الاثنين ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١٧

قراءة في الهروب إلى آخر الدّنيا

محمد صابر عبيد

يتشكّل المعنى الرمزي والسيميائي للقصة القصيرة من طبيعة وحساسية ورؤية وفضاء وأنموذج السرد الذي تتكشّف عبره دلالية القصة عموماً، وإذا كان (سرد المحكي) هو الأسلوب الكتابي المهيمن على فضاء الكتابة القصصية عادة، فإن (سرد المصمت) يأخذ جانباً تشكيلياً وتعبيرياً خاصاً ومختلفاً في صوغ المعنى السردي للقصة، وقد يؤدي إلى مناخ سردي مغاير تكون فيه اللغة العلامية/الإشارية هي المعبّر الأوفى عن إشكالية القصّ بطبقاته وجيوبه وظلاله، على النحو الذي يتمظهر فيه المعنى القصصي أخيراً بين الحدود الفاصلة (الغامضة) التي تتحرّك بين علو صوت سرد المحكي وخفوت صوت سرد المصمت.

المجموعة القصصية الموسومة بـ (الهروب إلى آخر الدنيا)(*) لسناء شعلان تشتغل في فضائها العنواني العام المستعار من إحدى قصصها على عتبة عنوانية مفتوحة، تأخذ من معنى (الهروب) سبباً لترك المكان الأصلي وهجره، ومن ثم قطع مسافة الدنيا للوصول إلى آخرها، وكأن هذا الآخر هو الملاذ الذي يخلّص الهارب من أزمته، ويجيب على أسئلة محنته الملتبسة والمعقّدة واللائبة والمقلقة.

فثمة توافق دلالي ـ سيميائي بين (الهروب/آخر الدنيا) تجلّى في أن الهرب ما هو إلا مغادرة مكانٍ معادٍ، كما تجلّى في أن آخر الدنيا هو المكان الوحيد الأقصى والأكثر بعداً وغموضاً والتباساً، الذي بوسع الهارب اللجوء المتاح إليه، والتلذّذ فيه بخلاصه الشخصي أو وهم هذا الخلاص.

وثمة عتبة تقديمية أو إشارية أو تعريفية تقول: (ماذا يمكن أن يجد الهارب من نفسه إلى آخر الدنيا سوى نفسه المعذّبة التائقة للانعتاق؟؟!)، تقارب عتبة العنوان وتحيل قضية الهرب على فضاء صوفي إنساني عميق المعنى.

إذ إن السؤال الذي تحمله هذه العتبة التقديمية (ماذا يمكن....؟) يحفّز في منطقة القراءة شهوة التأويل، وهي تدلف إلى فضاء الاستفهام لترى وترصد وتدرك وتفهم حركية السؤال في هذا المجال المتخيّل (أن يجد الهارب من نفسه إلى آخر الدنيا)، المنطلق نحو فكرة البحث عن الذات والوجود والمعنى.

وما يلبث أن يأتيه الجواب الاستثنائي الصوفي (سوى نفسه المعذّبة التائقة للانعتاق؟؟!)، على النحو الذي تتبدّى فيه (النفس) وقد تحلّت بالعذاب والتوق للانعتاق، بحثاً عن شرط الحرية الذي يمثل الأزمة الحقيقية للإنسان في أيّ زمان ومكان، ولا يجد له حلاّ حتى وإن قصد (آخر الدنيا)، لأن الحرية ليست في المكان ولا في الزمان بل هي في الإرادة الحرّة التي تعيش في ضمير الإنسان ووجدانه وضميره ورؤيته ورؤياه، بحيث لا يمكن أن يكمن الحلّ في الهرب بل في المواجهة والتمرّد والثورة.

إن هذا الهمّ الغربوي يكاد يهيمن على مجمل قصص المجموعة وسننتخب لقراءتنا هذه قصة ((أنامل ذهبية))، إذ تتجسّد فيها وعلى نحو أصيل طبيعة حداثة الصنعة النصيّة، على وفق الرؤية النقدية التي يشتغل عليها العقل البحثي في الكتاب.

عتبة العنوان المنكّرة (أنامل ذهبية) تحيل فوراً على دلالة أنثوية عامة لا تخفي في طبقة ممكنة من طبقاتها هاجساً إيروتيكياً، فالأنامل الأنثوية محطّ نظر واهتمام ذكوري دائم، وهي علامة سيميائية تشتغل في هذا الفضاء بوصفها عنواناً للجسد وممرّاً خارجياً إليه، وحين تسند (أنامل) إلى الصفة النوعية اللونية (ذهبية) فإن فعالية هذه العلامة داخل هذا الجوّ والمناخ والرؤية تتضاعف في إثارتها وتشتدّ وتتعمّق وتتأصل.

بنية الاستهلال القصصي تتكشّف فوراً عن قوّة وضوح سردي عالية تضع حدود القصة في المتناول، وتشتغل على نحو حكائي تلخيصي وكأنها قصة قصيرة جداً تسعى إلى قول كلّ شيء في هذا الحيّز الكتابي المكثّف:

جمعهما شيء واحد، وهو الغربة، ثمّ ولد بينهما شعور حميم اسمه الألفة، كلاهما كان غريباً في أرض غريبة، هو جاء من قلب صحراء الفقر، ليبحث عن عمل يكسبه الزرق بكرامة، لم يملك شهادة أو خبرة مميزة، ولكنّه كان يملك قلباً من حديد، وإرادة صقلها الحرمان، هي جاءت من أقصى أرض الجليد والحرمان لتبحث عن عمل ينقذها من الفقر والفاقة، كانت مهاراتها محصورة، ومواهبها محدودة مثل جمالها الفاتح اللوّن، المطعّم بنمش زهريّ صغير.

تؤسس بنية الاستهلال هنا الأرضية السردية المركزية التي ستتحرك منها وعبرها حيوات القصّة، وتعمل على صوغ أنموذج الرجل وأنموذج المرأة على وفق الرؤية التي ستشتغل عليها حبكة القصة، عبر مجموعة من الملامح المحدودة (الداخلية والخارجية) التي يمكن أن ترسم علامة فعّالة لكلّ منهما.

تنتقل القصة بلسان الراوي كلي العلم بعد أن فرغت من تشييد بنية استهلالها إلى بثّ أول لحظة تنوير سردية في متن القصة، تشرع فيها الحكاية بترتيب منزلها السردي من خلال تحقيق بنية التواصل الابتدائي بين الشخصيتين، والانفتاح بعد ذلك على الفضاء السردي العام في القصة:

التقيا في مؤسسة صناعية كبيرة في إحدى الأقاليم النائية، حيث لا أحباب ولا ألفة أو حتى كلمات يفقهها، أو لغة يتواصلان بها معاً.

إذ يتمظهر المكان والزمن والحال السردية عبر تأسيس بنية غياب مكانية (الأقاليم النائية)، وبنية انقطاع مضاعفة ومكرّسة وكثيفة وشاملة (لا أحباب/لا ألفة/لا كلمات/ لا لغة/ لا تواصل)، تسهم في الارتفاع بمستوى التوتّر إلى أقصاه، والتحريض على تبنّي أكثر من أفق توقّع قرائي في هذا السبيل.

تتسلّط الكاميرا السردية للراوي على بؤرة الحدث ومحرقه لتصوّر حال الرجل وهو يلوذ بالآلة التي لا تحتاج محاورتها لغة لا يعرفها، بعد أن يئس من العثور على من يحدثه بلغة لا يعرف غيرها ولا يعرفها أحد، داخل غربة كثيفة وعميقة وموحشة تمتحن صبره وتضعه على المحك:

في البداية كان يقضي ساعة الغداء وحيداً في ركن بعيد من مطعم المصنع، يحادث نفسه بلغته التي لا يعرف غيرها ليحادث بها أيّ إنسان هناك، ثم يهرع إلى الآلة التي يعمل عليها طويلاً دون حاجة إلى كلام بلغة لا يعرفها، ثمّ ظهرت هي، كانت بمثابة انكساره ووحدته، بينها وبين الآخرين لغة تجهلها هي الأخرى، وبينه وبينها لغتها التي يجهلها.

رحّبت به بابتسامة عريضة ومتلهّفة عندما جلس إلى طاولتها، وبدأ الحديث وطال، واستطال، وتشعّب، لم يكن حديث الكلمات التي لا يفكّان طلاسمها حاشا قليل منها، ولكنّهما تفاهما بأناملهما الذهبيّة، خلقا لغة إشارات بأناملهما المتلهفة على الألفة.

غير أنّ ظهور المرأة في هذا الفضاء البالغ القسوة أحدث لحظة تنوير سردي لافتة في قلب الحدث، أسهمت في تحويل الغربة المظلمة إلى ألفة مشرقة عن طريق الحضور الأنثوي أولاً، والتفاهم ثانياً، إذ كان هو بحاجة ماسّة إليهما معاً من أجل تجاوز محنته وتشكيل قدرة ذاتية على دفع حياته نحو الاستمرارية.

شخصيتا القصة الرئيستان (الرجل والمرأة) وهما يتقاسمان الحضور والتمظهر والهيمنة على موقع الحدث السردي بفعالياته النسقية، يعملان على خلق لغة مشتركة (معوِّضة) أداتها الأصابع الذهبية التي تشتغل بكفاءة عالية في هذا المدى القصصي، وتنتج معرفة متبادلة عالية التأثير والقوّة والتماسك نحو مزيد من التواصل الإنساني والوجداني بينهما:

عرف الكثير عنها من حركة أناملها الذهبية البيضاء كالشمع، الممشوقة كسبائك الذهب، وعرفت الكثير عنه من حركات أنامله التمريّة اللون، التي لا تخفي حياة صعبة وشاقّة عرفها طويلاً.

أناملها الذهبية وحركتها السحريّة خلقت آلاف المواضيع، وقصّت آلاف الحكايا، الشيء الوحيد الذي عرفاه بالكلمات كان اسميهما، كلّ قاله بلغته وبلكنته وبصوته.

الأداة الفاعلة لإنجاز التواصل الحيّ بين القطبين (الأصابع الذهبية) وهي تحيل على عتبة العنوان وتستمدّ منها قوّة الحضور والفعل والتأثير، خلقت حالة من التفاهم والتوافق والألفة والتماثل والمعرفة والتقارب بينهما، وأصبحت لغة (مخترعَة) قابلة للمشاركة والإنتاج والفعل داخل سردية مصمتة حاشدة بالقيمة والمعنى والدلالة والرمز وانفتاح الأفق السردي.

تنفتح القصة بعد ذلك على فضائها الحكائي المنتظر في دائرة أفق التوقّع، لتحكي مساقات تطوّر الحدث ونقله من حدود الصورة المقننة إلى حدود الفعل والتأثير والإنجاز، على النحو الذي يتحوّل فيه اللقاء المصمت لغوياً إلى لقاء عالٍ في حضوره الصوتي حسيّاً وفعلياً ومظهرياً، إذ يقوم بتكثيف الحال الحكائية وتلخيصها واختزالها في رقعة كتابية مركّزة ومتجوهرة، تخضع لإضاءة شديدة وعالية التركيز من طرف الراوي:

التقيا كثيراً، زارا معاً الأماكن الرتيبة في المقاطعة النائية تحدّثا عن حياتهما وآمالهما، ناقشا معاً الأفلام التي حضراها، زارا المحميات الطبيعية الخلاّبة في المقاطعة، خيّما معاً، وسبحا معاً، حدّثته عن أرض الثلج وطنها، فحدّثها عن أرض الشمس وطنه، أرته صور أفراد عائلتها، فأراها صور أفراد عائلته، بنيا أملاً مشتركاً في هذه الأرض الجديدة، وتزوّجا.

وبنيا مستقبلهما، وأنجبا طفلين رائعين، وتحسّنت الأوضاع، وتقدّم السن بهما، وبقيت أناملهما الذهبية متخاصرة متعانقة وعاشقة، ووقع الخلاف، كانت الكلمات أقسى مما قد يحتملان، أتقنا لغة مشتركة جديدة، ليست لغته الأم، وليست لغتها الأم، بل لغة المكان الذي استوطنا فيه، جرد أنوثتها وصمودها الطويل، وجرحت حبّه ومشقته الطويلة، وكاد ينهار المكان، هدّدت بالعودة إلى وطنها، وهدّد باختطاف الطفلين، والعودة إلى وطنه.

حيث تبدأ الحكاية وتتطور وتبلغ ذروتها وتحيط بممكناتها السردية كافة، وتنتقل من منطقة البداية والوسط والذروة فجأة إلى منطقة النهاية الحكائية، التي تعلن انتهاء حفل الحدث ووصول الأشياء إلى نهاياتها والعودة إلى الغربة المفردة لكلّ منهما من جديد، بعد أن تفقد الأنامل الذهبية سطوتها وقدرتها على الجمع، لتصبح معطّلة وصامتة وغائبة وعديمة الجدوى.

تتحرّك (النظرات) لتكون بديلاً تشكيلياً وتعبيرياً وسيميائياً عن الأنامل الذهبية المعطّلة في السبيل نحو إيجاد لغة أخرى، يكون بوسعها احتواء النهاية المأساوية والعودة بالحكاية إلى فضائها المشترك، وإلغاء حركة الخارج المفارِقة والهادمة لصالح حركة الداخل الضامّة والمنتجة:

وكان القضاء بينهما، كان غاضباً منها، وهي كذلك، لكنّ شبح الفراق أشدّ ما كان يؤلمه، منعه محاميه من أن يكلّمها، ومنعها محاميها من أن تكلّمه، لكنّ نظراتهما لم تطع أيّ أوامر، وتعانقت في لحظة صمت.

فسلسلة الوحدات السردية السالبة الحاشدة والمتعاقبة العاملة في بداية المشهد القصصي بكينونة سردية بؤرية (القضاء بينهما/شبح الفراق/يؤلمه/منعه/منعها)، تصطدم مباشرة بقوى سردية مناهضة ومتجاوزة وملغية (نظراتهما لم تطع أي أوامر/تعانقت/في لحظة/ صمت)، على النحو الذي يكون فيه الصمت المكتظّ بالحكي هو عنوان المشهد وأداته الحركية السردية، التي تقوم بتحويل الحراك القصصي إلى أفق جديد.

هنا تتمكّن الأنامل الذهبية مرة أخرى من استعادة ضوئها ومقدرتها وحيويتها وجوّها، لتعيد إنتاج الحكاية إنتاجاً جديداً استناداً إلى قوانينها وأعرافها وقواها الكامنة، وتقود حركة السرد نحو عتبة إقفال (مفارِقة) تتجاوز نسق الحكاية الإجرائي ضمن حركة المكان المحدد (القضاء)، لتنفتح على لغة الأنامل مرة أخرى وقد تعالت لتصل إلى (أبلغ لغة):

كانت شاحبة كالثلج، كان مشتعلاً غضباً كالشمس، اقترب منها، وجلس إليها، عجز عن أن يصنع أيّ كلمة، فامتدّت أنامله في الفضاء، تحدّثت بأبلغ لغة، وتكلّمت أناملها، ومن جديد صنعت الأنامل بلغة الإشارة أجمل صلح، وخرجا من المحكمة بأنامل متعانقة، وأجساد متلاصقة، ولم يسمعا كلمة القضاء...

إذ تُعاد الدورة السردية للحكاية إلى عتبة العنوان التي تظلّ فيها الأنامل الذهبية سيّدة للموقف القصصي، ولعلّ الوحدة السردية الاختتامية (خرجا من المحكمة....) تشير إلى مغادرة المكان الضيّق والانطلاق نحو المكان الواسع، حيث تستطيع اللغة أن تتحرّر والصوت أن ينطلق خارج سلطة الحضور.

(*) الهروب إلى آخر الدنيا، سناء شعلان، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، الدوحة، 2006 : 53 ـ 55.

محمد صابر عبيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى