السبت ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
القصيدة في نشوء آخر
بقلم محمد سمير عبد السلام

قراءة في شطح الغياب لمهدي بندق

تستنفد القصيدة أدبيتها الخاصة، وتقع في علاقة معقدة مع المنطق السياسي للهيمنة، وتكرارها التاريخي، والرمزي، والحكائي عند مهدي بندق في ديوانه " في شطح الغياب " الصادر عن دار تحديات ثقافية بالإسكندرية.
القصيدة في الديوان تحمل معاني الولادة الطيفية من القوة، وإحداث الانشطار في بنيتها التاريخية بتجسد المهمش فيها كتكوين حي فاعل، بحيث يسخر من موته الأول، أوانسحاقه ضمن علاقته بالمركز، في تكوين آخر، أوصوت آخر، أوموت بهيج، يحتمل استعادة طاقة التدمير الماضية في أداء سياسي غير واع في المستقبل. هذا الأداء يغيب الذات الأولى، ومنطق القوة معا، ويمثل في الحكاية التاريخية دور القصيدة، ذات الصوت الأسطوري / الجمعي / الكوني في مواجهة الانسحاق الحضاري المتكرر، كسياق لا يتمتع بالكلية أبدا، لكنه ثقافي تفاعلي عابر للذاتية، وللأدبية معا.
هل تتجسد القصيدة سياسيا.
إنها رمز للخروج، والتمرد، واللعنة، والموت، ومقاومة الموت معا. تبدأ من اعتراف ناقص بالآلية، والتهميش، ثم تتبلور كفاعل دون حدود ذاتية، القصيدة تعاين موت المتكلم، وبعثه المتجدد في كون شعري، وسياسي بالأساس، لأن قوته تولد الغياب، وتتجه ناحيته خارج المسيطر، والمهمش رغم تكرارهما في المشهد. لكن هذا التكرار غير حتمي، إذ يختلط بقصص للتجاوز، والتمرد قيد التشكل دائما.
ورغم اتفاق الكثير من الدراسات الثقافية، والحضارية على دراسة التفاعل بين الثقافات المهيمنة، والفرعية، فقد أضافت رمزية الحكي المتضمنة في التاريخ عند فريدريك جيمسون، وفاعلية الهامشي عند رايموند وليامز، ومحاكاة القوة كبديل عن أصالتها عند بودريار، وتداخل النص والواقع التاريخي عند إيجلتون.
هكذا يأتي صوت القصيدة عند مهدي بندق كطيف رمزي سياسي، يتجاوز القوة من خلال بعث طاقة الغياب في المهمش، وامتصاصها السياسي لمركزية المركز، في سياق تحولاته الخاصة خارج الحتمية.
فقد استعادت القصيدة أصوات الماضي المتناثرة لتتجاوز الماضي من خلال تفجير خفي للتناثر، والاندماج معا بين المجاز، وعناصر الكون، والثقافات الفرعية المختلفة. هذا الاندماج بحد ذاته يناهض الانسحاق، ومركزية القوة معا في مستقبل آخر.
في نص " أنا آخر الهنود الحمر " تحمل القصيدة في بنيتها المتناثرة تناقضات العالم، فهي مخرج من أزمة الوجود المهمش، وجحيم تتولد منه نشوة السلب، لكنه ليس سلبا مطلقا للذات الحضارية المختلطة للمتكلم، فهوفراغ ما بعد الحدود، وما يتجاوز تاريخ الإقصاء السياسي في استعادته شعريا.
إن نشوء القصيدة يعني اتحادها الأول بالصوت الميت في حياته الأخرى التي يتسع فيها فضاء المتكلم، ويخرج عن سياق اللعنة من خلاله، فالقصيدة علامة خروجه، وتفرده في آن.
يقول :
ولعلها القصيدة التي ستشطب الحدود / ولعلها القصيدة الجارحة الجريحة / بها تقام للثوى المآتم / فما لكم لا تحتسون قهوة الفضيحة / والميتون أنتمو/ والقادمون للعزاء يضحكون أنتمو/ وإنني لآخر المودعين باكيا / رضيت أن تضمني لصدرها جهنم ".
القصيدة تخيل تعارضات المفاهيم التعميمية في اتجاه غير أحادي، إذ تمتزج فيها سطوة العبث والاحتراق باتجاه التحول لا العدم، أوالاستسلام.
كذلك يستعيد المتكلم إمكانات الانصياع، والآلية، في تكوينه في اتجاه استبدال الصوت الحامل لهوية مكررة، ومعروفة – منسحقة سلفا بالطاقة الأنثوية للقصيدة. يقول :
" وأنت يا بوابة الفناء / يا فتاة / تعاقدي معي بالأحرف الأولى / أسمعك يا شقيقتي / أنشودة الهيولي / الحمد للشعر / وليبق دائما رواقه مأهولا / لولاه لاسترده الطغاة / وما عرفت أنني ناج من الأشباه / ناج من التكرار ".
القصيدة هنا عودة مرحة لغياب الهوية في نشيد كوني متجدد، يعاد تكوينه في صوت القصيدة الفريد، هذا الصوت الذي تولد من هيمنة التكرار بانتشار المتفرد في صوت متجدد لانهائي للإمكانية الإبداعية في دال الشعر.
وفي نص " قيامة الشاعر عماد الدين النسيمي " يسيطر مدلول الغياب، لكنه يستعاد حاملا قوة طيفية جديدة، تسخر من آلام التناثر الجسدي، في صوت حضاري، أوشعري آخر يتداخل فيه التاريخي، مع النصي، في سياق تجاوز حلم العدالة عند النسيمي في الذوبان، والاندماج بالعناصر الكونية، أوالثقافات الطليعية العديدة.
يقول :
واقترب من لهيبك مثل الفراش / فقد تصبح النار بردا / وقد تصطفيك فتشرق قوس قزح... / وخرجت من القبر القنفد / للدنيا الحرباء / كانت أقنعة الأشياء هي الأشياء / والأدواء هي الداء / فاقتربت مني الشمس الحسناء / رحت إليها أرنو/ وكذلك راحت ترنو/ قالت لم لا تنهض لمهمتنا نحن / فقد كلفنا نحن الاثنين بإنقاذ الماء ".
لقد تحول ولوج ظلمة العدم في دال اللهيب، إلى تحول تخييلي لواقعة موت الشاعر، فصار موته هواستعادته في نطاق تفاعلي جديد خارج التأويل الأول لوجود أحادي، أوعدم أحادي.
صوت القصيدة الممتد من الشاعر لا يقاوم إغواء الاستعادة المخيلة، في ولادة تبدأ من قوس قزح، أوظلمة الماء المتسعة، أوطاقة النار حيث تذوب الذكورة في أنوثة المادة المتحولة، فقد تحول لهب العدم إلى توهج ذاتي لصوت القصيدة داخل النسيمي.
وقد يتحول التعميم، وما فيه من سقوط حتمي، وحزن وفقدان إلى كتابة جديدة للصوت المتمرد في نص " استقالة من ديوان البشر ". يقول :
كل ما أرتجيه إذن / أن أرى شبح الوجد في المحبرة / فأخط به ظل شعرة / يتفيأها الكبرياء المهيض أمام الضفاف قبل أن يقطع البيد للمقبرة... / وليلبس الجميع تحت سترة المراوغات ربطة المفعول / إلا أنا فخرقة المروق عورتي وملبسي ".
ما المروق ؟ هل هوتمرد على الفقدان يحتمل فقدانا آخر ؟ أم أنه تجاوز سياسي طيفي للتعميم ؟ لقد منحت الكتابة المتكلم فاعلية يختلط فيها الخروج، بفقدان للحتمية، والتاريخ معا في اتجاه إعادة تكوين الصوت في أثر مراوغ يتجاوز موته خارج اللغة الشمولية للحياة الإنسانية.
الأثر هواللغة التجريبية للقصيدة، وطيفها الأدائي في تحول الصوت المتكلم فيما وراء حتمياته التكوينية، وسقوطه الحضاري.
ويبلغ الخروج ذروته في نص " في شطح الغياب " حيث ينتقل الفن من التفرد، والتجاوز إلى التحول الكامل في عوالم اللاوعي والاندماج الأسطوري والكوني دون حدود. الارتكاز على معنى التحول في هذا النص يجعل من الغياب دالا ديناميكيا يمكن أن نضع مكانه الوجود برمته، والفن، والتاريخ، وما يتجاوزه، والخلود، والتحول اللأسطوري، أوالحكائي.
وبهذا الصدد يرى كارل يونج أن حدس الخلود يرتبط بالطبيعة الخاصة المتجاوزة للزمكانية للاوعي، ومن ثم يتولد الإحساس بالامتداد في الزمان والمكان في معنى التحول ( راجع / كارل يونج / رمزية التحول / ترجمة نهاد خياطة ).
هكذا ينجذب المتكلم في فنائه، واتساعه الكوني / الشعري في مسيرة الوعي نحونهاياته الثورية في اللاوعي.
يقول " فلعلني أغدوقطرة ماء / ليست غالبة أومغلوبة / كي أبتسم ولومرة / أوأصبح بين فراشات الضوء جنينا / لا يبصره في الرحم الفجرة / فأتاني الشعر وأدخلني من باب الضد / وقال أضعتك فأضعني / لكني ضيعت ضياعي / حتى انبجس غيابي شعرا يمحوبدني ".
الولادة تحول للمتكلم في روح القصيدة التي تخيله خارج هويته، ووعيه، وزمانه، ومكانه، والمجال الجزئي لعلاقات القوة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى