الأحد ١٨ آب (أغسطس) ٢٠١٩

قصائد الشاعرة سليمة_مليزي اشبه بمهرة برية جامح

حسن الحليلى

شِعْر الشاعرة المبدعة (سليمة مليزى) ليسَ كغيره من مألوفِ الشِّعْر.. لا لأنّ له طعماً خاصّاً ومذاقاً فريداً ونكهةً مُمَيَّزةً فحسْب.. بل أيضاً لأنه يحتاجُ قراءةً خاصّة.. فهو ليس ذلك النوعُ من الشعر الذي تقرؤه على عجل.. وتكتبُ عنه انطباعاتٍ سريعةً عابرة..وإنما ينبغي عليكَ أن تتهيَّأ لقراءته بكثيرٍ من الصبرِ والحَيْطةِ والحَذَرْ.. فهو أشبه بوردةٍ برّيّة لن تتمكن من استنشاقِ عبيرها دون أن تُدْمِي أصابعك بوخز أشواكها.. وهو أشبه بالعَسَل الجَبَليّ.. لن تشعرَ بحلاوته المُسْكرة في فمك دون أن تحتمل لدغات النحل..

ثم إنه يتطلبُ من قارئه مراساً ودَرَبَةً ومعايشةً واستئناساً..فلا تتعجّل الكتابة عنه بعد قراءته.. لأنه يحتاجُ منك قراءة ثانية وثالثة.. وفي كل مرة ستجد نفسك في حاجةٍ إلى معاودة النظر..والإطلال مرة أخرى على هذا العالم.. فكل قراءة جديدة قد تُقَرِّبُكَ منه خطوة لكنها بالتأكيد لن تُسْلِمَك مفاتيح هذا العالم المليء بالرموز والمجاهل والأسرار.

قصارى القول أنك إزاء هذا العالم ينبغي أن تَسْتَنْفرَ كُلََّ حواسِّك وتتسلَّحَ بكل ما يمكنك من نفاذ البصيرة وحدّة الإدراك وملكاتِ التذوق.. فالقصيدة هنا أشبه بمهرةٍ بَرِّيََّة جامحة.. لا يقدر على ترويضها واعتلاء صهوتها غير خَيّالٍ أصيلٍ متمرّسٍ بالخيْلِ والشعرِ معاً.

لا أدري لماذا يُذكِّرُني سليمة مليزى ببواكير شاعرتنا الكبيرة احلام مستغانمى وغيرهم ـ فحَرَّكَا الماءَ الرَّاكدْ ورفداه بروافد جديدة.

هناك أوجه شَبَهٍ كثيرة بين العالَميْن؛ في إرهاصاته البكر الأولى ـ وعالم سليمة مليزى في تجلّياته المعاصرة، ربما كان أبرز القواسم المشتركة بينهما هو عناية كل منهما بخَلْقِ العَالَمِ الشِّعْرِيِّ الخاص المشحون بطاقةٍ حَيَوِيَّةٍ هائلة كانشطار الذرَّة، المؤلَّف من جُذاذاتٍ من الصور المركبة والأخيلة الكثيفة واللغة التعبيرية في أقصى حالاتها إيحاءً ودلالة، والرَّمْزِ المُشعّ الذي يتوهّجُ داخل العمل الفنيّ فيُضْفي عليه بهاءً وسحْراً وألَقاً، دون أن يُفْصحَ عن مكنونه ويشي بأسراره.

قصيدة النثر عند سليمة مليزى هي عصفورة النار التي تُشعل في دمنا الحرائق وتلامِسُ مِنَّا منابع الحِسّ وتَخْمِشُ بمنقارها نخاع الأعظم، حين تحملنا على جناحيْن من لهبٍ إلى أقصى وأبعد مراقي الخيال، وتنبشُ بمخالبها الدقيقة في صخور اللغة بحثاً عن كنوزٍ وجواهر لم يسبقها إليها أحد.

سليمة هي مهرة الشعر الأصيلة التي تنطلق بنا في قفزاتٍ جامحة تنخلعُ لها قلوبنا أحياناً، وتُحتبسُ أنفاسنا خوفاً ودهشة ورَهباً، لكننا نظلُّ طوال الرحلة ـ مأسورين بخَدَرِ المغامرة ولذَّةِ الكَشْفِ، مأخوذين بسحْر المجهول الذي نرتاده، مبهورين برؤاه ومشاهده وكائناته الغريبة، مَسْلوبي الإرادة كصوفيّ أخذته سكرة الوجد وشفَّ وجدانه عن عالمٍ مليء بالرموز والإشارات والإيماءات الخاطفة مِثْلَ سماءٍ مُرَصَّعةٍ بالنجوم مُضَبَّبَةٍ بنُدفٍ من غيوم شفيفة.

لذا يَجيءُ شِعْرُها كشفاً جديداً مُتفرداً في جِدّتِهِ صادقاً في أصَالته، مُرَاوغاً في مُرَاودته للعقل والوجدان، يفِرُّ من فخاخنا كما تُفلتُ الغُزلانُ في خِفّة ورشاقة من قبضة الأسْر، لكنه يُخلِّفُ في نفوسنا أثره العَميق وأسئلته المُعَلَّقة، فنعاود الرّكْضَ والطّرادَ دون كَلَلْ.

الفنََّ الأصيل كائنٌ حَيٌّ لا يَمْنَحُ نفسه بسهولة. وشعر سليمة كائن له ذاكرة وتاريخ، تشعرُ معه بالإمتاع والمؤانسة، لكنك لا تظفرُ بخباياه وأسراره قبل أن تعايشه وتنعقدُ بينكما أواصِرُ الألفة، ومع ذلك يبقى مُتأبيّاً على الاسْتيعابْ، مُسْتَعْصِياً على الترويض، لأنه قِطعةٌ مُقْتَطعَة من الحياة بكل تَدَفُّقها وعنفوانها وغموضها وسِحْرها الجميل.

حسن الحليلى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى