الثلاثاء ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٢١

قراءة في كتاب«كأن لا أحد...»للكاتب المغربي محمد آيت علو.

باسمة العوام

إبحارٌ وسفَرٌ بين عشرين محطة نحو المحطة الأخيرة...ومحطات من لا ينوي الوصول

"كأن لا أحد...!"، عنوان مدوّ صاخب، يأخذك في عالم الخيال، التناقض، الحلم والواقع المرغوب وغير المرغوب، ضجيج داخلي يوهم صاحبه بشيء ما هناك... أو أحد ما بقربه...والواقع يقول لا... لا أحد.

كالبحر...تنظر إليه، تراه واسعا كبيرا؛ وكلّما تعمّقت فيه، وجدته أكبر وأوسع... حكاياته أكثر من رمال شواطئه، ومع ذلك لا أحد فيه يحسّ بوجودك... وحدك وصراخ الذكريات، وصمت قاتل وسكون وسط الزحام، فأيّ بحر غاص فيه كاتبنا؟، وأيّة حكايات لفظتها سطوره؟، ومن هو هذا"الأحد"الذي نام بين الفواصل والنقاط؟، ولم يخرج إلى السطح لنراه؟، بقي هناك يجول في عالم بلا حدود، حرفاً أثقل كاهله تمرد المعنى وبدايات ضاعت فيها كل النهايات....

نفتح باب الكتاب"كأن لا أحد...!"، لنتجول بين صفحاته المئة واثنتي عشر (١١٢ صفحة)، والصادرعن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والإتصال في مراكش / المغرب...
والذي قدم له المرحوم الكاتب والأديب عبده بن خالي فتحدث عن"نصوص منفلتة بمسافاتها الخاصة، عن عمق الذات الإنسانية وبحثها عن كل أشكال النجاة والخلاص، عن حقيقة انفجاراتك الداخلية وكل التناقضات التي تجعل العالم يضيق أمام عينيك، حتى يصبح في حجم علبة الثقاب."

* ثم تأتي مقدمة الكاتب:

"لقد كان قومي مرة مثل رمال الشواطئ...والآن أناديهم فلاتجيبني سوى الرياح"
"عجبا أن يكون للمسافة كل هذا السحر والجمال، فهي تجعل حظ الأرض من الشمس الدفء والنور والحياة... ذلك أن الاقتراب احتراق، وحتى مع الإنسان، فإن المسافة تجعل العلاقات بينهم تتوطد وتدوم أكثر.....

والحب يصير عشقا وولهاً بل ويزدان ويزهر...!".

☆☆ هذا الكتاب"كأن لاأحد..!"والذي كتب عليه نصوص أدبية، ليس إلا انفلاتاً عبر المدى في مسافات لاحدود لها وطلاسم تنزف في رحم الزمن، رسائل الأرض تحملها غيوم السماء، أحلام تمتد نحو الشمس، مسافات تغوص بين النبضة والنبضة تشهقها الحياة في أقصر سفر سرمديٍّ إلى عالم اللازمان وخارج جدران المكان، إلى عالم اللاشيء واللا أحد.

* عشرون مسافة تخطّاها كاتبنا، وفي كل مرة يأخذنا معه ويتركنا عند النهاية حائرين تائهين نبحث عن مسافة للعودة إلى فلسفة الكينونة وعمق ذواتنا، نبحث عن باب للإنفلات من حياة لا تحمل أيّ معنىً للحياة، نبحث عن ذاك المنسيّ خارج الوجود، عن ضوء في عتمة الفراق يكشف عن روح بلا جسد و جسد بلا روح...

وتطول المسافات...، ولاشيء غير رائحة الأشياء الراحلة عبرها ونوافذ صدئة لايطرق زجاجها غير عويل الريح....

* عشرون مسافة حملت هذه العناوين

 وجوه وأفواه، - إلى حين تمطر، - إصبع صغير، - زنزانة لاتضيء، - كذلك بعد اليوم، - صور رجال جبال، - حائل الاشتهاء، - احتضار حياة، - طيف ابتسامة، - اختراق محموم، حالة تردد، - ذو الوجه النحاسي، - الطفل الكهل، - كوّة في الغياب، - آلة صماء وإنسان، - نظرة بنظرة، - الإجتماع الأخير،- قناع ممثل، - أيقونات الغفلة، - أخيرا وحدك.
* مسافات تحتاج زمناً أقصر من عمر الألم وأطول من حياة البشر، لتصحيح عالم مشوّه يقبع داخلنا.

حكايات أخرستها الغربة، أوجاع القهر والظلم، الفراق واللوعة، ظلام السجن ووحشة الوحدة وزحمة محطات الذاكرة.

حكايات أوهنها عتب المسافات. أوصدها القدر ونزفها قلم كاتبنا كتلة آلام.

 ويمضي قطار المسافات...عشرون محطة، أولها في عيادة للأمراض النفسية."وجوه وأفواه تثرثر، وآخرون سيعودون يوماً ولايرون مايثير..".

وعجوز حاول اكتشاف نفسه في شارع طويل راح ينسحب من تحت قدميه، وأيامه كلها مازالت شتاء ينتظر إلى أن تمطر...

وفي محطة، تنفتح الزوايا المظلمة في شخصٍ، فيدرك جنوح العالم نحو اللاعبثية، وقلبه يخفق مبتسماً لأصبع ذاك الطفل التي لا ترتفع عن جرس الباب...وذاك السجين القابع في زنزانة لاتضيء، يحاول ترميم داخله المهجور والخروج نحو النور....

ونمضي مع كاتبنا، نعبر المسافات، نتوقف في كل محطة لأخذ العبرة وتعلم الحكمة، إلى أن نصل المحطة العشرين"وأخيرا وحدك"، حيث لا أحد... وكأن لا أحد!

*هو عالم الإنسان، إذن، وأبعاد تعاطيه مع وجوده والذي عبر عنه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر بقوله :"للإنسان في تعاطيه مع وجوده أبعاد ثلاثة، ينفعل معها، محاولا فهمها وإدراكها وهي :

١ (الذات: وهي علاقة المرء بنفسه، من هو؟ ولم أتى إلى هذا العالم؟ وكيف كان مأتاه؟ وهل تراني أقدر على معرفة ذاتي أم لا؟ وإن أمكن ذلك، فبأي وسيلة يكون...؟ وهل نعرف ذواتنا معرفة مباشرة؟ أم أننا لانعرفها إلا بالاستدلال عليها...؟

٢ (الغير : وهو أفق علاقة الإنسان مع نظرائه في الخلق، كيف يراهم...؟، وماهي حدود علاقته معهم...؟ هل هم جحيم كما ادّعى سارتر في مقولته الأثيرة :"الآخرون هم الجحيم"؟ أم أنّهم"نعيم"كما راهن على ذلك ليفي شتراوس؟.

٣ (العالم : وهو قضية وجود الإنسان بين الأشياء، ماصنعه بيده، وما وجده مصنوعا له!
وكيف ينظر إلى هذا العالم؟ وهل لنا رؤية للعالم؟ وإن كانت فما هي...؟.

* بالنهاية: كل هذه الأبعاد وهذه العلاقات المتداخلة والخارجة، محكومة بمفهوم المسافة والتي تشير إلى مدى وعي الإنسان وقدرته على تحديد علاقاته وضبطها والتحكم بها، فكم من أشخاص يقيمون بيننا والمسافة المعنوية بيننا وبينهم هائلة، وموحشة، وآخرون بعيدون، يؤنسون وحدتنا ويشغلون تفكيرنا.... وكما قال (أونوريه دي بلزاك) عن طبيعة الإنسان المترددة بين الوحشة والأنس، وبين العزلة والألفة :"العزلة أمر جيد ولكنك تحتاج لشخص ما لتخبره بأن العزلة جيدة".

كذلك وصف (محمد إقبال) رفقة الآخرين أو بعضهم بقوله :"

مثل شمع الحفل.. في الحفل وحيد ورفيق".

*مسافات زمكانية لها سحرها ودهشتها، لابد من الحفاظ على أبعادها حتى لاتنفلت منا وتنسحب من تحت أقدامنا، ولتعزز ذاك الحب المقدس فينا وتقودنا دوما نحو عالم ناضج تاركين في كل خطوة أثراً لايُنسى.

*هي مسافات جعلنا الكاتب المغربي محمد أيت علو رفاق دربه في عبورها.
حروف رسم بها لوحته المدهشة وترك لنا تلوينها.

نصوص تركها مفتوحة وجعل لنا الشراع لنبحر في مكنوناتها، ونتنقل عبر محطاتها، حكم وعبارات أنهى بها تلك النصوص، وتركنا نمعن ونتفكر ونتوقف طويلا في محطاتها ونتساءل...
بينما يُنهي كاتبنا مسافاته بقوله:

"كم هي مليئة بالأسرار والآيات هذه المسافة كما بين العين والقلب، فسبحان المبدع الخلاق....".

وبين المقدمة والخاتمة كأن لاأحد....!!!!!!!!

باسمة العوام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى