الثلاثاء ١ أيار (مايو) ٢٠١٨
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «وشم بالذاكرة»

يقول محمود المسعدي(1): "الأدب مأساة أو لا يكون" ففي الغالب لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا كان مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء المحيطة بنا، لاكتشاف الواقع الملموس فالشعر عند الشاعر وليد حسين هو مجازفة وتجريب و كسر للثبات والجمود في قصائد يمكن تصنيفها بقصائد الحزن و الغربة والألم فالشاعر هنا لا يعاني الحزن و الألم في شعره فقط بل يجعل من الحزن بابا للدخول إلى الفن و الإبداع و هذا ما عبر عنه شاعرنا في إحدى حواراته: "وكلما ازداد هذا العراق العظيم صخباً ووجعاً ازددنا شعراً وتألقاً لأن الشعر يولد من رحم المعاناة ويستطيع ان يمد مجساته لكل شاردة وواردة ليخلق صورا جميلة" (2) فشعر وليد حسين يولد من رحم المعاناة فهو يتألم و لكنه يحول هذا الألم إلى فلسفة شعرية راقية تشد القارئ وتأسره وتعرج به نحو عالمه بألمه وحزنه لتتفتح لنا أزهار من الشعر تزين صفحات الأدب العربي.

فبعد مجموعته الشعرية، "على مرمى حجر" التي تناولناها بالدراسة في وقت سابق، يتحفنا الشاعر العراقي الكبير"وليد حسين" بمجموعته الشعرية "وشم بالذاكرة" والتي صدرت عن دار الرافدين للطباعة و النشر و التوزيع بيروت لبنان سنة 2017، في 120 صفحة ضمت بين طياتها 23 قصيدة.

مع العلم أن المجموعة الشعرية "وشم بالذاكرة" مثلت نسيجا دلاليّا لقضايا ثقافية مدارها الغربة و الاغتراب والتشتت و الحزن لها تناصّها مع الواقع الحديث (واقع العراق) و قضايا الوطن و المجتمع سياسيا و اجتماعيا والتي أهداها لأخوته ، يقول في الإهداء:

"إلى أخوتي..
علي
خالد
ومحمد
البيت الذي ترعرعنا فيه
لم يعدْ قادراً على الإجابة
عن أسئلةٍ كانت تضجُّ بنا "

و الإهداء لا يمكن المرور عليه مر الكرام فالأسئلة المطروحة التي تضج بهم لم يعد بالفعل قادرا عن الإجابة عنها جراء الغربة و التشتت فالبيت (المسكن و الوطن) بات يشتاق إليهم يحن إلى لم شملهم ليبدأ افتتاح مجموعته بنص استفهامي "أترحل يوما " للتعبير عن الرحيل عن هذا الوطن بنبرة حزن طغت على جميع مقاطع النص صفحة (7).

أترحلُ عنَّا؟
فمن ذا يرى
مَآقٍ عَلِقْنَ بنزفٍ جرى
تُكابرُ.. ترنو
بحنوِ اشتهاءٍ ينازعُ وجداً
لكي يَغْفِرا

ليتبعها بلفظة "ألا ليت شعري" و التي عادة ما نجدها عند الشعراء القدامى و التي يمتد جذورها إلى العصر الجاهلي كما أن هذه اللفظة تعني لسان حال الشاعر و التي في كثير من المراجع العربية لا تأتي بمعنى واحد و لكن الشاعر يأتي بها لوصف شعوره و ما يجول بخلجاته حيث جاءت هنا للتعبيرعن اليأس والحزن على ما آلت إليه البلاد يقول صفحة (9):

ألا ليت شعري..
بهمسِ ارتجالٍ تُقيمُ البلادُ
لنا مِنبرا
فكيف تُقَلْقلُ قوماً!
نياماً..
أماطوا اللثامَ وبانَ الكرى

لينتقل بنا إلى قصيدة "أخي خالد" صفحة (13) و هي عبارة عن رسالة موجهة لأخيه فأشواقه تسافر من مكان إلى مكان تقطع المسافات ليكون اللقاء على أوراق الرسائل التي ملها على أمل لقاء حقيقي بعيد عن لقاء الرسائل الجاف يقول صفحة (14):

يقلّبُ طرفاً..
في السماءِ لعلّهُ
يسابقُ جفناً أرهقتهُ الرسائلُ
وينأى بنا..
عمّن توجّسَ خيفةً
شغوفاً أذا ما الشوقُ جاء.. يغازلُ

متمنيا لو أن البلاد تسعى إلى جمعهما يقول صفحة ( 15 و 16 ):

أخي خالدٌ..
ليت البلادَ تظلّنا
تُحفّزُ شوقاً باعدتهُ الفسائلُ
نمرُّ على الدنيا بغير وِفَادةٍ
نقاطعُ رأياً..
خلفَ فكرٍ يُجادلُ

ليبين حال الغربة لكليهما و عيشه على ذكريات الطفولة التي يتقاسمانها في ذلك البيت والوطن يقول في نص "وشم بالذاكرة" صفحة (27-28 ) و الذي حمل عنوان المجموعة و الذي يتكون من كلمتين: "وشم" و هو شكل من أشكال التعديل الجسدي بوضع علامة ثابتة بالجسم و كلمة "ذاكرة" وهي إحدى قدرات الدماغ التي تُمكِّنه من تخزين المعلومات واسترجاعها.

كلانا..
رنا لمّا أناخَ بغربةٍ
يُحرّكُ صمتاً دون شكٍّ يُغامرُ
يُخالجُ ظلَّ الوقتِ منذِ طفولةٍ
مضتْ.. بين ذاكَ اللجِّ
ينعاكَ غابرُ
يناهضُ صوتَ الريحِ
شتَّانَ أمرُنا
أذا أقبلَ الرعدُ الصليلُ يكابِرُ
أيا غربةَ الأرواحِ..

فالإنسان عموما لا يمكن له العيش بدون تلك الذاكرة الطفولية التي تشكلت بمضامين ومعاني متعددة لينتقل من الواقع السلبي إلى الفعل الإيجابي. كما أن ذكريات الطفولة التي تراوده مرة تلو أخرى تتكون في داخله في شكل ومضات لتخرج شعرا عذبا وصورا تذكارية رغم ما فيها من مسحة حزن و قلق حيث تكررت عبارة الذكرى 9 مرات بسياقات مختلفة:

عنوان القصيدة
الصفحة
العبارة
أترحل يوما...؟
10
تطوف على القلب ذكرى
أخي خالد
13
كأن الذكريات تناوبت
خجلى جفوني
21
بما نديت ذاكرتي
وشم بالذاكرة
27
على هامش الذكرى بوشم تناظر
ليتدل الفرح
43
يشتت ذاكرة للماضي
ثمة سؤال
57
و ذكريات الأيام الغارقة
ثمة سؤال
57
و لن يغادر ذاكرتي المفجوعة
أيها العابرون
93
الباذخة بالذكريات
عند مواقد للحب
97
تقتطع جزءا من ذاكرتي

يقول عبد العزيز المقالح: "يتجلى في التكوين النفسي للشاعر، وهو تكوين متميز – كما يصفه علماء النفس – يقوم على الإحساس المرهف والخيال الخارق. وهذا التكوين الخاص أو المتميز يجعل الشعراء والفنانين وسائر المبدعين في حالة قلق دائم وتوتر مستمر"(3).

و بناء على ذلك فإن هذه المجموعة التي بين أيدينا، تعتبر نتيجة من نتائج معايشة الشاعر للأوضاع والتحولات التي يعيشها العراق من صراع على السلطة إضافة إلى الصراع الطائفي مما أثر سلبا على نفسية الشاعر مما جعله ينفث لنا سيلا من شظايا الحزن و الوجع فيها من التمرد على الواقع الشيء الكثير.

يقول في نص "خجلى جفوني" صفحة (22):
حزنٌ يسومُ فؤادي شطرَ أوردةٍ
حتى تسارعَ خطوٌ
في ثنا النبضِ
صوتٌ حسيرٌ يئنُّ منذ فاجعةٍ
أرسى عقوقاً لنا..
من شدّةِ النقضِ
أيُّ ارتجالٍ سبى.. فكراً
بلا هلعٍ
يدنو الى ناقمٍ في وأدِهِ يقضي

كما أن الدخول إلى معاني الحزن (تكررت اللفظة 10 مرات): "و في شعرنا المعاصر استفاضت نغمة الحزن حتى صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إن الحزن قد صار محورا أساسيا في معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد" (4) يقول في نص "وجعي ترابي" صفحة (33):

مفتونةٌ تلكَ الفصولُ
بمعجزٍ..
ولها اعتقادٌ أنْ يحلَّ بموسمِ
وكما تحرّزَ انْ يكون ممهّداً
للحزنِ..
منذ غضاضةٍ لم يَكتُمِ
فالحزنُ لو أزفَ الوداعُ
لمُجهشٍ
ماكنتَ تَكتمهُ..
بفَقدٍ مُؤلمِ

و الغريب في ذلك أن الشاعر كرر نفس النص صفحة (75) مع تغيير العنوان ليصبح "لا شيء مثلك" ربما لتأكيد حالة الحزن و المعاناة و الاضطراب و القلق التي يعيشها الشاعر بعيدا عن وطنه و أهله صفحة (34 و 76):

وجعي تراكمَ..
لن يفرَّ عن الأذى
وكأنهُ قيدٌ يُحيطُ بمعصمي
فتثاقلتْ قدماي منذُ محطّةٍ
وتخلَّفتْ..
لو تستجيرَ بِسُلّمِ
لكنّني قلقٌ..

و هذا يأخذنا إلى الحديث عن الغربة و الإغتراب غربة الشاعر في مجتمعه و وطنه وعصره و التي عبر عنها التوحيدي بقوله: "هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهد أنفاسه، و أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه" (5) يقول في نص "مظلومة الثغر" صفحة (45) و هو يوجه الكلام لوطنه:

رنا لك القلبُ
مهما أجهشتْ مقلُ
يا لوعةً طفحتْ تاللهِ تشتعلُ

فغربة الشاعر سبب جوهي من أسباب الحزن و هو ما غلب على لغته إذ يطالعك الحزن حتى في عناوين القصائد التي جاءت تعبيرا لمعاناة الشاعر (وجعي ترابي – يا سيد الجرح) بالإضافة إلى محتوى القصائد الأخرى التي جاءت تصريحا تارة و تلميحا تارة أخرى ليؤكد ذلك في موضع آخر في نص "يا أيها العباس"صفحة (53):

مُذْ ألفِ عامٍ..
كنتَ مُغترباً
لبلوغِ نهرٍ.. خانك الكتُفُ
بئسَ الفراتُ..
أهابَ عن وجعٍ
منذُ استلابٍ قد رنا الجُرفُ

فألفاظ الوجع والغربة شبيه بالدخول إلى معركة حقيقية جسدها شاعرنا في استحضار حادثة ألطف (كربلاء) يقول في نص "يا أيها العباس" صفحة (51):

طفٌ تُلوّحُ..
قد ثوى طفُّ
متسربلاً بالقتلِ.. يا نزفُ
أودى بشبلٍ أيَّ معجزةٍ
قامتْ لهُ الآياتُ تصطفُ
وكأنّما الكفّانِ..
ما خُلقا
الاّ ليومٍ زانهُ حتفُ

كما أن التفكير في ولوج "وشم بالذاكرة" يوقظ فينا رغبة التحدي ويعطينا الوعد الصريح بأننا سنظفر بالجديد والمختلف في طياتها فالشاعر وليد حسين لا يكتب نصه من فراغ و لا يبني نصه على مسلمات فهو الذي يقود العبارة إلى حيث يريد حيث يصفه الشاعر العراقي جابر الجابري بأنه:"شاعر هاجر من الشعر الى الشعر واستطاع ان يؤسس عوالم" (6).

و في الختام "وشم بالذاكرة" فيه الكثير من الإيحاءات و الدلالات نصوص ثرية كلما قرأتها إلا و اكتشفت فيها معاني جديدة لا تنقصها المتعة الأدبية و الفنية و الأهم من ذلك أنها لا تخلو من الغنائية الصافية التي من شأنها أن تشد القارئ خاصة و أن شاعرنا لا يعبر عن معاناة و أحزان فردية بقدر ما يعبر عن هم وطني اجتماعي و سياسي.

(1) محمود المسعدي أديب تونسي.

(2) حوار قصي خولي جريدة الحقيقة العراقية العدد الصادر 29 أوت 2016

(3) الشعر بين الرؤيا والتشكيل-المقالح، عبد العزيز - ص 66.

(4) الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية- عز الدين إسماعيل - ص 352.

(5) الإرشادات الإلهية- أبو حيان التوحيدي - تحقيق: عبد الرحمن البدوي، ص 115.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى