الثلاثاء ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم رامز محيي الدين علي

قشمر

كان في قرية مجاورة لقريتنا ثمة رجل يلقب بقشمر وكان غاية في الفكاهة والذكاء والنباهة.. زارنا ذات يوم في بيتنا..
فقال لوالدي - رحمه الله - : والله شيء غريب ومحير..
والدي: خير إن شاء الله، وما الذي يحيرك وأنت تحير الشياطين!!
قشمر: الذي يحيرني ابنك الكبير- وكان يقصدني -!!
والدي: وما الذي يحيرك فيه؟؟ هل أخطأ معك في شيء؟؟
قشمر: لا والله ما يحيرني فيه هذه الكتب تحت إبطه.. ماذا يدرس ابنكم؟
والدي: يدرس اللغة العربية في الجامعة..
قشمر: ما فهمت .. أنا أقصد ماذا سيصبح في المستقبل؟؟
أبي: سيغدو معلما..
قشمر- مندهشا - : معلم!! يا لضياع التعب!! .. ابنك - بعد كل هذه الدراسة والذهاب للجامعة .. سيصبح معلما!! وسوف يعلم ( الصبيان!!)..
صدقت يا قشمر!! ليتني تركت الجامعة واشتغلت معلم (شاورما).. لكان تحت إمرتي اليوم خمسة معاونين على الأقل.. ولكنت صاحب مطعم أجلس على طاولة المكتب والكل ينظر إلي باحتــــرام.. أو معلم حداد أو نجــار (باطون) لكنت اليوم

مقاولا كبيرا يملك أبنية وأبراجا.. أما معلم العلم فمسكين سيظل (ملطشة الصبيان) وسيقضي نحبه قبل أوانه إما بجلطة أو سكر أو ضغط أو حادث بعد أن فقد أعصابه وتوازنه وراح يحاكي ذاته.. وكل حركة فيه تعبر عن حاله.. رحم الله المعلمين وأقيموا صلاة الغائب على أرواحهم!

وصدق شاعرنا إبراهيم طوقان في قصيدته (الشاعر المعلم) التي يرد فيها على أمير الشعراء أحمد شوقي الذي وصف المعلم وصفا مثاليا بعيدا عن واقع المعلم الحقيقي المتمثل في الشقاء والهم والغم وقصر العمر؛ لأن عمله انتحار.. وليس له أية مكانة اجتماعية في مجتمع لا يقدر أهمية العلم، ولا يعترف بجميل ما يسديه هذا المخلوق البشري للأجيال.. ولا سيما في المجتمعات المتخلفة التي تحكمها أنظمة فاشية بالحذاء العسكري الذي ما فتئ يضاهي في قيمته كل المقررات الدراسية التي يدرسها جميع المعلمين والأساتذة بدءا من مرحلة التأسيس وانتهاء بأعلى مراحل العلم.. أو في المجتمعات التي تتراقص طربا مع كل جديد وتتفنن في استيراد (الموديلات الأجنبية) في مناهجها.. متناسية أن ذلك المعلم مخلوق بشري تكبله أغلال الحياة وأعباؤها بشتى ألوانها وأشكالها.. وليس له حق يسير من حقوق الحيوانات المدجنة في الحدائق الترفيهية أو في قصور الأثرياء فيما يتعلق بالرعاية الصحية أوالاجتماعية أوالإنسانية..

وهذه أبيات القصيدة تلخص حال المعلم ومآسيه الحقيقية التي لا يشعر بها إلا من اكتوى بسعيرها وذاق طعم العلقم في مرارتها:

شَوْقِي يَقُـــولُ وَمَا دَرَى بِمُصِيبَتِي
قُــــمْ لِلْمُعَلِّــمِ وَفِّــــــهِ التَّبْجِيــــلا
اقْعُدْ فَدَيْتُكَ هَلْ يَكُـــونُ مُبَجَّــلاً
مَنْ كَانِ لِلْنَشْءِ الصِّغَارِ خَلِيـلا
وَيَكَادُ يَفْلِقُنِي الأَمِيــــرُ بِقَـــوْلِـهِ
كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُـــولا
لَوْ جَـــرَّبَ التَّعْلِيمَ شَوْقِي سَاعَةً
لَقَضَى الْحَيَاةَ شَقَاوَةً وَخُمُــولا
حَسْب الْمُعَـــلِّم غُمَّـــــةً وَكَآبَـــةً
مَرْأَى الدَّفَاتِرِ بُكْـــرَةً وَأَصِيلا
مِئَـــــةٌ عَلَى مِئَةٍ إِذَا هِيَ صُلِّحَتْ
وَجَدَ العَمَى نَحْــوَ الْعُيُونِ سَبِيلا
وَلَوْ أَنَّ في التَّصْلِيحِ نَفْعَاً يُرْتَجَى
وَأَبِيكَ لَمْ أَكُ بِالْعُيُون بَخِيــلا
لَكِنْ أُصَلِّـــحُ غَلْطَـةً نَحَوِيَّــــةً
مَثَـلاً وَاتَّخِـــــذ الكِتَابَ دَلِيلا
مُسْتَشْهِدَاً بِالْغُـــــرِّ مِنْ آيَاتِــــهِ
أَوْ بِالْحَدِيثِ مُفَصّـــلا تَفْصِيلا
وَأَغُوصُ في الشِّعْرِ الْقَدِيمِ فَأَنْتَقِي
مَا لَيْسَ مُلْتَبِسَاً وَلاَ مَبْـــذُولا
وَأَكَادُ أَبْعَثُ سِيبَوَيْهِ مِـــنَ الْبلَى
وَذَويِهِ مِنْ أَهْــلِ الْقُـرُونِ الأُولَى
فَأَرَى ( حِمَارَاً ) بَعْـدَ ذَلِكَ كُلّه
رَفَعَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَالْمَفْعُولا
لاَ تَعْجَبُوا إِنْ صِحْتُ يَوْمَـاً صَيْحَةً
وَوَقَعْتُ مَا بَيْنَ الْبُنُوكِ قَتِيلا
يَا مَنْ يُرِيــدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـــهُ
إِنَّ الْمُعَلِّمَ لاَ يَعِيشُ طَــويلا

رحم الله قشمر.. فقد أدرك بفطرته الريفية البسيطة الطيبة مأساتي قبل أن أصبح معلما.. وعرف بذكائه الفكاهي أن الكتب التي كنت أعشقها وأداعب صفحاتها لن توصلني إلى شاطئ ترسو عليه سفينتي!!

ولكنني أخالفك الرأي يا قشمر وأناقض ذاتي الجامحة التي يخدعها السراب فينة، فتشاطرك جانبا من نظراتك المتشائمة التي ترى في نتاج العلم وصنيع المعلم بضاعة رخيصة لا تسد رمق جوعه وعطشه..

فليست الكتب التي خرجتنا معلمين وضيعة القدر.. وليست المهنة التي يمارسها المعلم ثيابا رثة تباع في سوق البالة.. وإنما الوضاعة في عقول من يقودون تلك المجتمعات المتردية التي تخشى الكلمة وتضع لها حراسا تطاردها قبل أن تطير من رحم الفكر لتحلق في فضاء الحرية..

وليست الجامعات مصانع تنتج معلمين أو موظفين يملؤون شواغر العمل وإدارات الدول.. وإنما هي مصانع الفكر والمفكرين والعباقرة والجهابذة والمبدعين في شتى ميادين الحياة الأدبية والعلمية..

ليست الحياة دائما قصورا أو أبراجا من إسمنت وحديد.. وما كانت أبدا ملاعق أو صحونا وأطباقا من ذهب.. ولم تك مطلقا تيجان ملوك مرصعة بالألماس والعسجد..

ولكن الحياة أبراج من فكر نير تناطح سحب السماء مهما ادلهمت.. وكلمات من الإبريز تصقل غياهب الدياجير بأشعتها البنفسجية فوق الحمراء.. وتيجان من القيم والمثل والتاريخ والحضارة التي تخلدها الأزمان.. ولنا عبر في سالف الأقـــــوام..

فالمفكرون والعلماء والعباقرة كواكب في السماء.. وكل من عداهم - من ذوي الكنوز والنفوذ - حجارة شطرنج تبدلها - كما تشاء - يد الأيام!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى