الأحد ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
بقلم مريم علي جبة

قراءة في رواية «مقبرة العظماء»

نقرأ عن العظماء، نتخيلهم، نكتب عنهم، نحبهم أحياناً، ونكره بعضهم ممن قاموا باتخاذ قرارات كانت وباء على البشرية والعالم. ولكن أن نتحدث مع هؤلاء العظماء بعد موتهم، ونتناول معهم القهوة؟ هذا ما أبدع فيه الكاتب السوري المغترب "مقبل الميلع" حين قرر أن يتناول قهوته مع عظماء القرن العشرين في مقبرتهم "الافتراضية" والتي بنى "الميلع" جدرانها من الخرسانة المسلحة لتكون قوية ومتينة خوفاً من أن تنهار يوماً على قاطنيها فتمسحهم وتزيل أثرهم فيضيع كل التاريخ الذي صنعوه..

وصف المقبرة:

هي ذات خصوصية عالية مجهزة بأحدث المعدات الالكترونية ووسائل الاتصالات المتطورة، وحراسها هم ضباط وعناصر من هيئة الأمم المتحدة، وعلى رأس كل قبر نرى شاهداً من الرخام أو الحجر يدل على مكان هذا العظيم أوذاك..

أبطال المقبرة:

ضمت مقبرة العظماء كل من: الجنرال ديغول والرئيس جون كينيدي وونستون تشرشل وجوزيف ستالين وأدولف هنلر، والرئيس جمال عبد الناصر والسلطان عبد الحميد والمهاتما غاندي والمليونير أرسطو أوناسيس، ولينين وروزفلت ونابليون بونابرت وماوتسي تاونغ وكمال أتاتورك ولوممبا وسيمون بوليفر وجورج واشنطن وتشي غيفارا ومحمد جناح وغيرهم من عظماء غيروا وجه التاريخ وصنعوه إضافة إلى النسمة العليلة الأميرة "ديانا" .. وربما كان لذكر "ديانا" في الرواية لا شك سيكون له وقعه اللطيف على القارئ لما للأميرة الناعمة والجميلة التي كانت تفوح حباً وعطاء، لِمَا لها من اختلاف قياساً بما فعله البعض من أبطال المقبرة من أهوال وشرور للعالم.

وتأتي أهمية هذه الرواية من خلال المكاشفات والمحاسبة الذاتية والجماعية لهؤلاء العظماء بعضهم لبعض على كل ما قاموا به خلال فترة وجود كل منهم في موقعه أثناء حياتهم ولكن هذه المحاسبة تأتي بعد موتهم وفي مقبرة افتراضية.. ويا لها من إبداعية لم يتطرق لها كاتب من قبل.

ولأن الرواية عنوانها "مقبرة العظماء" فلا بد من الحديث عن الموت، وهو ما ذكره الكاتب في الفصل الثاني من الرواية والذي عنونه بـ "الموت ضرورة" .. يقول الميلع: أليس الموت حقاً؟.. وهل تستطيع الأرض استيعاب كل البشر في حال تم إلغاء الموت من الوجود؟ .. فلولا الموت لم يعرف الإنسان قيمة الحياة، ومن هنا كانت التضحية بالنفس من أجل الله ومن أجل العقيدة ومن أجل الوطن.. والله خلق الحياة وأوجد الموت فهوة ضرورة.

ثم يستأنف الكاتب في الفصل الثالث حديثه عن الموت ليؤكد خوف الناس منه وعدم محاولتهم التفكير فيه كي لا يدنو منهم. فالموت زائر غير مستحب وبغيض وثقيل الظل وحين يأتي يرافقه الهم والغم ولدى رحيله يترك الحزن والبكاء فيلجأ المفجوعون إلى الأمل والرجاء:"إن لله وإن إليه راجعون" .. "من آمن بي وإن مات فسيحيا" ..

ولأن قوانين الآخرة تختلف عن قوانين الدنيا .. نجد الكاتب يسرد حديث فيه من الطرافة الإبداعية ما يجعله مهماً وطريفاً في الوقت نفسه:

"صاح هتلر بعد أن فقد صبره: نحن في حضرة الموت يا عبد الحميد، استغرب عبد الحميد مما سمعه ظناً أن السلطان لا يموت، وقال متعجباً: الموت!! .. ثم أردف مستنتجاً: إذن نحن في الجنة، أين الخمر المصفى؟ وأين الحوريات؟ أين أنهار اللبن. ليرد عبد الناصر هامساً: لم نصل الجنة بعد .. ليرد غاندي آملاً: لا زلنا ننتظر دورنا، كي يسمحوا لنا بالدخول.. لينهض عبد الحميد غاضباً: انتظروا أنتم هنا كما تشاؤون، أما أنا فسأذهب لرؤية البواب فلا بد أن يصحح الخطأ فأنا الخليفة.. ليقول ديغول مداعباً: اكتب طلب استرحام .. ليذكره كِنِدي جاداً: لا تنسى لصق طابع عليه.. ليجيب عبد الحميد بحزم: أنا معفى من كافة الضرائب والرسوم.. ليأتي غاندي شارحاً وهو مبتسم: تختلف قوانين الآخرة عن قوانين الدنيا.. وهنا يسود العدل على الجميع ليس كما على الأرض"..

الاقتصاد والنفط والسياسة والحرب والحب.. وأشياء أخرى، هي أحاديث كانت على طاولة عظماء القرن العشرين في مقبرتهم الافتراضية.. أحاديث ممتعة وهامة..

لماذا تقوم الحروب؟

سؤال مهم يطرحه "الميلع" على لسان "الهيكل" في الفصل السابع من الرواية.. ليجيب عليه شارل ديغول" تقوم الحروب عندما تتضارب الايديولوجيا وتتقاطع المصالح..

ثم يبرز الكاتب دور السلطنة العثمانية في السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين في مرحلة من المراحل: "السلطان عبد الحميد لـ شارل ديغول: تصور يا ديغول طلب هرتزل مني وبكل وقاحة أن أسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين"..

من يقرأ رواية "مقبرة العظماء" سيلحظ وكأنه أمام كل عظيم ذكره الكاتب مقبل الميلع وكأنه أمامه تماماً بشخصيته وبأحاديثه وبتصرفاته وسلوكه، وذلك بسرد إبداعي ممتع وجذاب وكأن القارئ هو نفسه يجلس مع هؤلاء العظماء الذين لم نذكرهم جميعهم من خلال هذا المقال، فالرواية تحمل من الأهمية الشيء الكثير وخاصة لأنها تُحاكم عظماء القرن العشرين وهم في قبورهم وتحاسبهم على أعمالهم التي تشهد عليهم.

وينهي الكاتب روايته ببكاء هؤلاء العظماء: "اغرورقت عيون العظماء بالدمع وحاول غاندي البكاء، لكنه لم يستطع بسبب مسيرة الملح عام 1931 التي جففت مآقيه، واستنفذت دمعه المدرار.. أما ستالين فكان جافاً، نظر في وجوه العظماء الذين كانوا حزانى، وبقي هو متماسكاً كبت بكاءه، اقترب منه غانديوقال له: يبدو يا ستاين أنك كنت خارجالقرن العشرين، ربما رفعك الغرور فوق المشاعر الإنسانية.. أجاب ستالين: من المُعيب أن يبكي العظماء .. ليرد غاندي: هراء، فالمسيح ابن مريم بكى ثلاث مرات.. ليرسم المليونير إشارة الصليب على وجهه ويقول:

حسب علمي أنه بكى مرتين فقط.. ليقول الهيكل: كانت المرة الأوللا على أليعازر.. يضيف كندي: وكانت المرة الثانية على نبوءته بخراب أورشليم.. وبكل ثقة أكد غاندي: أما المرة الثالثة فكانت حين ولد ستالين .. ليتأثر هذا الأخير وتختلط عواطفه بين الحزن والندم وتنهمر دموعه .. يضع رأسه بين كفيه ويبدأ البكاء... ثم يجهش العظماء بالنحيب من عذاب الضمير ويبكون مآسي القرن العشرين التي جرّوا العالم إليها .

يُذكر أن رواية "مقبرة العظماء" صدرت أولاً باللغة الإنجليزية ثم تُرجمت إلى اللغة العربية، وطُبعت في "دار العراب" للدراسات والنشر والترجمة، وتقع الرواية في (448) صفحة .. وصمم لها الغلاف المهندس باسل لباد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى