعد جمالي. وعلى اعتبار الذات محور التجربة الشعرية ومَوْرِدُ رؤاها وتصوراتها وامتداداتها في في خضم تفاعلها مع الآخر. وهكذا تنصهر القضية في القصيدة والقصيدة في القضية والذات في الآخر وتتسع مساحة الوطن ليملأ العقل والوجدان كله والمحيط والعالم جله. وتظل نشوة الحب لحظة وصال روحي لا يحكمها قيد الزمان أو المكان مفعمة بالمعاني الراقية والأحاسيس المرهفة والمبادئ الرفيعة والقيم الراقية والخالدة:

ــ اَلْحُبُّ.../ مِلْحُ الْأَرْضِ ... سُكَّرُهَا/ وَلَمْحَةُ عَاشِقَيْنِ إلى الْأَبَدْ

ملاحظة:

قدمت هذه الدراسة بمناسبة احتفاء جمعية الأوراش للشباب فرع مولاي إدريس زرهون/المغرب بالشاعر الفلسطيني خالد شوملي، في المهرجان الثالث عشر لربيع الشعر أيام 10/11/12 أبريل 2016.

مصطفى الشاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى