الأربعاء ١٧ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم محمد زكريا توفيق

قصص وحكايات من زمن جميل فات (3)

كانت سيارة الأجرة القديمة التي تحمل أسرتي، تقترب مع خيوط الفجر الأولى، من مدينة فاقوس في أطراف شرق الدلتا. وكنت متيقظا بينما أخي وأختي الصغيران يغطان في نوم عميق. وكانت جرذان الحقل والحيوانات البرية الصغيرة، تعبر الطريق أمام السيارة وهي في طريقها إلى المدينة

أول ما لفت إنتباهي ونحن على مشارف المدينة، هو كمية أعمدة الإضاءة الهائلة وفراشات دودة القطن التي تحوم حولها في حركة دائمة وسط الضباب وشبورة الصباح. نحن الأن في صيف عام 1947م. ولم أكن قد إلتحقت بالمدرسة كتلميذ منتظم بعد.

استأجر والدي منزل قديم به حديقة صغيرة، بها نخلتان تمرهما لا يصلح إلا للتجفيف، وشجرة توت كبيرة ذكر وطلمبة ماء. كانت لدينا خادمة صغيرة من بلدتنا اسمها «روائح». تقيم معنا بمرتب شهري، يتقاضاه والدها، قدره 50 قرشا. كان لدينا جرو صغير، تخلصت والدتي منه وأعطته للجيران عندما اكتشفت أنه دخل قفص الفراخ وقام بإلتهام فرخة كامله في حجمه بمفرده.

كانت والدتي تأخذ النقود المخرومة من الوسط، المليم والتعريفة، وتربطها مع بعض في شكل عقد لكي ألعب به. ولم أكن أفهم قيمة هذه الأشياء ولا معناها. إلى أن اكتشفت يوما أن كل قطعة معدنية من هذه القطع لها قدرة سحرية خارقة. فأنت تستطيع أن تحولها إلى قطعة شكلاطة أو تركب بها المرجيحة أو تشتري بها قطعة لبان. هنا تحولت هذه القطع المعدنية من أشياء مادية، إلى أشياء أخري لها معنى أعمق.

تم تدريب مجموعة من قرود الشمبانزي على إستخدام النقود المعدنية. بأن وضعوا لهم الأكل في ماكينة تشبة ماكينة الكوكاكولا. ثم قاموا بتدريبهم على إستخدام النقود بوضعها في فتحات والضغط على أزرار في الماكينة للحصول على الطعام.

بعد ذلك، أعطوا كل قرد مجموعة متساوية من النقود وراقبوا سلوكهم. ماذا حدث؟ بدأت القرود القوية تأخذ النقود من القرود الضعيفة بالقوة. والقرود الضعيفة تسرق النقود من بعضها البعض.

عندما بلغت سن السادسة، كان العام الدراسي قد انتصف تقريبا. وبدلا من الإنتظار للعام المقبل، طلب والدي من ناظر المدرسة أن يقبلني كتلميذ منتظم، فلم يرفض. لقد كانت القوانين الحكومية مرنة لها قلب في ذلك الوقت.

المدرسة كانت من المدارس الإلزامية التي أنشأها على باشا مبارك وزير المعارف في عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق. تدرس فيها أصول اللغة العربية والحساب. ينهي الطالب هذه المرحلة، ثم يذهب إلى المدرسة الإبتدائية لمدة أربع سنوات. وبعدها المرحلة الثانوية لمدة خمس سنوات. وكانت توجد أيضا المدارس الريفية، وهي تشبه المدارس الإبتدائية، ولكن لا تدرس بها اللغة الإنجليزية.

تركني والدي عند ناظر المدرسة وغادر مسرعا. فوجدت نفسي في الفصل، بين تلاميذ غرباء لم أعرفهم من قبل. شعرت بخوف شديد ووحدة رهيبة. ثم دخل المدرس وبيده عصا خيرزان رفيعة. جلس على الكرسي بعد أن كتب عدة كلمات على السبورة بالطباشير.

طلب من التلاميذ، بدأ من الصف الأول، القيام وقراءة ما كتبه المدرس على السبورة. التلاميذ تقوم وتقرأ زي العفاريت، والدور يقترب مني ببطء وأنا مرعوب، لا أعرف شيئا مما كتبه الأستاذ. فلم يسبق لي أن تشرفت بمعرفة هذه الكلمات أو غيرها من قبل.

لاحظ طفل من الجيران كان يعرفني، الموقف البائس الذي كنت أمر به. فحاول مساعدتي بالنصيحة. فهمس لي قائلا، "استخبى تحت التخته لغاية ما يفوت الدور". وكانت هذه النصيحة بمثابة طوق النجاة الذي ألقي لغريق.

لكن الخطة لم تنجح، والأمور لم تمر على ما يرام. فما أن اختبأت تحت التخته، إلا وباقي التلاميذ تصرخ بأعلى صوتها: " يا أفندي، فيه واحد هنا مستخبي تحت التخته". بالطبع كانت النتيجة علقة ساخنة من المدرس استخدم فيها العصا والسب وخلافه، ناهيك عن الجرسة والفضيحة أمام اللي يسوى واللي ما يسواش من التلاميذ.

في اليوم التالي، كان والدي في حضور الناظر والمدرس. وعندما تبين للجميع ما حدث بالضبط، قام الناظر بوضعي في فصل آخر. كان الفصل منقسما إلى جزئين بالطول. صفين للطلبة المبتدئين. وصفين للطلبة المتقدمين. طلبة الصفين الأولين كانت تعرف ب"البُلَدَة" جمع بليد، وطلبة الصفين الآخرين كانت تعرف ب "الشطار".

لصغر سني، انتقلت للمقعد الأمامي في صفوف "البُلَدَة". ونظرا لإهتمام المدرس بي بعد توصية والدي، تقدمت بسرعة في القراءة والحفظ. لذلك أصبحت "الألفا". عندما حضر جدي لزيارتنا وسؤالي عن أحوال المدرسة، أجبت بكل فخر: "أنا ألفا البُلَدَة يا جدي"، ولم أكن أدري أنها شتيمة وليست فخرا.

المدرسة كانت تقع في حي في أطراف المدينة يسمي "إنقيزة". لا أدري أصل هذه التسمية. علمت فيما بعد، ولكني لم أتحقق من ذلك، أن هذه الكلمة تعني المشاغبون. فقد كان لهذا الحي تاريخ مجيد في مقاومة الحملة الفرنسية، وربما تكون جذور الكلمة فرنسية.

المدرسة كانت عبارة عن حوش كبير يقع على جانبيه أربعة فصول على اليمين وثلاثة فصول على اليسار. في الوسط تقع غرفة الناظر وغرفة كبيرة للمدرسين. الفصول كانت مبنية بالطوب اللبن، وأرضها ترابية. لذلك كانت كمية البراغيث أجارك الله.

كانت هناك صنابير مياة للشرب تصب في حوض مستطيل. ودورة مياة مفتوحة للتبول. كنت أري لون البول أحمر قاني يجري في مجري المبولة السفلي بسبب اصابة معظم التلاميذ بالبلهارسيا، من الإستحمام في الترع. 

في يوم من الأيام، تسلل ابن الناظر، وكان طفلا صغيرا عمره سنة أوسنتين، إلى أحد الفصول أثناء فترة الفسحة للعب. وإذا به يخرج مهرولا صارخا بأعلا صوته. جرى أخوه الكبير نحوه ليعرف السبب. فوجد جسمه الطري مغطى بالبراغيث الجائعة. أخذه بسرعة إلى حوض المياة، وخلع ملابس الطفل، ووضعه تحت الصنبور وفتح الصنبور على الآخر. والطفل يصرخ بأعلى صوته.

وقت الظهر، كانت توضع قدر الفول المدمس والعدس أبو جبه والجبنة والحلاوة الطحينية والعيش والبلح واكياس السوداني المملح على طاولات في فناء المدرسة، ويقف التلاميذ صفا واحدا لإستلام وجبة الغذاء المجانية. وكانت الجبن تخلط بالحلاوة فلا تستطيع أن تفصلهما. وكلها وجبات مجانية كانت تسعد وتشبع أولاد الفقراء.

كان أول معرفتي بالكتب، كتاب "و ز ن" الذي كان يستخدم بهذه المدرسة. يبدأ الكتاب بكلمة "وزن" مكتوبة بالخط العريض في صفحة كاملة ومكررة بأحجام مختلفة مع صورة لرجل يحمل ميزان في يده. ثم كلمات "أخذ"، "فتح"، "قعد"، "أكل"، "ضرب"، "ربط"، وهكذا. وينتهي الكتاب ببعض قصص "أيسوب". آخرها قصة الغراب والثعلب وقطعة الجبن.

قصص الحيوانات وصورها في الكتاب، بالرغم من أنها صور مطبوعة بالحفر على الخشب، كانت فيها متعة لا تضاهيها متة أخرى. وكانت السبب في حبي وهيامي بالكتب الذي استمر معي طيلة حياتي.

رأيت بنفسي فلاحا مريضا بالكوليرا يرتمي فى كوخ صغير على الأرض وهو دائم القيئ. الناس تصرخ فى المارة بالإبتعاد. وأخذ رجل من الواقفين عصا طويلة أو جريدة نخل وربط فى آخرها قطعة قماش فى شكل صرة بها رغيف خبز وإبريق ماء. ومد الرجل العصا من بعيد لكى يسقط الخبز والماء بالقرب من المريض بدون أن يقترب منه.

انتشر وباء الكوليرا، فقطعت المواصلات. واصاب الناس هلع شديد. وكانت والدتي تحبسني في غرفة الصالون وتغلق الباب بالمفتاح حتي لا أخرج للشارع.

أثناء هذا الوباء، مرضت أختي الصغيرة بالقيئ. وربما يكون قد أصابتها الكوليرا. وكادت أن تموت بسبب فقدها لسوائل الجسم، فنصح أحد الجيران والدي بإعطائها جرعة صغيرة من "الأفيون" أحضرها معه الجار بعد إذابتها في كوب من الشاي. ازاء حالة الهلع التي كان يمر بها والدي، كان مستعدا لتجربة أي شئ. وكانت هذه هي الطريقة التي شفيت بها أختي.

نظرا لموقع هذه المدينة على أطراف الصحراء، كانت المخدرات من حشيش وأفيون منتشرة بكثرة بين السكان. وكانت عقوبة حيازة المخدرات في ذلك الوقت تعتبر جنحة وليست جريمة. وكان ضباط الشرطة المكلفون بمكافحة المخدرات، هم أنفسهم يجلسون لشرب الحشيش في مجالسهم الخاصة.

أحد هؤلاء الضباط، ذهب للقبض على تجار حشيش في شارع تجاري يعرف بشارع النزّة. وما أن قبض على التاجر، وكان صعيدي، إلا أن تكاتفت باقي الصعايدة وانهالوا علي الضابط والشرطة المرافقة له، بالضرب بإستخدام القلل الفخارية. فأصابوهم بالتربنة في الدماغ واصابات بالغة في باقي الجسد. نقلوا بعدها جميعا إلى المستشفى بين الحياة والموت.

لم أستمر كثيرا في هذه المدرسة، بسبب انتقال والدي إلى مدينة كفر صقر في محافظة الشرقية. وبها التحقت بسنة أولي ابتدائي. وكانت المدرسة نموذجية بمعني الكلمة. تختلف تماما عن المدرسة الإلزامية في مدينة فاقوس.

المدرسة مبنية مثل القصور بالأعمدة والسلالم الرخامية. والفصول توجد في الدور الثاني بأبوابها الخشبية ونوافذها الكبيرة. والفصل لا يزيد عن عشرين تلميذا. بالمدرسة ملعب كرة قدم وملعب كرة سلة وحظائر للطيور وأحواض للزهور.

جدران الفصول كانت مزينة بالخرائط وصور الحيوانات. والطاولة الكبيرة الموجودة بالصالة، كانت تعرض فيها الفراشات والطيور المحنطة. الفصل الذي كنت به، كان يوجد به دولاب بباب زجاجي، يظهر من خلفه فونوجراف وأسطوانات.

كانت غرفة الرسم والأشغال كبيرة جدا تقع في الدور الأول مزينة باللوحات الفنية التي ترسمها الطلبة. المطعم يقع أيضا في الدور الأول. من حين إلى آخر كانت الوزارة تعرض لنا أفلاما سينمائية ترفيهية وتعليمية. وكانت تأتي بالحواة لعرض ألعابهم السحرية علينا مع شرح الحيل بعد الإنتهاء منها.

كانت المدرسة مختلطة، أي بنات وبنين. لكن الفصول كانت منفصلة إلى بنات وبنين، في حصص الرسم والأشغال وفي عرض السينما والألعاب السحرية، كان يتم الإختلاط بين الجنسين.

كانت تقدم وجبات ساخنة غذائية. الوجبة مكونة من طبق رز وطبق خضار ولحوم وفواكه، تقدم في أيام السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء. أما في أيام الإثنين والخميس، فكانت تقدم لنا وجبات خفيفة مكونة من سندوتشات جبنة رومي وحلاوة طحينية مع البلح أو أكياس السوداني المملح كتحلية.

في طابور الصباح، كان يفتش الناظر علي مظهرنا الخارجي. الشعر يجب أن يكون قصيرا، الملابس نظيفة، الحذاء لامع. في يوم من الأيام، أخرجني الناظر من الصف، وطلب مني برفق قص شعري عندما أعود إلى المنزل.

في هذه المدرسة، تعرفت بكتاب القصص المدرسية. وهو من أمتع الكتب التي مرت بي في حياتي. فهو طباعة دار المعارف. ورق أبيض مصقول ناعم. يبدأ الكتاب بقصة العنزات الثلاثة، وبه قصص كثيرة منها "سرحان بين الغيط والبيت" و "لك يوم"، وقصص أخري مأخوذة من التراث العالمي والمصري والعربي. أختيرت بعناية فائقة لتنمية الخيال، ولكي تساعد في تكوين البراعم الأولى النضرة للضمير والأخلاق، في هذه السن المبكرة من حياة الطفل.

أثناء ذهابي للمدرسة وعودتي منها، كنت أمر على خيمتين لأسرتين فلسطينيتين هاجرا من فلسطين أثناي حرب 1948م وبداية المأساة الفلسطينية، واستقر بهما المقام في هذا الموقع.

كان لدي أحد الأسر طفل صغير مريض يلبس صديري مقلم بالطول. وبعد عدة أيام، وجدت الصديري فوق الخيمة والطفل غير موجود. علمت فيما بعد أنه توفى لرحمة الله لعدم توافر الدواء والعلاج.

بعدهم بقليل، كان يوجد منزل ريفي بفناء كبير تستأجرة أسرة فلسطينية ثالثة. الأب رجل كبير السن ذو لحية بيضاء. ابن الأكبر شاب دمث الخلق اسمه محمد والابن الأصغر اسمه حسين به بعض العرج.

الأم تلبس الملابس الفلسطينية المميزة والحزام في وسطها وتقوم بخض اللبن في القربة لعمل الزبد أو بغزل سجادة صوف. وكانت توجد جاموسة مربوطة في فناء الدار. هذه السيدة توطدت العلاقة بينها وبين والدتي، تحولت إلى صداقة بين الأسرتين امتدت إلى مدة طويلة. ساعد والدي الإبن الأكبر في ايجاد عمل مؤقت.

حادثة واحدة مؤلمة مرت بي في هذه السن. لكنها، لحسن الحظ، لم تترك أي أثر سئ في نفسي وأحمد الله على ذلك. فقد أغراني أحد الشياطين الصغار بمساعدته في سرقة علبة ألوان من درج أحد الزملاء. أنا أقوم بالمراقبة وهو يقوم بالسرقة خلال فترة الفسحة. ثم ذهبنا لإخفاء المسروقات ودفنها في فناء المدرسة. تماما كما يفعل محترفي الإجرام.

لكن لحسن الحظ وليس لسوء الحظ، شاهدنا ونحن ندفن المسروقات أحد الطلبة. عندما عدنا للفصل بعد الفسحة، اكتشف المجني علية سرقة علبة الألوان. حينئذ، تطوع الشاهد بإخبار المدرس بالأمر. وكانت النتيجة علقة ساخنة للصوص، جعلتنا نزهد في السرقة مدي الحياة.

لم استمر في هذه المدرسة العظيمة أكثر من عام واحد. بعدها، عاد والدي إلى مدينة فاقوس للمرة الثانية. هذه الفترة كانت مليئة بالأحداث الهامة التي بدأت ذاكرتي تتسع لها، والتي سوف تكون موضوع المقالة التالية إن شاء الله. فإلى اللقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى