السبت ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

كل شيء بثمن

تقول الفلسفة المادية الجدلية إن التراكم الكمّي يؤدي إلى تغير نوعي، وهذا ينطبق على المجتمع ومجالات الحياة الأخرى، فتراكم الغضب يؤدي إلى تغير في حياة الإنسان، وما الفساد المستشري في عالمنا حالة استثنائية بل نتاج تراكمات ليصبح حالة عامة، ويصل قاسم توفيق في روايته"البوكس"(الصادرة عن منشورات فضاءات، عمان. له عدّة روايات: منها ماري روز تعبر مدينة الشمس، أرض أكثر جمالًا، عمان ورد أخير، ورقة التوت، الشندغة، حكاية اسمها الحب، رائحة اللوز المر، صخب، فرودمال، نزف الطائر الصغير وغيرها) إلى قناعة بأنه"لم يعد هنالك وجود لإيمان ينص على أن التراكم يؤدي بالضرورة إلى تغير الصورة، ولا أن الثورة تأتي بالأحسن، ولا العبادة تأخذ إلى الجنة، ولا المودة تحصد المحبة، ولا العطاء يزرع الخير".(ص. 175)

تتناول رواية البوكس بجرأة يُحسد عليها ظواهر اجتماعية متعددة تتعلق بالكادحين والمسحوقين من خلال شخصية بطل الرواية أحمد البوكس الذي حمل على كاهله هموم وأمراض مجتمعه، فاستحق أن يهدي توفيق روايته، إلى بطل الرواية نفسها، بقوله"إهداء: إلى أحمد البوكس، كلنا مثلك لكن ألقابنا تختلف".

بطل الرواية هو البلطجي الكلاسي"بعد أن جعل الدنيا تتقاذفه من التشرد إلى الملاكمة إلى الشغل كأجير يتكوم مع العاطلين في مقهى وسط البلد ينتظر من يطلبه لبيع دمه، أو ليشارك في سرقة عابرة، أو تحطيم محل تجاري صار ينافس أحد الحيتان بالسوق، أو يطلب منه حرق سيارة خصم عضو في مجلس الشعب، أو تهشيم أضلع صحفي معارض"(ص. 129) فنجده يعمل في تجارة الحشيش ويتعاطى الخمر، يضرب ويقتل لقاء المال، يعمل في الملاهي الليلية، يعمل قوّاد للمومسات وغيرها.

أحمد ضحية الفقر والنظام والمؤسسة، ضحيّة الجريمة، ووليد الفقر والحاجة والعوز الذي يدفعه إلى سوق العمالة والعبودية وهو في الثانية عشرَ من عمره، ينجح في مهمّته الأولى بترويج ونقل الحشيش للزبائن، ليَهوي إلى قاع المدينة وعالمها السفلي، يصير مجرمًا مأجورًا، يقوم بما يُطلَب منه لقاء المال، ليصير عنده"كل شيء بثمن".

يَصلَبُّ عود أحمد لينتقل للعمل في الملاهي الليلية، فيصبح خبيرًا بثقافة السكارى"يعرف الزبائن، وهو الذي يستطيع أن يميزهم ويقدر وضعهم المالي، يعرف من هو قادم للصرف بلا حساب، ومن هو الحريص والخائف على محفظته، يعرف من يرغب بالعراك بلا سبب، ويعرف المسالم، يميز من هم قادمون لربط موعد مع احدى الساقيات لليوم التالي، ومن يأتي لرسم واحدة منهن، شكلها وحركتها وصوتها في مخيلته حتى ينام معها بأحلامه، لا تخدعه الملابس المهندمة، ولا الحركات الأنيقة الإفرنجية التي لا يفقه منها شيئًا، فهو ينسل عابرًا في عيني الرجل إلى قلبه، يقرأه بفهم عميق على الرغم من أميته".(ص 20)
يصبح حكيمًا ضليعًا بمهامّ البودي غارد، وصاياه وتصرفاته، حقوقه وواجباته، سلوكيّاته وما يدور حوله، ضليع بخبايا الأمور والمومسات والساقيات وأدوارهن"أنهكهن الوقوف والتنقل بين الطاولات وتلقي اللسعات على مؤخراتهن أو على أيديهن ونهودهن العارية، وبعد أن امتلأت أحشاؤهن من العصير أو الكولا الذي يسكب لهن على أنه الخمر والذي يتحمل الزبون ثمنه عندما يدعو إحداهن لمنادمته وهو راض بأن يُستغفَل"... وبزيف المجتمع!

يتناول قاسم توفيق ظاهرة التجارة بالأعضاء، الممنوعات، الدم وبني البشر، نساءً ورجالًا، كل شيء بثمن،"... الذين يبيعون دمهم لمن يحتاجه من المرضى،.. والذين يعرفون الفصيلة النادرة من الدم، يبيعونه كلما جاء زبون لها بسعر أكبر من العادي، لا يأبهون للتعليمات"(ص38) ليصبح الدم سلعةً تُباع وتُشتَرى، كل شيء بثمن. وكذلك"ريم"يبيعها والدها لمُرابي طمعًا في ماله ليس أكثر!

الكاتب ذو حسّ طبقي فهو يتناول قضيّة الطفولة المغتَصَبة والجرائم التي تُقترَف بحق الأطفال، بدايةً بعدم منحه فرصة التعلّم ومن ثم الإكراه على العمل في المكان والمجال غير المناسبين، مثل المقهى وتوزيع الحشيش، وجعله عرضة للاعتداءات الجنسية"كان يحدّث الصبي عن المتعة الجنسية التي تعيشها المرأة من ممارسة الجنس... ظل الرجل ملازمًا للصبي أشهرًا طويلة، يمتطيه في كل ليلة، يفرغ فيه كبته وغضبه، ويحاول أن يصنع من هذه العلاقة قصة حب لكن الصبي لم يكن يجد المتعة التي وعده فيها"(ص 124)، ومن ثم يَغتصبه شاذٌّ جنسيًّا على مرأى من رجل آخر، مما يجعله قاتلًا شرسًا لينتقم من مغتصبه! وكذلك نرى الأطفال الذين يتفنّنون بالسرقة وكأنهم خلقوا لها! والطفلات الصغار"صار يوكل لهن مهمات تناسبهن، مثل البكاء أمام الدار وادعائهن الضياع عن أهلهن، حتى إذا أدخلهن أهل المنزل وفكروا أن يقدموا المساعدة ببعض النقود أو الطعام تحين الفرصة لالتقاط ما خف وزنه وسهل إخفاؤه بين طيات ملابسهن والاختفاء بسرعة"(ص146)، وأبعد من ذلك -"أبو النور"، ضحية تلك الطفولة المغتصبة، صار رجل أعمال بعد أن تجسس لصالح الغرب وأصبح تاجر أسلحة بعد أن"أمضى ثلاث سنين قضاها في الجبال، يقاتل ضد الناس الذين يودعون في حسابه راتبًا شهريًا، ويقاتل إلى جانب الذين جاء لقتالهم"(ص157) وأصبح فاسدًا بامتياز. وهكذا تكون نهاية ذاك الطفل البائس القتل أو التشرد والضياع.

ويتناول فساد السلطة ممَثّلة بالشرطة، فرجالها مرتشون، يُمعنون في إغراق المجتمع بالوحل أكثر، فهم يتغاضون عن جرائم ومجرمين"...بعض رجال الشرطة يضعف فيلجأ لمن هم أقوى منه، من زملائه، كي يحميه من هؤلاء القتلة والمجرمين، والذين يكونون إما أقوياء ونبلاء يكافحون الجريمة، أو شركاء وحماة للمجرمين والمطلوبين للعدالة. يقبضون حصة من مكاسبهم وينجون من بطشهم وانتقامهم..... استطاع أن يخلق علاقات خاصة مع كبار الزعران والبلطجية،... تبدأ المساومة بين الطرفين يمنح رجل الأمن للمجرم الحماية، ويزوده بأخبار حملات التفتيش التي تنظمها إدارة الأمن والخطط التي توضع للهجوم على اوكار المخدرات والدعارة، مقابل تزويد المجرم بمعلومات مفيدة في جريمة غامضة أو قضية تسعى الحكومة لحلها تحقيقًا لمكاسب شخصية، أو لإنهاء ولجم حنق الشعب على فقدان الأمن"(ص 36). فيصبح المجرمون مسيّرون لأصحاب الشأن ويشترون صمت رجال الشرطة على أعمالهم، وساستها مجرمون بحيث نجد بعضهم يطلب من البوكس تأديب خصمه.

كما ويتناول قاسم توفيق، وبجرأة، قضية الإعدام دون محاكمة ، فهو قتل مجتمعي غير مشروع، مرتبط تاريخيًا في الولايات المتحدة مع التمييز العنصري أو التحيز، وكثيرًا ما يحدث الإعدام دون محاكمة عندما يُنَصّب قادة الجريمة أنفسهم شرطة وقضاة وجلادين ويصدروا أحكامهم بقتل الناس دون أية محاكمة أو ذنب اقترفوه، خارج نطاق القانون، والأنكى من ذلك عندما يقوم به رجال الأمن لأسباب شخصيّة"إن قتيل العدالة ليس بقتيل فلن يطالب بدمه أحد"(ص 18).

يوحي حسّ قاسم توفيق الطبقي بأن الشر نتاج غياب السلطة ومؤسساتها التي تسلب الأطفال براءتهم وطفولتهم وتهشمّها، وتغتصبها، فيغوصون في قاع المدينة بلا حب ورحمة، ويدفعون الثمن غاليًا."فكر بأن أمه يجب أن لا تمن عليه بشيء فلولاه ما صارت أمًا، والحارة بدونه وبدون ساكنيها ليست حارة، والدولة التي تُذلّ الناس والحارات وتتجمل عليهم بأنها تحميهم وترعاهم بتشريعاتها وأحكامها وسجونها لن تكون دولة بدونهم"(ص. 110)

أسلوب الكاتب مشوّق فقد نجح برسم شخصيّاته، على علّاتها، دون رتوش فجاءت طبيعيّة انسيابية تجعل القارئ يتماهى معها، ومع مجرميها ومنحرفيها، ويتعاطف معهم ويرغب بمد يد العون لإنقاذهم والأخذ بيدهم لشاطئ الأمان. لقد استطاع أن يعرّي المجتمع بمشرط جرّاح ماهر، فهو يسمّي الأمور بمسمّياتها دون خوف أو وجل.

وأنهي بما جاء من أجواء الرواية على الغلاف الخلفي"صار من الضروري أن تفهم الآن أن السماء لا تفتح في أية مناسبة، ولا في أي زمان، وأنها قد أنهت ما لديها ووزعت ما عندها، وإن كل ما تحاول أن تفعله أو ما يدفعك الآخرون لفعله لن يغير شيئاً".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى