السبت ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٨

قراءة في نصوص عباس خلف علي: «فرصة لإعادة النظر»

شميسة غربي- سيدي بلعباس

"فرصة لإعادة النظر"، ممارسة سردية إبداعية، يجنح المحكي فيها إلى مناوشة شتات الذات، عبر 12 مشهداً، تتوزع على عناوين فرعية: العقم، تصاعد الرغبة، الضوء، الاِغتراب، الكوة، انثيالات، الهاجس، وفاق، خيمة، المصل، الغبار، ما يشبه المطر.

أرّخ السارد للنصوص الأولى، بالتواريخ الآتية: العقم 1994، تصاعد الرغبة 1993، الضوء 1994، الاغتراب 1994، الكوة 1995، انثيالات 1993. وطُبِعتِ المجموعة طبعتها الأولى ببغداد، سنة 1999، دار الشؤون الثقافية العامة.

على تخوم البوْح، يستدْرِجُ المبدع والناقد العراقي "عباس خلف علي"، خطرات النفس في حواراتها مع لوحة الأحلام الموؤودة، بعد أن نسج الكاتب تداعيات المشهد بمقاطعَ سرْدية، قصيرة في أغلبها، رغم كوْنها تترصّدُ حمولة رمزية، كفيلة بأن تُعرّي الحقيقة المؤلمة التي جسّدتها وضعيات مفروضة، هي وضعيات الحصار، وما انجرّ عنها من الويْلات على المستوى الفردي أوّلاً، ثمّ الجماعي ثانياً....

تشرْنَقَتْ محكيات "فرصة لإعادة النظر"، حول الذات القلقة، المُتَخَنْدِقة في سوداوية الواقع، غير أنّ هذه الذات – ذات السارد- لا تفتأ أن تستنجد بعنصر التخييل.. تحطّ الرّحال عنده، وتستظلُّ بظلّه، ومن ثمّ، يستقيم لديْها الفرْز، بيْن كيْنونتيْن: الكيْنونة المسْحوقة تحت معاول الدّمار، والكيْنونة المتطلّعة إلى ظلال السّلام في كنفِ غدٍ، يعْبُرُ بها إلى مرفأ الاِنعتاق، حين يتوَحّدُ هذا الأخيرُ بالحُلم، في نبوءته المُتقصّية للبُعْد الرّمزي المتوغّل في معاني نصوص الأديب "عباس خلف علي"، ناهيك عن الخلفية التاريخية التي لا تسمح بتدنيس المقدّس، بلْ وحتى مجرّد ترويعه....

يُركِّزُ النص الأول، "العقم" على حكاية الشجرة العنيدة...التي قد نفهم منها "حُرْمة الوطن"، يقول السّارد واِصفاً: « أمّا هي، فظلّتْ متصاعدة بما يوازي تجلدها وصبرها، تمتدّ قامتها الضخمة كالشبح، تستقبل يومياً، حكايات جديدة وأقاصيص لم تولدْ بعْدُ، إنها لم تزل قائمة لم يجرؤ أحدٌ على انتزاعها عن جذورها.... » فرصة لإعادة النظر، العقم، ص 5. تلتحم تفاصيل حكاية الشجرة، بتمثُّلِ صورة الأب والجدّ على السواء... كلاهما سُقِيَ من نفس الكأس، يقول السارد: «... توقف هنيهة، انحنى، أمسك طرفه، رفعه، وإذْ به ساقٌ محنطة جامدة، تتدلى منها شرائط مثبتة بكلاليب معدنية على جدرانها، نظر إليها باشمئزاز، تنهّد بملء رئتيْه، ونفث زفرة حادّة من أعماقه، وقال بامتعاض: " إنها تذكّرني بساق جدّك!" نفسه، ص 6. يستغرب السارد، فيسأل:" ساق جدّي؟!" ويكون الردُّ الفصل:" هي ثمن هذه الشجرة!" ص 6.

ينضاف – فيما بعدُ- إلى الجدّ والأب، صوت السارد...إنها الثُّلاثية التي يُوَحِّدُها حُبّ تلك الشجرة / المكان / الرّمز، ويختزلها المشهد من خلال استحضار حَكايا الأب، ِباعْتباره وَاسطة العِقد بين جيليْن... يقول السارد على لسان الواسطة: « لقد وجدوا يا ولدي جَدّكَ مطروحاً بساقٍ واحدة، عند جذع الشجرة، وبجانبه ذئبٌ مهشّمٌ، يفترسه النمل ويلحسه بشراهة... تقيّأت الشجرة دَمَهُ، الذي سال على الجذور، وتصدّعتْ أغصانها بعد ذلك، وصارت شجرة عظيمة، بينما الذئابُ استمرّتْ ردحاً من الزمن، تجوب المنطقة، بحْثاً عن الجدِّ القتيل..» ص 8.
الشجرة / الذئب / الدم / الجدّ القتيل... كلمات لها دلالاتها البعيدة حين تصوير المأساة التاريخية، وما نتج عنها من التّصدع والشرخ على مستوى العلاقات الإنسانية، وقد انفلتت من نواميس الحقّ الإنساني في طلب العيش الكريم، فاستفحل الضّياع، وبات الترقُّبُ لِلأسْوأ، هو ديْدنُ المرْء في أتون الصّراعات الحارقة لِأبْسَط التّطلّعات الإنسانية، المرتبطة بحُرْمة المكان....(الوطن) وبحُرّية القناعات في كيفية المواجهة لإقصاء الغالب من حياة المغلوب...

في نصّ "الرّغبة" يتجدّد ذِكر المكان، ولكن بمواصفات مغايرة، يجلوها السِّياق المواكب لخطرات النفس المُشتتة بين تقلّب الوضعيات.. يقول السارد: « منذ أن وطأتْ قدماي هذا المكان، وأنا أشعر بالاِنْقباض والضيق النفسي (...) قفر، صحراء... » ص 8. وحتى يتغلّب على هذا الشعور، تُسْعِفه المخيلة باسترجاع الحوار مع صديقه "عواد"، وقصة حرمانه من الولد... وينتج عن هذا الاِسترجاع، مقارنة حالٍ بحال...حال السارد المحروم من العيش تحت سقف عائلته بسلام... وحال "عوّاد" المحروم من نعمة الإحساس بالأبوة... وبضمِّ الحالتين، تنشأ حالٌ ثالثة، تتسع في أبعادها إلى تفاصيل "الحرمان" داخل وطنٍ أرهقته الحروب، وعبثتْ به النّكبات....
يستمرّ مشهد المكان في نصّ "الضوء"، ليؤثث فضاءً يُرسّخ الموروث... فيجنح السارد إلى استدعاء عنصر "الكوز" وتوظيفه، مستلهماً منه الوعي بقيمة الموروث، فالحصار الذي نجح في تغيير الأوضاع، لم ينجحْ في تغيير قيمة الأشياء... يقول السارد: « ... صوت أمي وأبي وهما يتهامسان في السّرّ (...) وإذا بي أسمعهما يتعاتبان بحسرة، حول شظايا الكوز، ويتلمّسان حطامه باهتمام..» ص 14.

تتآلف الغُربة والغَرابة في نصّ "الاِغتراب"، حيث يجمع السارد بين غربته النفسية وغرابة الحجرة التي يتواجد فيها...« أيُّ ظلامٍ هذا، يلجُ حجرتي؟ » ص 15. إنه ظلام الوحدة، وليس ظلام الغرفة....وإنها إملاءاتُ النّفس الحائرة، المُنقبضة من الاِنقلاب في الوضعيات، في مكانٍ، كان من الأنسب أن يكون موْضِعَ راحة، لا موْضِعَ شقاءٍ إنْساني، يقول السارد: « ثمّ تأمّلتُ وضعي في هذا المكان، الذي قامتْ عليه جدران هذه الغرفة الطينية (المخصصة للأدوات وبعض المعدّات الميكانيكية المعطوبة، التي يعتبرها الفنيون ذخيرة عمل، لابدّ منها في ظروف الحصار..» ص 16.

في نصّ "الكوّة"، يشتدُّ ثقل المكان تحت سلطة الأوهام، وهي توغل في أعماق الذات، يمتح منها السارد ما استقام له من مَعينِ الذكريات... تحْضُرُه الصُّور والأصوات والأشياء، وتمْثُلُ بين يديْه الشّخوص، ويذهب به الظن إلى أبعد المدى، فيتساءل: « هلْ تحوّل بيتنا القديم، إلى مأوى للأساطير..!؟ » ص 18. تساؤل له ما يُبرّره، حين تتكاثف الهواجس ويجد السارد نفسه، في كنف وضع غريب، يحاول أن يقصيه، لكن هيهات....! تستدرجه المخيّلة إلى صورة المكان / البيت، الذي جمع العائلة في أزمنة خلتْ... « عندما تسلّمه أبي من الدولة، كانت فرحة أمّي لا توصف... » ص 19. اليوم، لا شيء في هذا البيت، سوى الوحشة والسكون المخيف... سكون تُحوِّلُهُ هواجسُ السّارد إلى ألغاز مُستعْصية تغمُرُ المكان، فيعبّرُ عنها بقوله: « فجأة، رنَّ قرب أذني صوت ملاعق الشاي، أُصِبْتُ بالدهشة، لا أحد دخل البيت غيري، أنا الوحيد الذي أستطلعه الآن..اقتربت من الباب، رميت نظري من خلال خرمه الصغير، تفحّصتُ بدقة، ما سقط أمام عيني، كان ثمة فراغ هائل يواجهني، شعرتُ بخوف مبطّن (...) عادت الملاعق ترنُّ في ذهني، تنبعث من نفس المكان (...) ما أكّده السمسار الذي باعني إياه، أن هذا عيبه الوحيد، لذا يفرُّ منه الآخرون...» ص 18.

يسعى السارد إلى أن يتغلّب على هواجسه، فيستحضر صورة الأمّ، عندما كانت تحاول إيصال النور إلى المكان: «ولمّا كانتْ إحدى الغرفتين المنزويتيْن، ينحسر عنها الضوء، وينسكب على الفسحة المقابلة دون وُلوجه إلى الداخل، فتحتْ أمّي كوّة في أعلى الجدار، فبدا منظرها مُقْرفاً، رغم تبدد الظلمة.» ص 19.

تصبح "الكوة" دلالة منصهرة مع المكان، غير أنها تتحدّى سوداويته، فيرتسم البعد الآخر والذي يمكن من خلاله تنسّمُ عبق الآمال المتسلّلة من وصية الأمّ، « إياكَ، يا رجل، أن تُغلقها على الأوْلاد..! » ص 19. إنها الرؤية المُتكهِّنة بتجاوُزِ المِحْنة مهما كانت العتمة... وإنه المِشعل الذي سيَحْمِله النّشْءُ ويقتدي بنوره...

مع نصّ "انثيالات"، يُمعن السارد في تقليب صفحات الذكرى... ويعود إلى دفتر مذكّراته، ليعيش من جديد، أحداثاً نامتْ عنها العين، وانشغلتْ عنها النفس، لكن بِمُجرّد تفقّدها، تصْحو الهواجس وترْتسم بين عيْنيْه، إحدى محطات السارد أثناء عمله وأزمة الصّدمة العلائقية مع المسؤول، (لِأّني وضعْته في حجْمه الحَقيقي..) ص 23. إنه النّكد الذي يُرْهق الأعْصاب، وُيزعْزِع مكامن الِانْسجام في سُلّمِ التعاملات الإنسانية... غير أن التعويض موجود دائماً... إذْ لمْ يلبث السارد أن أسدل ستار هذه المرحلة، وانشغل بصغيره وهو يضعه – بعفوية الصغار – أمام حقيقة أخرى، يقول السارد:« ولا أدري كيف جذبني صغيري الذي ارتمى في حجري الآن، عن ذلك الخيال البعيد، الذي غلف مشاعري بإحساسٍ غريب، ليُشير بأصبعه الرقيقة إلى صورة خاله، المعلّقة على الجدار: ألا ترى، أنه يشبهني يا بابا...!؟ أجبْتُ بتردّد: نعم يُشِبهُك... ولكنّهُ لا يُشِبهُني...! وظلّتْ عيناي غائصتيْن في الصورة حتى شممتُ منها رائحة المُحرّكات وهي تطحنُ مزاجه الحادّ بدون توَقّف...» ص 25.

في نثْرِيَتَيْ "الهاجس" و"وفاق" يؤشّرُ السارد على خطرات النّفس في وحدتها، وهي ترتقي بين ظلال الخيال الماتعة تارة: «... عندما عدتُ إلى وعيي، أحسستُ بأنني ممتلئ بخدعة الرحلة » ص 26، وبين الإذعان إلى متطلّبات الواقع كيفما كان حجم الأمنيات: « الباقي هو أن يمنحني اللوحة فقط!» ص 27.

مع نصّ "الخيمة"، تتقاطع الخيْبَة مع الوَحْدة، فيُعَشِّشُ التّوجُّسُ في وجدان السارد، إلى أنْ يتدفّقَ على نغمة الاِعتراف: « أنا فريسة ذُعْرٍ لا إرادي...!» ص 28.

في أقصوصة "المصل"، ترتسم لوحة مخلّفاتِ الحصار: «أدوية ومطهِّرات وعفن أجساد محترقة، تتطايرُ كالرّذاذ في فضاءٍ يدلهم فيه المساء بتجهّم..» ص 29. ويكون الصبي "أمجد" أحد أركان اللوحة، حتى وهو على السرير..« كان وجهه الساكن أمامي كروضة قاحلة، استدار برأسه، سحب يده ببطء، لمَّ ساقيْه، تخيّلْتُ أنه ينزل من السّرير...ركض باتّجاه الشارع، مغموراً بفرح اصطياد فراشه، التفّ حوله الأطفال وهم يُصوّبون نظراتهم المتطايرة نحو الفراشة..» ص 31. ولكنها مجرد تمنيات، لم تلبث أن غادرت مخيلة السارد حين صحا على وقع الوضع الجديد:« لم تبق لي سوى الأنفاس، تشقُّ الهمود بليْلٍ أجوف من التّمنّي..!» ص 31.

في نصّ "الغبار"، يُركّزُ السارد على يوميات موظف في أحد المكاتب الحكومية، وما يتمَلكُهُ من الضيْق والقنوط من عملٍ روتيني، تمْتعض منْه النّفس، كما تمْتعض من الِاحْتكاك الدائم ببعض النماذج البشرية... لعلّ ملخّصها يُعبّر عنْه هذا المقطع، حين يقول أحدُهم للسّارد: « أخرِجْ فلوسَكَ، وابْنِ هذا الشباك، وارْحمْنا...! » ص 36. بعد لقائه الأخير مع المدير، يشتدّ الكرب على السارد، فتنْفلتُ أعْصابُه، ويصور لقطة الحسم: « ثمّ أطلقتُ فجأة صرخة من أعماقي، وأنا أرى هياكل ومخلوقات تنفذ من الرفوف، تقتحمني، تحاول الاِنْقِضاض عليّ، تُخلّفُ غباراً ساكناً وثقيلاً، ينمو فوق جسمي تدريجياً حدّ الاِختناق...» ص 40. إنها أصوات الموتى، تتعالى من خلال الملفات المركونة.... ومعها تحركات المدعو "عبد" المتوجّسُ دائماً....!

"ما يُشبه المطر"... هذا العنوان، هو خاتمة المجموعة، وفيه يلجأ السارد إلى توظيف صيغة المخاطَب. فيعمد إلى الاتّكاء على تحريك لقطة وصفية، إحصائية لِانْشِغالاتِه الذاتية، يقول: «... هذا الألم، لن تنساه أبداً.. وكأنك لا تزال تسمع صرخات نفسك.. تفكر الآن في محاولة ثانية، تهيئ الورقة، تسحب قلمك من المنضدة، وهاهي ناصعة البياض أمامك، تدعو قلمك الموقّر (...) ثمّ تسمع صوتاً ضخماً يقترب منك، تدنو من النافذة (...) تفتح عينيْك بوسعهما لتلتقط المنظر المختفي (... ) طائرة كبيرة وعدة جنود مُدرّبين، يهبطون (...) تمعن النظر فيهم وهم يُردّدون أناشيد الثأر، يُراودكَ العزم والتّأهّبُ، يأخذك التذكّر لِدَوْرِ أخيكَ في معركة "خان يونس" كأنّك تراه محمولاً من الخندق (...) ويظلّ خيالك مسهباً..» ص 42. يتذكّر السارد الورق أمامه.. تتّحِدُ لديْهِ نشوَةُ الإبْداع، مع عظمة الموْضوع فيُصوّرُ حالته: « وتفكّرُ جلياً في شيء يُناسب حفلة اليوم الخطابية لمصرع "غسان كنفاني" تبحث عن الكلمات (...) يأخذك الفرح (...) وبدأ سيلٌ من الكلمات يتدفق من أعماقك...» ص 43.

كانت هذه وقفة قصيرة، على أحد نماذج كتابات الناقد العراقي "عباس خلف علي"، والتي يمكن أن تنضوي تحت سرديات: مذكرات أو يوميات من زمن خاصّ.

يظلُّ السؤال المُلحّ، حول عنوان هذا الأثر الأدبي.... "فرْصَة لإعادة النّظر"... الفرصة... فرصة... مَنْ....؟ إعادة النظر... في ...منْ.....؟ أوْ في.... ماذا....؟

شميسة غربي- سيدي بلعباس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى