الخميس ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

في صمت الجائحة

لم نكن نعلم، مسبقا، أن الحياة ستتبدل بهذا الشكل، ولم نكن على دراية أن الجائحة ستجتاح طقسنا اليومي، بل ستدخل في تفاصيل مواقفنا و سلوكاتنا، التي كانت تأخذ حيزا تلقائيا في باحة اللاإرادي و اللاشعوري. لم نكن مستعدين، بما فيه الكفاية، إلى هذا النزال والإبدال العميق في الحياة، وأنت ... تنظر إلى الآخر نظرة يشوبها ارتياب وشك وريب ، بل وخوف وحنين وأمل وألم. لا نستطيع دخول معركة، كي نتجرع فيها خسارة وهزيمة ساعة بساعة... قطرة بقطرة... إننا مجردون من أسلحة نقاوم بها هذا الإبدال، الذي أربك العالم بأسره، وسافر عبر الوتين.

منذ ظهور هذا الوباء، ونحن نسابق الزمن، ونراهن على فصل الصيف؛ فصل الحرارة، التي قيل إنها ستنتصر على هذا الفيروس ، ستعمل على جلده و إذابة طبقاته الدُهنية، ومن ثم التلاشي... مدحورا يسقط تاجه من على رأسه؛ لتدوسه أقدام البشر، خائبا سيعود إلى مباءته وعشيرته؛ ليتجرع مرارة الهزيمة، ويتعلم الدرس؛إن الشمس والقمر والنجوم و الكواكب والرياح والأمطار هي مسخرات للإنسان ؛ لأنه خليفة الله في الأرض. وأخيرا، سيدرك الفيروس أنه كان يطارد خيط دخان.

وبمجرد ما بدأت صور رعب وخوف و موت، تسافر في أثير قنوات البث التلفزي عبر العالم، ومن خلال شبكاتها العنكبوتية، علاوة على رسم حدود جديدة برية وبحرية وجوية بين دول المعمور، وفضلا عن إغلاق كل ما يسبب التقارب، ولا يضمن التباعد بين الأجساد البشرية ، حتى شرعت الكفة في الميلان نحو النفق المظلم، نحو مغارة بين الضوء والماء . سرداب مدلهم ستدخله البشرية مكرهة، تاركة وراءها عالما من الحنين والشوق الأبدي إلى العمل والسفر والأكل و الكلام واللقاءات والسمر ...

جاء الحجر الصحي يقرع طبول الندم، وكان الكل يسابق الزمن ضد إغلاق أمكنة تبضع وتسوق، لطالما كنا نتمسح بغبارها، وننعم بأفيائها وظلها المترامي، فوضعت حواجزُ في مداخل ومخارج المدينة وفي أحيائها، فانفصلت المدينة عن مدينة، التي تغنى بها الشاعر المصري عبد المعطي الحجازي. فأصبحت ـ أي المدينة ـ منذورة لصفارات الإنذار، التي تطوي أزقة وشوارع، متسارعة نحو أقرب مشفى.

فكنا نعيش، حقيقة دون مواربة، حربا ضروسا ضد فيروس غير مرئي، استطاع في لمح البصر، أن يفجر ينابيع الوجل في دواخلنا ويشل أذهاننا، ويغير من عاداتنا وسلوكاتنا الكثير. فكثير من الناس كانوا يحملون المؤن إلى ذويهم، ويضعونها على عتبة منازلهم، ويغادرون في صمت ودون إزعاج ... خوفا من عدوى تتربص بكل فرد فرد، بيت بيت، زنقة زنقة. أو أن تكون هناك وساطات لجمعيات التموين؛ مبادرات لشباب تمرسوا على العمل التطوعي، يزودون الأهل بأغراض ومتطلبات اليومي.

في صمت الجائحة، هل انتصر علينا الفيروس؟ أم سياسة الاحتراز كافية للخروج من هذا النفق المُعـْتم ؛ هل التباعد الجزئي أو الكلي ، وغسل اليدين باستمرار، ووضع الكمامات كفيلة بإنقاذ البشرية من هذا الوباء المتفشي؟ فأيَا كانت الأخطاء، التي اقترفها بعض المسؤولين في خرجاتهم وتصريحاتهم الإعلامية حول الجائحة ومتطلبات الوقاية منها، فإن للزلة عذرا مقبولا؛ وذلك أننا لم يسبق أن واجهنا مثل هذه الظروف الاحترازية من قبل، بل لم نعش يوما ملابسات تصاحب أوبئة ضربت الإنسانية عبر التاريخ الحديث.

إن لحظر التجول، في صمت الجائحة، وقعا على النفوس، الشيء الذي يدفع الخوف على الأقارب و الأحبة، خصوصا من كبار السن، كي يبلغ مداه. وفيها يسعى الوجل الشديد نحو تأزيم النفوس عندما تـُنقل على شاشات التلفزة مئات، بل آلاف اللحود تنقل، بفعل الجائحة، إلى مثواها الأخير. وبالرغم من ذلك، إننا سنكمل الدرب نحو النور، رافعين التحدي؛ نؤمن بقوة الوعي و المسؤولية. فمهما حاولنا أن نتيه في تفاصيل اليومي والمعيشي، إلا أننا ننشد بقوة وعزيمة، بل ننتصر إلى المجتمع المتحضر و المثقف فيه يبوصل الرؤية و العمل معا نحو غد كله أمل في الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى