الأربعاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٠

قراءة نقدية وأدبية في قصيدة «يا شام»

عبدالرزاق كيلو

كل عبارات الشكر والتقدير للأخ الغالي على قلب مفيد نبزو الأستاذ الأديب الأريب والشاعر البليغ الملهم عبد الرزاق كيلو المحترم الذي شملنا بمحبته ووفائه الذي بلا حدود.

كتب الشاعر”مفيد نبزو“مقدمة بيانية استهل بها قصيدته يقول فيها:”بين البيوت يمرُّ نهر بردى في وادي بردى، وحوله الأشجار الكثيفة والورود والزهور المتلونة، وأوراق الأشجار تسبح فوق الماء، هنالك ترى الحصا في القعر من وجه الماء،وكأنك تنظر في مرآة تعكس صورة الطبيعة الموشحة بأبدع الألوان"

من خلال هذه المقدمة يتضح لنا:

دقة تصويره البياني و قوة عدسةخياله التي شكلت مقياسا أو ذوقا جماليا شاع في جميع أبيات القصيدة كما يتبين لنا هيامه في وصف دمشق ضمن إطار غزله الحسي مشرحا مظاهر الفتنة في أجزاء تكوينها الطبيعي كما يشرح شعراء الغزل جسد المرأة المكتنز بمظاهر الجمال الذي يفتن لب السامع و الناظر.

فلنصغي بعيوننا المحدقة..و لنسرق النظر من مفاتن الجمال و مواطن البهاء الدمشقي في جسد القصيدة ممتشقين سهام ناظرينا...... و لنسمع بآذاننا إلى دقات قلبها المتسرعة لهفا وشوقا للقاء عامر بالمحبة والعشق الطبيعي في فسحة مخيلة الشاعر الفياضة لغة وتصويرا و بيانا:

يا شامُ أنتِ الهوى والسحرُ والعبقُ
يا شامُ أنت الندى والعطرُ والحبقُ
نحن التقينا على شوقٍ يؤرِّقنا
فهل نعودُ وبعدَ الَّشوقِ نفترقُ؟!
ما كنتُ أحسبُ في عينيكِ أمنيتي
حتَّى التقينا، وكانَ الحبُّ والألقُ
من ألف عامٍ عرفتُ الشَّامَ شاعرةً
يوحي لها الفجرُ، بل يوحي لها الغسقُ
من ألف عامٍ عرفتُ الشامَ عاشقةً
تعانقُ الله في وجهٍ هو الَّشفقُ
تلك العذارى الدمشقياتُ نعرفها
بالوجه تشرقُ،، بالعينين تأتلقُ
وقاسيون يزفُّ الشامَ هيبتهُ
ثغرٌ بريءٌ، ووجهٌ باسمٌ طلِقُ
والنبعُ في بردى ينثالُ أغنيةً
فيرقصُ الطَّيرُ في الأشجار والورقُ
يا شامُ هذا الهوى ما زالَ في دَمِنا
نحن الذين على درب الهوى خُلقوا
تلك العذارى الدمشقياتُ نعرفها
من سحرها الندِّ قلبُ الصبِّ يحترقُ
يا شامُ أنت الهوى في روح قافيتي
لا تتركيني – بحقِّ اللهِ - أختنقُ.

فيبدأ الشاعر قصيدته بمقدمة إنشائية متعددة التشبيهات البليغة مستخدما أداة العطف التي تفيد المصاحبة و اللزوم مسبوقة بأداة نداء تمثل حالة القرب الروحي و القلبي التي ملأت أركان قلب الشاعر حبا وهياما...لذا...فالشام لازمة لهذه الصفات التي يزفها لها الشاعر في البيت الأول تعبيرا عن ذوقه الفني الجمالي المنطبع في عدسة عينيه التي لا تلتقط إلا الجميل الذي يحرض الفتنة و الرغبة في الاتصال الجمالي الحسي مجردا و مرتسما في رغبات خيال السامع في عشق الزمان والمكان منضويا تحت إحساس المتلقي السمعي والبصري.

و تنم القصيدة منذ بدايتها عن شخصية الشاعر الشعرية الأنيقة وعن تجلي حضورها الرسمي على منصة بيانها بدعوة كريمة من معانيها و أفكارها التي تشبه جمهورا يرى و يسمع داخل بهو بيانها..و كيف لا..؟ و هو شاعر الصالونات و المهرجانات الأدبية العربية و العالمية فلاح ناشط مبذر لزرعه في محافل الشعر حاصد بمنجل بيانه المسنون الأوسمة و الجوائز التي تشهد بوفرة غلاله الإبداعية فهو من المراودين الأشداء الغالبين في حلبة المسابقات الشعرية التي حقق فيها مركزا متقدما على سلم الترتيب في الدوريات الأدبية العربية و العالمية.

ثم يخوض الشاعر بعلو همته الشعرية غمار شوقه معززا إياه بنزعة روحية ونفسية تعكس حالة الهيام التي تغشى العاشق الميتم عند لقاء الحبيبة الغالية يزجي تمنيه بعدم فراقه لها بأسلوب الاستفهام الذي يفيد تأكيد حالة الوصال الدائم رافضا و نافيا الفراق والبعد والهجر:

نحن التقينا على شوقٍ يؤرِّقنا
فهل نعودُ وبعدَ الَّشوقِ نفترقُ؟!
ما كنتُ أحسبُ في عينيكِ أمنيتي
حتَّى التقينا، وكانَ الحبُّ والألقُ

فحالة الأرق فاضت في كفة ميزان المشاعر المستحثة قربا زرف من خلالها الشاعر أمنياته في عيني محبوبته فتورد الحب في مهجتيها كالنور الساطع في جبين الشمس و هي صورة مشخصة ومجسمة تعكس حالة الالتصاق الروحي بين الشاعر و محبوبته دمشق...و كأن عنفوان ألقها التاريخي والحضاري يطوي جناحيه تأهبا لما سيلقيه عليها الشاعر من مخزون الجمال المترائي له في فسحة خياله..... و ما أعظمه من لقاء يجمع بين اشتياق الفكر و بين بلاغة التعبير وتمثيل الصورة المسطحة خيالا يحسبها السامع تدللا لأمنيات الشاعر بين يدي محبوبته..

فيفيض دنان مشاعر المتلقي بالأحاسيس التي تجعله متمنيا حالة القرب الزماني والمكاني ليمتع ناظريه في عيني هذه المحبوبة الجميلة “دمشق"

ليتورد الحب في قلبه هو الآخر.
من ألف عامٍ عرفتُ الشَّامَ شاعرةً
يوحي لها الفجرُ، بل يوحي لها الغسقُ
من ألف عامٍ عرفتُ الشامَ عاشقةً
تعانقُ الله في وجهٍ هو الَّشفقُ

فبأسلوب العطف خلفا يزجي الشاعر أمنيته في الحب الضاربة جذوره في عمق التاريخ واهبا لدمشق إلهام الشعر بفجرها المشرق تجليا..وبليلها الموشح بالبياض المشوب بالإحمرار ملونا قصيدته بصبغة كونية ترتد في تكوينها إلى النور..نور الشمس التي تمنح بهاء الكون طاقة حيوية متجددة لا يدرك سرها الجمالي و الحسي إلا الشعراء...ولاحظ معي دقة التصوير الفوتوغرافي البياني التي تلتقطها عدسة مخيلة الشاعر..الفجر...الغسق.. من حيث اللغة البلاغية هو طباق محققا فيه الشاعر لكل قيمه الفنية من تأثير و إثارة للخيال و توضيح لمعنى الشطر الأول من البيت من كون الشام شاعرة تجيد الشعر و تجويده وهي استعارة يقصد بها ذاته الشاعرة التي استلهمت من وجه دمشق معشوقته الشعر متى..؟ في ساعتي الفجر والغسق فيهِما يهبط وحي الشعر في مخيلة الشعراء و ينبعث صدى التجلي الروحي في النفس...و لهذا في البيت الذي يليه ينزع الشاعر نحو المعنى الصوفي العرفاني المتولد من حالة الاتصال مع الذات الإلهية هياما و وجداني يستعير له الشاعر صورة العناق التي تفيد حالة الالتصاق...فانشقاق الفجر و انبعاثه نهارا جاليا للعتمة اننزاع روحي رائع جدا يضيفه الشاعر على الشام من بداية تكوينها عامرة بجمال إلهي هبة من الله لهذه الأرض التي هي بقعة من الجنة أو طريق سالك إلى الله يشعر به المرء و يسلكه فالشام عاشقة الله من بداية انشقاقها و تكوينها في رحم الوجود الزماني والمكاني... إن لغة التجسيم في هذين البيتين بمنح دمشق تداعيات الروح الإنسانية..... (شاعرة عاشقة) تعبران عن منتهى الامتلاء الروحي الفياض بالفكر المتوقد و الإحساس المنتشي لذة وعرفانا وهما من أبرز سمات المذاهب الصوفية الفلسفية. تلك العذارى الدمشقياتُ نعرفها بالوجه تشرقُ،، بالعينين تأتلقُ
و ماذا بعد حالة الهيام الصوفي العرفاني إلا حالة الطهر المشربة بالجمال الحسي.. فحالة الطهر الأخلاقي تهب الشكل المادي جاذبية الإشراق و التجلي..تلك صورة أخرى من ملامح العذارى الحسناوات الدمشقيات كأنهن الحواري المقصورات في الخيام يشع من وجوههن النور...وتبرق عيونهن بريق اللؤلؤ و الألماس..وخص الوجه و العينين في الوصف لأنهما عادة ما يستدل بهما على الجمال الأنثوي الفاتن كناية عن صفة ماثلة عيانا يسبقها تشبيه بليغ يعبر عن حالة الطهر والصفاء....

وقاسيون يزفُّ الشامَ هيبتهُ
ثغرٌ بريءٌ، ووجهٌ باسمٌ طلِقُ

ثم تتحول عدسة خيال الشاعر المرهفة الأحاسيس معتمدا على حركة تشكيلية كلاسيكية لغوية في بيانه..فالقاسيون الجبل الأشم المنتصب على حافة دمشق يجسد الهيبة و الرهبة في النفوس عندما يجد جده...كحارس أمين..و يرخي دلاله و أنسه و وداعته إذا حمدت حواشيه خيرا وعطاء.. وهذه الحركة الثنائية يسند خلالها الشاعر الصفة على الموصوف على سبيل الاستعارة التي تبرز الجمال الجغرافي الدمشقي بعد إبرازه للجمال البشري في وجه ومآقي العذارى الطاهرات في إحساس السامع و المتلقي..كما يتضمن المعنى في زفة قاسيون للهيبة الممدوح السياسي الضمني المجرد من الاستعارة المجازية التي أحكم الشاعر تضمينه خلف المعنى القريب من الإدراك..فهذا الممدوح ضمان لاستمرارية الخير والعطاء و للطموح في تحقيق النصر و الاستقرار.

(يتبع)

عبدالرزاق كيلو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى