السبت ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٨
بقلم الهادي عرجون

قراءة للمجموعة الشعرية «على مرمى حجر»

تحضرني الساعة مقولة"لارنست همنقواي"ركيزة وعنوانا للصد:

"أكتب نصك وألزم الصمت..."و هذا ما يجب أن يفعله الشاعر وليد حسين الذي إلتقيته لأول مرة في صيف 2016 بالمهرجان الدولي للقصيدة العمودية بمدينة قابس الواقعة بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية استمعت وقتها إلى شذرات من شعره كما أهداني مجموعتين شعريتين"أنثى النارنج"و"صيرورة الماء". ليتحفني منذ أيام بنسخة إلكترونية من مجموعته الشعرية"على مرمى حجر"عن دار الرافدين في لبنان وقد ضمت صفحات الكتاب سبع وعشرين قصيدة توزعت بين الشعر العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر وقدم لها الدكتور سمير الخليل أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الآداب – الجامعة المستنصرية.

ففي البداية لابد من أن نقف على عتبة العنوان"على مرمى حجر"و هي العبارة التي استهل بها الشاعر وليد حسين قصيدته"على حافة الانتظار (صفحة 17) و هي من السياقات الأدبية و الحياتية المتداولة في الأدب العربي حيث توحي هذه العبارة بانتفاء البعد كما تقرب الممكن و الموجود ما بين المثالية و المادية يقول الناقد العراقي"هشام آل مصطفى"عن الشاعر:"استطاع الشاعر بعمله الإبداعي... توصيل فكرة القصيدة إلى القارئ النخبوي و حتى القارئ العادي بكل دقة فكرية لسهولة التناول و التعبير الفني الواضح و بقابلية توصيلية ذات امكانيات واسعة...".

فالشاعر يستعرض لنا أحداث في شكل قبسات شعرية للوضع السياسي و الإجتماعي و التاريخي لما آلت إليه أوضاع العراق حيث يجسد الشاعر وليد حسين ويصور الحياة الواقعية التي يعيشها بكل ما فيها من مآسي و أحزان انعكست على وطنه و على نفسيته بأسلوب متجدد متعدد الأنماط الشعرية (الشعر العمودي – التفعيلة – النثر) في بنية نصية موحدة متحدة المواضيع تستعرض الوقع المعيش (لحظات الخوف – الحرب – غزو الدواعش – وحشية و قساوة الفواجع التي تتالت و ألمت بالعراق).

فالشعر لا يولد إلا من رحم المعاناة و من المواجع و الآلام"وإذا كان التاريخ نهرا من الدم كما يقول"غيبون"فإن الفن"أشبه بأسطول من السفن البلورية تمخر ذلك النهر جيئة وذهابا وكل سفينة ترفع راية جديدة في كل سفرة جديدة وتحمل كنزا جديدا."

فباستجلاء المواضيع و استعراضها يضيق الهوة التي بينه و بين المتلقي لأنه يعبر عن هواجس الناس و مشاعرهم و يصور أحداث و أحاسيس عاشها الشعب العراقي بأسره فهو ينطلق من الواقع و يعود إليه. فالشاعر وليد حسين لا يعتمد على تأويل القارئ و وصوله إلى المعنى العميق للنص كغيره من الشعراء بل يجعل القارئ يكتشف النص إكتشافا مباشرا لأنه يعبر عن هموم الناس ينطلق منهم و يعود إليهم ينفث جواهر شعره ليخفف عنهم أوجاعهم و مآسيهم حيث يصور فاجعة الكرادة و الإنفجار الكبير الذي دمر المباني و حصد أرواح الأبرياء و بث الخوف و الخراب. يقول في قصيدة الكراديات (صفحة 107):

قَتَامةُ الحزنِ قد هبّتْ على فننِ
بالنائحاتِ فما زاحتْ عرى الشجنِ
ليلُ دجيُّ من الأمواتِ ما فتىء
يصارعُ الصبحَ حتى فرَّ بالكفنِ
رتابةُ الوجعِ اليوميِّ ما انكشفتْ
عمّن تورّط في قتلٍ بلا ثمنِ

و هذا ما ذهب إليه أيضا الروائي"مصطفى لغتيري"عن شعر وليد حسين و ما يحاكيه:"اتخذت القصائد عند الشاعر في شكل صرخة مدوية تنفث من حولها رذاذ الوجع الدامي الذي ما انفك يستوطن أفئدة العراقيين خاصة و العرب عامة نتيجة المآل السيئ الذي آلت له أوضاع العراق الجريح". فباستجلاء المواضيع و استعراضها يضيق الهوة التي بينه و بين المتلقي لأنه يعبر عن هواجس الناس و مشاعرهم و يصور أحداث و أحاسيس عاشها الشعب العراقي بأسره فهو ينطلق من الواقع و يعود إليه.

فشعره لا يخلو من تمجيد للأرض و الوطن و أهله في جنوب العراق الذين خصهم بقصيدة"و يبقى الجنوب"صفحة 14 من المجموعة حيث يقول:

ويبقى الجنوبُ يمدُّ السباعَ
عزيزاً..
الى الموتِ ينذرُ شِبلا
ويبقى الجنوبُ..
سليلَ أُباةٍ

و التي يقدم فيها صفات و حرص أهل الجنوب على الوقوف في وجه مخربي العصر و هو نص فيه الكثير من الاحتفاء و استجلاء للحس الوطني لدى أهل الجنوب تضمن دلالات و رموز تجسد مكانة الأرض التي ينتمي إليها الشاعر و التي أخرجها في صورة شعرية فيها الكثير من الحب و الغيرة على هذا الوطن حيث يقول في نص"ربما... جاءت اللحظة"صفحة 121 من المجموعة:

عند الحادية عشرة..
قبل منتصف الليلِ
كان قلبي يراودها..
عن نبضهِ
تطلقُ يدها فوق أرتعاشاته
لكي ترى..
سريان المشاعر داخل جسدها
منذُ نبضٍ
وأنا معلقٌ بتلك الصورةِ
أتلمسُ تقاسيمَ وجههِا
برؤيةِ شاعرٍ

و هو في هذا النص و إن كان ظاهره يتحدث عن المحبوبة فلا تعدو أن تكون هذه المحبوبة هي العراق بتضاريسها و أنفاس نخيلها و قراها و أنهارها فهي"كالجرح لا يمزقه الردى"ذلك العراق يقف كالنخل شامخا رغم المحن و المكائد و الدسائس و التشريد يقول في قصيدة"و كذا اليسار"صفحة 50 و 51 من المجموعة:

بلدي يُسامُ ببخسِ
ماارتكبتْ
تلك الدساسُ في القرابينِ
فتشتّتْ آمالنا..
مدناً
وتبعثرتْ في كفِّ مقرونِ
وتغرَّبَ الأبناءُ عن زمنٍ
وتصالحوا..
في صدرِ مَشْحونِ

كما أن الشاعر في اعتزازه بأهله هو في ذات الوقت تثبيت لعزائمهم و وقوف إلى جانبهم ضد دعاة الفتنة و القتل فهم كما يصفهم لا يخافون الموت يقول في نص"يا ألف سارية"صفحة 38 من المجموعة:

هُمْ فتيةٌ هبّوا بفيضِ مروءةٍ
متدافعين الى اجتثاثِ الخُنّعِ
يتعانقون لفرطِ ما أزف الوغى
قلباً تعلَّق في اعتناقِ المرجعِ
يتسابقونَ وما المنايا حسبُهمْ
حتى تواروا في احتضانِ الموضعِ

كما أن حالة القوة و النشوة التي يكابدها الشاعر و يسعى إلى بثها في نفوس أبناء شعبه و قرائه عموما فإن مسحة الحزن و القنوط تداعب أحاسيسه بين الفينة و الفينة لتفضي به إلى تذكر الصبى، فحالة الصبى و الطفولة عادة هي مهد الأحلام و مبعث الآمال و بؤرة الحياة السعيدة يقول في نص"أنا ابنك البار"صفحة 54 من المجموعة:

ايّها الفشلُ..
المشرئب لعناقِ الموتى
أنا ابنُك البارُ
تخطيت زرَ الأمانِ
بأصابعَ كفٍّ أصطناعيةٍ
لم أحظ يوماً..
بأيةِ بارقةِ لحظٍ
كنتُ أفتشُ عن سيرتِك
الذاتيةِ
بوجهٍ.. مدجّنٍ
لاينتمي لروحي السامية

و لكنها جاءت تحمل هاجس الفشل لا هاجس الأمل و القدرة حيث لا قدرة للإنسان عموما على العيش بدون تلك الذاكرة حتى و إن كانت سيئة فهي التي تشكل في مجملها مستقبله و واقع حياته المستقبلي بما فيها من متناقضات لتخرج شعرا عذبا كله أشجان و ألم ليبزغ في الأفق روح الأمل و الحب و اللهفة إلى الوطن يقول في نص:"ها أنت ثانية"صفحة 55:

ها أنتِ مثلُ الفجرِ
تنبعثين..
في غسقِ الرؤى
حُلماً..
تدفّق في الكرى
يجتاحُ كالنهرِ المجنحِ
بعضَ أقبيةِ.. السُرى

و بعودته إلى الماضي القريب و ذكريات الطفولة و الشباب التي تراوده مرة تلو أخرى تتكون في داخله في شكل ومضات لتخرج شعرا عذبا وصورا تذكارية لما كان عليه وضع الثقافة حيث يعزي نفسه في مهرجانات البصرة التي كانت تحتفي بالشعراء و اليوم باتت خرابا ليعود بالزمن إلى الوراء يستعرض صورة الماضي بأبهى حللها يقول في نص:"ولنا زمن... تجرد"صفحة 46 من الكتاب:

لايحصي سوى أنكساراتِ الشعراءِ
بمرابد البصرةِ
منذ أنْ تطوّع أفلاطون بخوذتهِ
كاشفاً..
عن رغبته..
لانّهم يمارسون الأشفاق
والقلق المرضي
فوق منابرَ من ذهبْ
كما يقول في نفس النص:
ذاكرةٌ معطوبةٌ
تنفذُ الى دهاليزَ باردةٍ
مصحوبةٍ
بحشرجاتٍ منخفضةٍ
لها رئةٌ..
تلبّدتْ بالصمتِ منذ خريفٍ
تنزوي مع أولِ قطرةِ
غيثٍ
لكنها..
لن تنفكَ عن ممارسةِ الاختباءِ
عند مواقدِ العرّافاتِ
تستنشقُ زفير الحلمِ
برائحةِ النذورِ

و لكنها جاءت تحمل هاجس الفشل لا هاجس الأمل و القدرة حيث لا قدرة للإنسان عموما على العيش بدون تلك الذاكرة حتى و إن كانت سيئة فهي التي تشكل في مجملها مستقبله و واقع حياته المستقبلي بما فيها من متناقضات لتخرج شعرا عذبا كله أشجان و ألم ليبزغ في الأفق روح الأمل و الحب و اللهفة إلى الوطن يقول في نص:"ها أنت ثانية"صفحة 57:

وقلبكُ كالنوارسِ
لن يغيبَ عن القرى
فالماءُ يمنحهُ الحياةَ
لهُ مساماتُ
يجرُّ بظامىءٍ نحو البِلَى
لم تهدأِ النسماتُ
ترهقُها الأزقةُ
عندما أزفَ الهوى
هاأنتِ ثانيةً..
بسمرةِ وجهِكِ.. المخذولِ
من أرقِ الطوى
تتلذذينَ بشاعري
كي تنفذينَ
الى دويحاتِ الجوى
وتغامرينَ بكشفِ سرٍّ
عن فؤادك.. منذُ آلامِ النوى

كما لا يفوتني أن أعرج على المسحة الصوفية في نصوص الشاعر وليد حسين حيث أن الوقائع الدينية و الخلافات العقائدية التقليدية الكبرى و مشاكل العراق الآنية لها تأثير كبير في أسلوب الشاعر و نوعية المعجم الذي يستعمله ليحملنا في رحاب حضرة الإمام الحسين من مناجاة و تراتيل يقول في نص:"عفوا آتيك سيدي أتعثر"صفحة 83 من الكتاب:

جنفاً أتيتكَ _ سيدي _ أتعثرُ
ولنا خطىً..
لم تستقمْ لك تنظرُ
ها أنت كلّي..
أصداءُ لائك
قد تجلّت بيننا
قيماً..
لها كلُّ الخلائق كبّروا
أضحتْ دماؤك تستحلُّ لصارمٍ
حتّى جرتْ
مُنذ اغترافِك أنهرُ

و هذا ما جعل في شعر وليد حسين انسيابية و دلالات روحية ذات أبعاد و تأثيرات صوفية في كثير من نصوص مجموعة"على مرمى حجر".

هذه بتلات انتثرت من"على مرمى حجر"فيها الطرافة والجدة والجرأة فبالرغم من قراءاتي لكتابه"صيرورة الماء"و"أنثى من النارنج"فإن هذه المجموعة مثلت لي في كثير من الأحيان إضافات رائعة فبالرغم من موضوعها المتداول كثيرا في الشعر العراقي الحديث إلا أني وجدت فيها شيئا مختلفا يكاد يكون جديدا. ثمة موسيقى و قرب من القارئ تجعله يندمج في قصائد المجموعة مشتبكا مع أحداثها إلى حد الحميمية والخصوصية... يحس ألما ويتنفس وجعا وقهرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى