الاثنين ٥ آذار (مارس) ٢٠١٨
بقلم حسن عبادي

كثير النط قليل الصيد

الومضة هي لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس خاطف يمُر في المخيلة. لها جوانب مختلفة عن القصة القصيرة جدا، فهي تتألف من عدد محدود من الكلمات، مكثفة الصيغة، فيها نوع من الإدهاش، تشبه الكاريكاتير، تحتوي على السخرية والمفارقة، ابتدأها الروائي إرنست همنجواي بقصة من ست كلمات فقط "For sale: baby shoes, never worn.":، "للبيع: حذاء طفل، لَمْ يُلْبَسْ قَطّ."، ست كلمات جديرة بالتأمل والتفكير، غزيرة المعنى. طوّرها الكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو في ومضته - الديناصور: "When he woke up, the dinosaur was still there." "حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك.". ونجد فيها كل ملامح الومضة بدايةً من العنوان وحتى نهاية النص، مبطّنة بالسّخرية والتهكمّ اللاّذعين، نجد في النص كل مقومات القصة الومضة من تكثيف، مفارقة، إيحاء ونهاية مباغتة كما أن التجانس والترابط بين العنوان وشطري النص، وكذلك بين شطري النص ذاتهما، يرسم أمام أعيننا شكل وبناء القصة الومضة الحالية التكثيف، الإيحاء، المفارقة، النهاية المدهشة والمباغتة.

قرأت كتاب "وأقطفُ صمتَ التُّرابِ الجميل" للكاتبة فاتن مصاروة (الصادر عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، لوحة الغلاف للفنان التشكيلي الفلسطيني محمد نصر الله) وإذ به يحوي 42 قصيدة و 29 "ومضة" تقع في 104 صفحات (صدر لها عام 2014 ديوان شعر بعنوان "فرس المجاز").
قدّم للكتاب الشاعر والناقد الفلسطيني محمد دلة وكتب:"كل ما سأسجله هنا عن المجموعة وعن الشاعرة قطاف من شجرة النص، والكل يعلم انه كلما قطفنا تفاحة من شجرة المعنى دنت تفاحات أخر ونأت أخر، وكأن المعاني تتوالد في القراءة والتأويل إلى اللا منتهى" وفتشتُ مرارًا وتكرارًا عن تلك التفاحات عبر صفحات الكتاب دون جدوى فجاءني المثل الشعبي "كثير النط قليل الصيد". لم أجد التفاحة الضالة في الأشعار التي أطلقت عليها الكاتبة "نايات من الوجع" ولا في النصوص التي عنونتها ”ومضات من الدمع"، وكما قيل: "تَكَاثرَتِ الظّبَاءُ على خِرَاشٍ.. فما يدري خِراشٌ ما يصيدُ".(يُقال بأن قائل هذا البيت هو الحارث بن مُصرّف، وقيل إنه ليس له وإنما تمثّل به. وتُروى قصة هذا المثل في شخص رجل أعرابي اسمه خراش، هو صياد ماهر، خرج ذات يوم للصيد، فعثر على قطيع من الظباء فنثر كنانته وأخرج سهامه لأجل أن يصوّب عليها ويصطاد منها، لكنه طمع، فكان كلّما صوّب سهمه إلى إحداها ظهر له ظبي أسمن، فانصرف إليه متخليًا عن سابقه، وظلّ خراش على هذه الحال، فكان طول نهاره محتاراً، لم يستطع اتخاذ قراره في لمن يوجه سهامه؟، حتى تراكمت عليه الحيرة والاضطراب، وطغى على قراره الطمع فأرهقه التعب وخلَد للنوم! فلما أفاق من نومه كانت الظّبَاءُ قد تركت مكانها ورحلت، وتركته، فلم يصطد شيئا منها، وخسرها كلها).

حبذا لو تناولت المقدمة قصائد و"ومضات" الكتاب المتناوَل بدل أن يقول شاعرنا الناقدُ كلَّ شيءٍ ولا يقولُ شيئًا. مشى على حافةِ الكلماتِ وبينَ الأحرفِ، مستعينًا بمفاتنِ اللغةِ العربيةِ، ليُتحفنا بمقدّمةً مدبلجةً بلا لونٍ.. أو بشكلٍ أدقَّ، ملونةٍ بكل الألوانِ، ليتحدّث عن الأقلية التي تقيم في وطنها وفي دولة الآخر؟!؟ و"الشاعرة التي اجبرت على الانفصال عن ابناء شعبها وعن عمقها العربي" ؟!؟ أخوتنا في الشتات يتحسرون على ما فات، على ما ضاع من وطن وأرض وما قدموا من دماء وتضحيات لا زالت تنير دربهم نحو الحرية، ولكن كما قال أخي د. يوسف عراقي حين التقى طلاب كلية مار الياس في عبلين: "الحجر بأرضه قنطار"، ولم نعد نؤمن بأن للبرتقالة شقّين، نحن جناحا الوطن، وهم منا وفينا وأهلنا، حاضرون بيننا ولو غابوا ونحن امتداد للعمق العربي وجزء لا يتجزأ منه، شاء من شاء وأبى من أبى.

تناولت الشاعرة في قصائدها مواضيع عشقيّة، سياسيّة، مناسباتيّة،وطنيّة وقوميّة مختلفة وحاولت اللجوء إلى الرمزية من خلال لغتها الجميلة ونلاحظ التفاوت في اللغة وموسيقى الحرف، بعدّة أصوات، وعدة اتجاهات، تصل ذروتها في القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب "وأقطفُ صمتَ التُّرابِ الجميل":

"أنا من صرخاتِ الياسمين المدمّى
يراودُ جرحُ الحقيقة صوتي
وصمتي يجدّل في الأفق غيمًا
مكمّمةٌ بالصّراخ الكفيف أنايَ
وأدرك دربَ المواويلِ في الأبدِ المعنويّ حسامًا
وسهمًا
فأعزِفُني في انسكاب الأغاني
وأعزفني في شحوب الأنين
لأعتقني من مرايايَ في أغنيات الجليل"

عند قراءة القصيدة والتمعن بمعانيها نتساءل هل نضج الثمر على شجرة شعر فاتن وحان قطافه؟ ولكنه بلا رائحة وبلا طعم لأنه نتاج تراب أصم! ولكنها تحاول أن ترمز بأنه تراب الوطن وثمرته عودة الغائبين إلى وطنهم ولو بعد حنين.

لنزار قباني حضور محلّق عبر صفحات الكتاب وكأني بكاظم الساهر يصدح ويغني أغنيته "وإني أحبك" من كلمات قصيدة نزار قباني "أحبّك.. أحبّك.. والبقية تأتي" في قصيدتها "صَخَبُ القهوة":

"صَخَبُ القهوةِ يلهو في فنجانِ الكلمات
ويصبُّ الأخبارَ واحداثَ الساعةِ
في هالِ اللّحظات
وعلى الطاولةِ الأخرى
صحفٌ وقصاصات
يقرأُها ذاكَ العابرُ في صمتي
........
دعيني أصبّ لك الشايَ، أنتِ خرافيّةُ الحُسنِ
هذا الصّباح"
وكذلك إيلي شويري وقصيدته "بكتب اسمك يا بلادي" التي كتبها عام 1973 أثناء سفره جوًا بين بيروت والولايات المتحدة الأمريكية وفيها كلّ الحنين إلى الوطن:
بكتب اسمك يا بلادي
عالشمس الما بتغيب

كما نلاحظ في قصيدة "وطن":

"أنا
أنتَ،
لا فرق في حزننا في سماءِ الوطن
فصبَّ انتظاري حنينًا
لصوتِ رجوعهم المستفيض شجن
.....
لا كتب اسمك يا بلادي عالشّمس اللّي ما بتغيب"
تحاول الشاعرة اللجوء إلى الانفعالات والرمزيّة لتبعث الحياة في كلماتها فتُجنّد عشتار والأسطورة، الاستعارات والطلاسم... والوهم.

وخيرُ مثالٍ على ذلك قصيدة "ويقول لي":

"ويقولُ لي:

كوني معي في سيرةِ العشقِ الشهيِّ
لنقرأَ الفرحَ القصيَّ بقُبلةٍ من موتنا
عشتارُ..!
قولي للغرامِ دنا اشتعالُ قطافنا..."

وقصيدة "الأشياء هنا" حين تقول:
"الأشياءُ هنا تجلسُ كالمرآة معي
تنشغلُ الآن بخدشِ سكونٍ ناحل
زاجلةً بدموعِ القهوةِ
عابقةً بشرودِ كتابي
وارفةً كخطى وجهِكَ في هالاتِ غيابي
وحدي أقطفُ وجهي للجمر"

تُجندّ الشاعرة الوطن في قصائدها فتذكر حيفا، الناصرة، الجليل، الخليل، يافا، نهاريّا، طبريّا، عكّا، القدس...ودير ياسين، وتنشد للوطن عبر صفحات الكتاب في قصائدها وطن، مقام الوطن، عشقي لك، حُبُّكَ يعني وغيرها وتبوح بحبّها له... وللقطف - الموتيف الرئيسي الذي تذكره عشر مرّات عبر صفحات الكتاب.

لغة الكاتبة جميلة، شاعريّة انسيابية وهي بطاقة دخولها لعالم الشعر ولكنها بحاجة لتجربة حياتية لصقلها وقولبتها لتكون لها خصوصيتها وجمالها، أتمنى لها أن تحفّف النط وتركّز على صيده لتحقيق ذلك.

لا أدري لماذا عنونت الكاتبة نصوصها في القسم الثاني من الكتاب بومضات، هي مجرّد خواطر من هنا... وهناك ولا تمتُّ للومضة، كما جاء في مقدمّتي، بصِلة، وكان من الأجدى أن تكتفي بقصائدها، حيث جاء على الغلاف: "شعر" وتترك أمر نشر ما أطلقت عليه "ومضات" لفرصة أخرى، زمان ومكان آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى