الأربعاء ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

قراءة في «نكبة وبقاء»

قرأتُ كتاب "نكبة وبقاء، حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل" للمؤرخ الفلسطيني عادل مناع، الصّادر عن مؤسسّة الدراسات الفلسطينية (مؤسسة عربية تأسست عام 1963 غايتها البحث العلمي حول مختلف جوانب القضية الفلسطينية والصراع العربي-الصهيوني. وليس للمؤسسة أي ارتباط حكومي أو تنظيمي، وهي هيئة لا تتوخى الربح التجاري) ويحتوي على 481 صفحة، صورة الغلاف هي صورة لعائلة بشارة قسطنطين مدور من حيفا في ثلاثينيات القرن الماضي ومصدرها كتاب د. جوني منصور "حيفا، الكلمة التي صارت مدينة".

عادل مناع هو مؤرخ فلسطيني من مواليد مجد الكروم الجليليّة، أصدر عدة كتب ودراسات عن النكبة والفلسطينيين باللغات العربية والعبرية والانكليزية.

الكتاب هو حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل ويتناول فترة زمنية (1956-1948) ويسلّط الضوء على حكايات إنسانية وشخصية للمهمشين ممن بقوا ولم يُقتلعوا من وطنهم.
يبدأ الكاتب بحكاية قريته "مجد الكروم" وتفاصيل المذبحة التي وقعت فيها، وقصة إبعاد عائلته عن فلسطين عام 1948، وإقامتها في مخيم عين الحلوة بلبنان وعودتها إلى القرية في صيف 1951، ثم يروي قصة فلسطينيين نجحوا في البقاء في حيفا والجليل رغم سياسة التطهير العرقي.

يصور مناع بدايات النكبة والهزيمة العربية في نيسان 1948 والنكبة كما رآها سكان الجليل وعاشوها ويتطرّق إلى سبب بقاء الناصرة وبعض قرى شمال فلسطين و"نجاتها" من الدمار وعن حكايات التهجير والمذابح التي ارتكبت في الجليل وأعمال القتل والتهجير في القرى الأخرى ويتساءل: كيف نفسر نجاح الفلسطينيين في الجليل بإفشال خطة الترحيل إلى حد كبير، على الرغم من محاولات التهجير والمذابح التي ارتكبت وبلغ عددها 15 مذبحة؟ معتبرًا أن دور السكان ومقاومتهم للتهجير والتحايل عليه لعب دوراً كبيرًا في بقائهم في وطنهم.

يتطرق مناع لدور الشيوعيين العرب ما بين النكبة و"الاستقلال"، وقد أثار حفيظتهم في كتابه، مركزاً على موقف "عصبة التحرر الوطني" من الصهيونية ومن قرار التقسيم، وعلى التحوّل الذي طرأ على موقفها وجعلها تدعم قيام الدولة اليهودية، ثم يتناول بالتحليل بداية تزعّم الشيوعيين الأقلية العربية في إسرائيل والتحوّل من عصبة التحرر الوطني إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي معتبراً أن قرار غالبية ناشطي العصبة الانضمام إلى هذا الحزب وتبني سياساته كان نوعاً من "خيارات البقاء" التي اتخذها الباقون في حيفا والجليل، وهو بقاء تم تغليفه وتسويقه كخيار إيديولوجي مستقل، لكنه كان في جوهره نتاج تحوّل الموقف السوفياتي من معاداة الصهيونية إلى التحالف معها.

يتتبع مناع أحوال الباقين في شمال فلسطين بعد انتهاء الحرب في أوائل سنة 1949، ويعالج قضايا الخوف والطرد ومحاولات العودة والتأقلم للعيش ضمن الحدود الجديدة لما بعد النكبة. كما يتعرض لاستمرار سياسة تهجير الفلسطينيين بدواعي الأمن ومحاربة "المتسللين"، ودور الباقين وطرق مواجهتهم للسياسة الإسرائيلية التي حاولت التخلص منهم أو تقليص عددهم قدر المستطاع.

ويستعرض مناع صراع البقاء رغم القوانين التي شُرّعت لخدمة سياسة القمع والتهجير، ويتطرق إلى مجزرة كفر قاسم ( حين أعلن الجيش الإسرائيلي حظر التجول في منطقة المثلث قُبيل بداية العدوان الثلاثي على مصر بساعات في 29 تشرين الأول 1956، تلك المجزرة التي أسفرت عن قتل 49 شخصاً من سكان القرية الأبرياء العزّل، والتي عززت تكاتف الفلسطينيين ونضالهم المشترك للعيش بحرية وكرامة في وطنهم.

التاريخ غير مجرد وغير مطلق، ويكتبه المنتصر عادةً ولذلك هناك ضرورة ملحّة لدحض الرواية الصهيونية التي علمونا إياها منذ الصغر. روايتنا الشفوية الصادقة مُهمّشَة ومُغيّبَة والكتاب لُبنة ومدماك أساسي من فسيفساء لم يكتمل، والشهادات الشفوية في الكتاب مهمة جدا واعطته نكهة خاصة وحبذا لو وُجد الجسم الذي يسجلها لان المتبقّين من أبناء الشعب الفلسطيني المنتكبين يتناقصون ويموتون وتموت معهم "الحقيقة الكاملة" والتاريخ غير المزيف. لذا هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل شهادات حول النكبة ممن عاشها ثم أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وعدم تركها للمؤرخين المهنيين/ المنحازين/ الحزبيين, اللا موضوعيين ولو جُمِعت تلك الشهادات لتكونت اللوحة التاريخية الصحيحة.

يشكّل عنوان الكتاب "نكبة وبقاء" نوع من التحدّي: بقاء رغم النكبة واهميته ورسالته في عنوانه، حيث يتناول "قصّة" من بقوا ولم يُقتلعوا من بيوتهم ووطنهم إثر النكبة ويشكّل تحية إجلال وإكبار لهؤلاء الباقين.

أثار الكتاب كثيرًا من الجدل (جدل جاء ممن لم يقرؤونه، للأسف!!) على الرغم من الإيجابية في الإثارة، وفتح المجال للتعددية وقبول الاخر لكشف الحقيقة، معرفة الماضي لنعيش الحاضر ونؤمّن المستقبل.

بخصوص مصادر البحث، يذكر المؤلف أنه اختار أن يعتمد بشكل مهني ومدروس على الروايات الشفوية التي جمعت من سكان الجليل، إلى جانب المصادر المكتوبة والمطبوعة، ما يجعل الدراسة نموذجاً لتاريخ " يُكتب من القاعدة" بعكس معظم الروايات التاريخية التي كُتبت من وجهة نظر النُخب.

أما الهوامش في الكتاب فهي غير مريحة لأنه غالبا ما تُلحق الهوامش بالنص في أسفل الصفحة تهميشا وتذييلا وإلحاقا لإضاءة النصّ وتفسيره من جميع جوانبه -وخاصةً الدلاليّة والتاريخيّة- وتهدف إلى تسهيل النص على القارئ وتقريبه إلى الزمان والمكان ولكن في هذا الكتاب نجدها في آخر كل فصل بعيدة ومتنصّلة منه مما يُتعب القارئ ويُفقدها قيمتها.
أما بالنسبة للفهرست في نهاية الكتاب – فهرست أسماء الشخصيّات، المؤسسات، الأحداث والأماكن وغيرها مما ورد في الكتاب – فهي لفتة مباركة وضروريّة تسهّل على القارئ والباحث أثرت الكتاب وزادته مهنيّة ورونقًا.

وأخيرًا، هذا الكتاب ضروري لكل مكتبة بيتيّة فلسطينية ليكون عبرة للأجيال القادمة لمنع حدوث نكبة أخرى لنتعلم منه العِبر!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى