السبت ١٣ آذار (مارس) ٢٠١٠
محمود درويش في عيد ميلاده التاسع والستين
بقلم رابعة حمو

قدسيــة فلسطين من على عرش الكلمة

يمر عيد ميلاد الراحل محمود درويش هذه العام مكتومٌ صوته على غير عادته كأنه محاطٌ بأسوار مدينته عكا الكنعانية العنيدة، التي حملت على أسوارها كلماته وغدت فناراً يضيء ليلها البهيم من سواد الاحتلال، صمت يلي عاصفة هوجاء بعد نشر آخر ديوان له في عيد ميلاده 68 العام المنصرم حاملاً عنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»

مذيلة بملاحظة «الديوان الأخير». ويأتي عيد ميلاد درويش في هذا العام ولم تزد كلمة واحدة أو قصيدة على دفتر أشعاره. التي كنا تنمنى أن لا نراها تنتهي وأن نرى فيها «ملحمة غزة»، لتخلد ذكرى شهداء الهولوكوست الفلسطيني شتاء العام الفائت، أو قصيدة تروي فيها قصة الأمهات الثكالى والأطفال الذين شردوا أو تيتموا لعائلات غزة المنكوبة كرائعته «مديح الظل العالي» أو«حصار لمدائح البحر» المهداة للفدائي الذي دافع عن مدينة بيروت والصمود التاريخي للمقاومين الفلسطينين واللبنانين وتخليده لمجزرة صبرا وشاتيلا، وقصيدته المهداة لهدى غاليـة «البنت الصرخة» أو قصيدته «محمد» للطفل الشهيد محمد الدرة. او قصيدته الطويله «حالة حصار» التي اجترحها من ليالي حصار الشعب الفلسطني عام 2000 لرام الله والضفة الغربية، وغيرها من عشرات القصائد التي أتى فيها درويش على نضال شعبه وثورته ضد الظلم والبطش تحت سمع وصمت ذوي القربى.

ولأن درويش أدرك أهيمة شعره وحساسته ضد الظلم منذ ان كان يراع قلمه غضاً طرياً في سنوات شعره الأولى، وعرف أن الشعر ليس بريئاً تماماً بل استحق بجدارة أن يكون ديوان العرب وسجل تاريخهم ومرآة عصرهم منذ قيس العرب حتى عصرنا الحالي، ودرويش الذي لم يكن وفياً إلا لشعبه الفلسطيني عودنا أن يكون معنا دائماً في كل محطاتنا المأساوية وكل ليالينا الأليمة ومسيرتنا المضمخة بالدماء الطاهرة التي تسيل على أرض الأجداد منذ وعد بلفور المأفون مروراً بمرتزقة مهاجر روسيا ليبرمان حفيد جولدا مائير ومن ناصره في الكذب والاحتيال وسرقة وطن من شعبه بذرائـع لا تعمى إلا علـى مـن هو أعمى بعيـون صهيو-أمركية أو من تهصين أو من تأمرك لمن يشد على أيديهم من أبناء جلدتنا المصابة بالصدفية.

نعم يعتصرنا الألم والحزن على غيابه في يوم ميلاده، بل ونحس بطعم المرارة وجلل الفقد، ليس لقيمة درويش الإبداعية وموهبته الفنية التي أسسها في الشعر العربي الحديث فحسب، وليس لأن محمود درويش كجده المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس في شعره الذي يختلف النقاد عليه بين مادح أو قادح ... فتلك قضية أخرى يهتم بها أهل الاختصاص بالنقد الادبي العربي. بل نفتقد هذا الحصان الأصيل، بهي الطلة، رقيق الحمحمة الذي لم يكن مخلصاً إلا لمعشوقته الأبدية فلسطين التي لم تنازلها إمرأة أخرى إلا وفقدت الرهان في قلب هذا العاشق الساحر والذي قال فيها: فككت كل مفردات اللغة لأركب مفرد واحدة هي الوطن. وطن عظيم بعظم تضحيات شعبه، وطن جريح بحجم جرح أبنائه، وطن مقدس لشلال الدم الذي يسيل على ترابه. وشاعر كبير كمحمود يليق بهذا الوطن وتليق له هذه المعشوقه التي ما خيب ظنها يوماً، ولا حاد عن حبها، وطار يشدو بها ولها ولكل من فيها وعليها في كل أصقاع الارض. ثنائيان رفيقان جذبا كل من نطق بالضاد وغيرهم من أحرار الأرض ومحبي الشعر بجاذبيتهما. شاعر ووطن، لغز لا يفهمه إلا من رأى جنازة هذا الشاعر الذي خرج في وداعه الالاف من كل أطراف فلسطين. التي لم نسمع ولم نر أي شعب على وجه هذه البسيطة خرج لتشيع شاعره بالآلاف كهذا الشعب، وكهذا الشاعر.

نعم نفتقد محمود درويش الآن وغداً وبعد غد أكثر، لانه أشد من نادى لفكرة سلاح الثقافة هو السلاح الاقوى والابقى وهو الأكثر ما يحتاج إليه الفلسطينيون في هذه المرحلة وفي هذا الوقت بالتحديد، وليس السلاح المعدني. وهو وأن توفر لهم –وهيهات- فهو متمم ومكمل لمعركة الثقافة، ذلك لأن الفلسطينين يحتاجون إلى أدوات لا يمتلكها العدو ولا يستطيع أن يمتلكها مهما بلغت قوته وعنجهيته. يحتاجون الى وسائل يستطيعون فيها تهديد الثقافة الاسرائيلية المركبة والمزورة القائمة على تزويرالمعرفة. والطريق إلى ذلك هو بمعرفة مضادة، بالحقيقة التي تدحض الاسطورة، والحق الذي يدمغ الباطل، والصدق والامانة ضد التزوير والتلفيق. نعم في مرحلتنا هذه نحتاج لرموزنا الثقافية ولعناوين نهضتنا المعرفية ولمخنزوننا الثقافي الاستراتيجي كشاعرنا الراحل محمود درويش والناقد العالمي إدوارد سعيد والفنان المبدع ناجي العلي والتشكيلي اسماعيل شموط وتمام الأكحل وتوفيق صايغ وأنيس صايغ، وإبراهيم ابو لغد وهشام شرابي وعز الدين المناصرة ورشاد ابو شاور وكل مثقف فلسطيني حرّ حمل ويحمل فلسطين على كاهله وجعلها ويجعلها مداد قلمه وزيت مصباحه لينير بها طريق الحق لكشف زيف المخطط الاسرائيلي في بناء هوية يهودية اسرائيلية نقية لا وجود فيها للفلسطيني الذي يربك حساباته منذ اكثر من 60 عاماً، ويفضح نقاء يهودية دولته التي يريد ان يقيمها على جثث أبناء الشعب الفلسطيني الذي وقف حجر عثرة أمام تحقيقها منذ تأسيسها للآن، بل وأحرج العالم المتحضر الذي يتغنى بقيم الديموقراطية والعدالة والحرية والانسانية ببسالة نضاله وبقائه على قيد الحياة ماكثاً على أرضه وأرض أجداده رغم المجازر والقتل والدمار والاقتلاع لايمانه بعدالة قضيته وأحقيته لهذه الأرض التي انتزع شرف الانتساب إليها بنضاله الحر طيلة مسيرته الشعبية وأسقط مقولة «شعب بلا ارض لارض بلا شعب».

نعم نفتقد محمود درويش كثيراً لانه من هؤلاء العظماء الذين خلدهم التاريخ في الأدب كمقاومين ضد الاحتلال والهيمنة الاستعمارية على شعوبهم وفضحوا سوءاته كبابلو نيرودا وناظم حكمت ولوركا، ومن هم العظماء إن لم درويش واحدا منهم؟ بل ربما يكون محمود درويش آخر القديسين الوطنيين الذي ضرب مثالاً عن الإنسان الذي يحب وطنه حدّ الموت فيه وحدّ الذوبان في جزيئاته. أولم يمت ورحيق وطنه على شفتيه؟ أولم يابى أن يسجى الثرى إلا عندما احتضن تراب بروته العكية معه إلى العالم السفلي؟ أولم يدفن إلا على تلة مشرفة على بهاء قدسه الحبيبه.
محمود درويش الذي نشتاق اليه في يوم ميلاده عاش عاشقاً لفلسطين، ومات عاشقا لفلسطين، طوبى لفلسطين وطوبى لعاشقها محمود درويش وسلام عليها وعليه في يوم ميلاده ، ويوم وفاته ، ويوم تتحرر فيه تلك البلاد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى