الأربعاء ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
قصيدة «نشيد الجبار»
بقلم جميل حمداوي

لأبي القاسم الشابي

تتضمن قصيدة :(نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس) لأبي القاسم الشابي ستة وثلاثين(36) بيتا شعريا منظوما على وزن الكامل (متفاعلن- متفاعلن- متفاعلن مرتين)، وقد استثمر الشاعر كل تنويعات تفعيلة

"متفاعلن" بزحافاتها وعللها، وذلك نقصانا وزيادة. في حين، تتميز القافية بكونها مطلقة موصولة مردوفة، رويها الهمزة. علاوة على ذلك، يتميز الكامل بكثرة حركاته وسكناته(42 حركة)، ويدل على الكمال، والاطراد، واتساع النفس الإيقاعي والتنغيمي، للتعبير عما يخالج الذات من مواضيع جادة وجدية ومهمة، كالمديح النبوي، ورصد الثورات الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية والتحررية، ووصف المعارك من جهة، والتقاط الطبيعة من جهة أخرى...علاوة على ذلك، يرى أبو حازم القرطاجني بأن الكامل بحر الاطراد والجزالة. وفي هذا، يقول:" فالعروض الطويل نجد فيه أبدا بهاء وقوة، ونجد للبسيط سباطة وطلاوة، ونجد للكامل جزالة وحسن اطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب سباطة وسهولة، وللمديد رقة ولينا مع رشاقة، وللرمل لينا وسهولة".

ويلاحظ أن هذه القصيدة الهمزية تقليدية البناء والقالب. بمعنى أنها تتسم بتتابع الأبيات، والتراوح بين نظام الشطرين(الصدر والعجز)، ووحدة الروي والقافية. والآتي، أنها تتوفر على التصريع المقفى في البيت الأول#
:

كالنِّسْر فـــوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّـــــــاءِ
سَأعيشُ رَغْـــــمَ الدَّاءِ والأَعْــــــداءِ

وعلى العموم، تحوي قصيدة (نشيد الجبار) لأبي القسم الشابي على مجموعة من القرائن والمؤشرات التواصلية والسياقية والتداولية التي تدل على اندماج الشاعر ذاتيا في خضم الواقع الموضوعي، وحضوره في الزمان والمكان تحت شعار:" نحن- الآن- هنا". وهذا، يخالف ما ذهب إليه أغلب النقاد العرب المحدثين، حينما ارتأوا بأن القصيدة الرومانسية، كما هي عند شعراء أبولو، مغرقة في الذاتية والشكوى، بعيدة عن الواقع الثوري والنضالي. في حين، إن القصيدة الرومانسية أو الذاتية – من خلال المنظور التداولي والتلفظي- كانت أكثر اندماجا في الواقع ، وأكثر ارتباطا بسياقها المرجعي والتواصلي والخارجي. والدليل على ذلك تلك القرائن التداولية الداخلية، وتلك المؤشرات التلفظية الدالة على انغراس الشاعر في تربته الواقعية.بالإضافة إلى منظوره الشخصي الداخلي الذي يعبر فنيا وجماليا على حضور الشاعر تذويتا وتعبيرا وانفعالا، وتأكيد مدى مشاركته للآخرين في نقل الواقع محاكاة وتصويرا، وتسجيله تخييلا ورمزا وإيحاء، واستكشافه ذاتيا أو موضوعيا. ومن هذه الآراء النقدية التي تبعد عن الشعر الذاتي اندماجه وارتباطه بالواقع الموضوعي ما قاله الناقد المغربي أحمد المجاطي في كتابه:(ظاهرة الشعر الحديث):" غير أن القضاء لم يستجب لهم[ شعراء أبولو] جميعا، فينهي آلامهم بتجربة الموت، فقد مات الشابي والشرنوبي والهمشري، وهم صغار، وبقي غيرهم من شعراء هذه الجماعة، يعزفون على الأوتار نفسها، حتى بليت، ورثت، ولم تعد تضيف جديدا، ذلك أنهم قد رفضوا أن يفتحوا أنفسهم للحياة المتجددة، وآثروا على ذلك حبس مواهبهم، في دائرة التجربة الذاتية الضيقة، ثم خلف من بعدهم خلف اقتفى آثارهم، ونسج على منوالهم، فتشابهت التجارب، وكثر الاجترار، وقلت فرص الجدة والطرافة...

والحق أن نزعة الانطواء والهروب من مواجهة الحياة، كانت صفة بارزة في شعرهم."#

إذاً، هل كان أبو القاسم الشابي - فعلا - شاعرا مريضا ومنطويا على نفسه، بعيدا عن الحياة والواقع على حد سواء؟ أم كان الشابي شاعرا واقعيا، ليس في قصائده الوطنية والاجتماعية فحسب، بل حتى في قصائده الذاتية والوجدانية والرومانسية؟ هذا ما سوف نحاول رصده في هذه الورقة التي بين أيدينا.

منهجيـــة الدراســـة:

تهدف سيميوطيقا التلفظ أو المقاربة القرائنية أو التلفظية إلى دراسة الخطاب الشعري في ضوء المعينات الإشارية ، أو قراءتها من خلال القرائن اللغوية، أو مقاربتها عبر المؤشرات التلفظية التي تحدد سياق الملفوظ اللغوي واللساني. ومن أهم هذه المعينات: ضمائر الشخوص، وأسماء الإشارة، وظروف المكان والزمان، وصيغ القرابة، والتعابير الانفعالية الذاتية. ومن ثم، تنبني المقاربة القرائنية أو المقاربة "التلفظية" على دراسة سياق التلفظ، وأطراف التواصل اللغوي، وروابط الحجاج، والبوليفونية اللسانية، وأفعال الكلام، والذاتية والموضوعية، والمقصدية التلفظية... من خلال التركيز على ثلاثة مبادئ منهجية، وهي: البنية، والدلالة، والوظيفة. ومن المعلوم أيضا أن هذه المقاربة القرائنية أو الإشارية أو التلفظية تمتح آلياتها من اللسانيات الخارجية ذات البعد المرجعي ، مع الانفتاح بشكل من الأشكال على التداوليات والسيميوطيقا النصية والخطابية. ويعني هذا أن سيميوطيقا التلفظ تتكئ على اللسانيات الاجتماعية ذات البعد الخارجي ، وتعتمد أيضا على الأسلوبية والتداوليات بمختلف تياراتها، ولاسيما الحجاجية منها.كما تزاوج المقاربة القرائنية بين: قراءة داخلية تلفظية، وقراءة خارجية سياقية وإحالية. وتعنى كذلك بدراسة الكلام في بعده السياقي والتداولي والمقامي.

وبناء على ما سبق، يتضح لنا بأن سيميوطيقا التلفظ هي تلك النظرية التي تدرس العلاقة التلفظية القائمة بين المتكلم أو المخاطب، أو بين المتلفظ والمتلفظ له، وذلك ضمن سياقات إحالية ومرجعية مختلفة، سواء أكان ذلك الملفوظ أو المقول شفويا أم كتابيا. ويعني هذا أن عملية التلفظ (القول) هي التي تساهم في بلورة الملفوظ (المقول). ومن ثم، فإن الملفوظ ذو طبيعة مادية، سواء أكانت فيزيائية أم اجتماعية، حيث يمكن التقاطه عبر الحواس الخمس، وخاصة عبر السمع(الملفوظ الشفوي)، أو عبر البصر(الملفوظ الكتابي والرقمي ). أما هدفنا من هذه الدراسة ، فهو أن نثبت مدى واقعية أبي القاسم الشابي في شعره الواقعي والذاتي معا، ومدى اندماجه حضوريا وسياقيا في الزمان والمكان ، بالصيغة السيميائية التالية:" نحن – الآن- هنا". لذلك، آثرنا أن نستكشف قصيدة " نشيد الجبار" لأبي القاسم الشابي تشريحا، وتفكيكا، وتركيبا من جهة، و نقاربها فهما وتأويلا من جهة أخرى.

القســـم النظـــري:

يهدف القسم النظري إلى التعريف بالمقاربة القرائنية، أو تحديد مفهوم سيميوطيقا التلفظ، مع استقراء مكوناتها النظرية والتطبيقية.

مصطلح المعينات أو القرائن:

تطلق عدة مصطلحات ومفاهيم على المعينات في الدراسات الغربية ، ومن بينها : القرائن المدجمة أو الواصلة كما عند رومان جاكبسون ، أو الوحدة الإشاريةعند شارل بيرس ، أو التعبير الإشاري كما لدى بار هيليل، أو المؤشر، أو دليل التلفظ، أو القرائن الإشارية باللغة الإنجليزية…

ويلاحظ أن غالبا ما يستعمل مصطلح المعينات مرادفا لمصطلح الواصل، على الرغم من كون المعينات مصطلحا عاما، له دلالات خاصة ومتميزة عن مصطلح الواصل المرتبط بالسياق فقط؛ لأن مصطلح المعينات يشمل أطراف التلفظ، والسياق التواصلي للمتكلمين. كما يرتبط بالاستعمال الشفوي والتلفظي للخطاب، مع تشغيل الحركات والإشارات وإيماءات التعيين، وتوظيف وحدات التأشير الدالة على التعيين الزماني والمكاني.

ومن المعلوم أن كلمة المعينات جمع لكلمة مفردة، هي المعين الإشاري. وبالتالي، لا تأخذ هذه المعينات والقرائن الإشارية، بما فيها: الضمائر، وأسماء الإشارة، وظروف الزمان والمكان، والصيغ الانفعالية، وأسماء القرابة… معناها إلا داخل سياق التلفظ، ودائرة التواصل، وفعل القول.

مفهـــوم المعينـــات:

يراد بالمعينات - لغــة- الإشارة والتحديد والتعيين والعرض والتمثيل والتبيان والتأشير، وهو مشتق من كلمة (ديكتيكوس) اليونانية. ويراد بها – اصطلاحا- مجموعة من المرجعيات الإحالية المبنية على شروط التلفظ الخاصة وظروفه، كهوية المتكلم، ومكان التلفظ وزمانه(أنا- الآن-هنا). ويعني هذا أن كل ملفوظ يتكون من مرسل ومستقبل، ومكان التلفظ، وزمانه. وتسمى هذه المؤشرات السياقية بالمعينات أو القرائن السياقية. وبتعبير آخر، فالمعينات هي مجموعة من العناصر اللسانية التي تحيل على السياق الزماني والمكاني لعملية التلفظ الجارية بين المتكلمين أو المتحدثين أو المتلفظين.

إذاًً، يقصد بالمعينات أو القرائن الإشارية تلك الكلمات أو التعابير أو الروابط أو الوحدات اللغوية التي ترد في ملفوظ كتابي أو شفوي، تحدد الظروف الخاصة للتلفظ، وتبين الشروط المميزة لفعل القول، ضمن سياق تواصلي معين. ومن ثم، لا يتحدد مرجع هذه القرائن والمعينات الإشارية دلاليا وإحاليا، إلا بوجود المتكلمين في وضعية التلفظ والتواصل المتبادل.

هذا، وتحيل المعينات على أطراف التواصل، من: متكلم ومستقبل، ومرسل ومرسل إليه، بالإضافة إلى الضمائر المنفصلة والمتصلة(أنا-أنت- نحن-أنتم،ـت، ـــها،…)، وأدوات التملك المتعلقة بضمير المتكلم وضمير المخاطب(كتابي، كتابك، كتابنا، كتابكم…)، وأسماء الإشارة(هذا-هذه- ذلك- تلك…)، وظروف الزمان والمكان(هنا-هناك-اليوم- الآن- البارحة- في يومين، هذا الصباح، إلخ…)، بله عن المؤشرات اللغوية التي تعين الشخوص والأشياء من قبل المتكلم.

ومن هنا، فالمعينات هي وحدات التلفظ ومؤشراته، تساهم في تحيين فعل التلفظ إنجازا وقولا وفعلا، وذلك عن طريق الضمائر، وأسماء الإشارة، وظروف المكان والزمان. وبالتالي، فالمعينات هي التي تعنى بتحديد مرجع الوحدات اللغوية أثناء عملية التلفظ والتواصل. ويحيل هذا المرجع على واقعية لسانية خارجية، تسيج علاقة الدال بالمدلول. ومن ثم، فإبراز معنى الشيء، أو تعيين هويته، لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة ظروف التواصل، وشروطه المميزة. وإذا أخذنا - على سبيل المثال- هذا الملفوظ اللغوي:" سأذهب لأنام"، و نعرف- بالطبع- بأن أحمد هو الذي قال هذه الجملة، فضمير المتكلم هو الذي يعود على المرجع إحالة وسياقا ومقاما.أي: إن ضمير المتكلم هو أحمد. وإذا كنا لانعرف متلفظ هذه الجملة، فإننا لن نعرف بتاتا على من يعود ضمير المتكلم. وهكذا، يتبين لنا، بأن الضمائر تتحدد دلالة، وتتبين إحالة ومرجعا، وذلك بوجود أطراف التلفظ والتواصل.

ويرى إميل بنيفنست، وذلك في كتابه:( قضايا اللسانيات العامة)، بأن المعينات تحدد اللحظة المكانية والزمانية الآنية أثناء لحظة التلفظ بضمير التكلم . وإذا تأملنا - مرة أخرى- هذه الجملة على سبيل المثال: " قالت أسماء: سأسافر هناك غدا"، فأسماء مكون اسمي علمي، يحيل على المتكلم، ولكنه ليس معينا؛ لأن المكون الاسمي لايشكل معينا إشاريا. في حين، يحيل ضمير المتكلم على المتكلم"أسماء"، وتحيل كلمة " هناك" على سياق تواصلي مكاني، بينما تحيل كلمة" غدا" على سياق تواصلي زماني. ومن هنا، لابد من استحضار السياق المكاني والزماني والشخوصي في تحديد المعينات والمؤشرات اللغوية. وبالتالي، يستلزم الحديث عن المعينات وجود أطراف التواصل، وفعل التلفظ، والمعينات، ووجود السياق#.

الدراسات التي اهتمت بالمعينات:

ثمة مجموعة من الدارسين الغربيين الذين اهتموا بالمعينات والقرائن الإشارية، ضمن مقاربات متنوعة: نفسية، واجتماعية، وأنتروبولوجية، وبلاغية، وأسلوبية، ولسانية، وسيميائية، وتداولية…، منهم: إميل بنيفنست في كتابه:( قضايا اللسانيات العامة)#، وكاترين كيربرا أوريكشيوني في كتابها:( ملفوظ الذاتية في اللغة)#، وكريماص في كتابه:( موباسان: سيميوطيقا النص:تمارين تطبيقية)# ، وفيليب هامون في كتابه:(سيميولوجية الشخصيات)#، وتزيتيفان تودوروف في كتابه:(الشعرية) #، إلى جانب بول ريكور#، و رومان جاكبسون #، وييسبيرسين ، وكلود ليفي شتراوس#، وفينريش، وجان بياجي، وشارل بالي ، وشارل فيلمور، وفونديرليش، وآخرين…

هذا، ولا أحد ينكر بأن الإغريق واللاتين والعرب قد اهتموا بشكل من الأشكال بمقولات التلفظ، كما يتجلى ذلك واضحا في أبواب النحو والبلاغة والأسلوبية. بيد أن دراسة التلفظ ضمن رؤى لسانية وسيميائية حديثة، قد تمت مع أبحاث ودراسات السيميوطقي الأمريكي شارل ساندرس بيرس، وبوهلر#، وبوركس#، وسورل#، وأوستي#...

ومن الدارسين العرب الذين اهتموا بالمعينات الإشارية، لابد من ذكر محمد مفتاح في كتابيه:(في سيمياء الشعر القديم#)، و( تحليل الخطاب الشعري)، وعبد المجيد نوسي في كتابه: (التحليل السيميائي للخطاب الروائي)#، والدكتور محمد الداهي في كتابه:(سيميائية الكلام الروائي)،#، والدكتور جميل حمداوي#...

مفهــوم المعينـات:

يقصد بالمعينات أسماء الإشارة، والضمائر المتصلة والمنفصلة، وظروف الزمان والمكان. وبتعبير آخر، ما يشكل صيغة: نحن، الآن، هنا. كما يمكن الحديث أيضا عن ألفاظ القرابة (أبي، وأمي، وخالي…)، وصيغ الانفعال والتعجب(آه! ما أعجبه!)، وصيغ الحكم والتقويم الذاتي( قبيح- رائع- جميل...).

ويمكن الحديث بصفة عامة عن معينات المتكلم أو المتلفظ، ومعينات المستقبل أو المخاطب أو المرسل إليه أو المتلفظ إليه. فمن المعروف أن ضمير المتكلم يحدد هوية المتكلم، ويعين حضوره ووجوده سياقيا ومرجعيا أثناء عملية التلفظ والتواصل. ويتحدد ضمير المتكلم في صيغة المفرد " أنا "، أو صيغة الجمع "نحن" اتصالا وانفصالا. كما يمكن الحديث عن معينات الفضاء التلفظي، وذلك عبر تشغيل ظروف الزمان والمكان. ويمكن أن نضيف إليها المعينات التعبيرية، سواء أكانت صيغا للتعجب أو التأثر أو الانفعال، أم صيغا للحكم والتقويم سلبا أو إيجابا.

أنـــواع المعينات وأقسامـــها:

يمكن الحديث عن نوعين من المعينات والقرائن الإشارية. فمنها، ما يتعلق بالعوامل أو أطراف التلفظ والقول. و هناك، ما يتعلق بظروف التواصل والتلفظ والقول والكلام. فمن ثم، تحيل معينات العوامل على المرسل والمرسل إليه، أو المتكلم والمستقبل. وتسمى بالمعينات الذاتية، أو تسمى كذلك بالمعينات الشخوصية أو الضمائرية . أما المعينات الثانية، فتحيل على ظروف التلفظ وسياقه التواصلي الخارجي. ويمكن تقسيم هذه المعينات السياقية بدورها إلى معينات مكانية، والتي تسمى كذلك بالمعينات الفضائية ومعينات زمانية.

القســـم التطبيقــي:

تتضمن قصيدة (نشيد الجبار) لأبي القاسم الشابي أنواعا من المعينات والقرائن الإشارية، وهي قرائن تتعلق بالملفوظ التواصلي، والملفوظ السياقي، والملفوظ الذاتي والموضوعي، والملفوظ الحجاجي، والملفوظ التداولي....وتبين هذه القرائن، بطريقة من الطرائق، مدى اندماج أبي القاسم الشابي في واقعه، و مدى انخراطه في السياق التداولي إن زمانا، وإن مكانا. ولا يمكن أن يتشخص ذلك بجلاء إلا عبر استكشاف البنيات التلفظية، واستقراء الروابط الحجاجية والسياقية. ونذكر من أهم هذه القرائن التلفظية والسيميائية ما يلي:

المعينات التواصلية الذاتيــــة:

تنقسم المعينات التواصلية الذاتية إلى معينات الذات أو المرسل ومعينات المخاطب أو المرسل إليه. ويعني هذا أن ثمة قرائن إشارية دالة على حضور المتكلم وحضور المخاطب على حد سواء.

قرائن الذات المتكلمة:

ترتبط هذه الهمزية بالذات الشاعرة المرسلة والمتكلمة حضورا واندماجا وتجذيرا في الزمان والمكان. ويتمثل حضور الشاعر في هذه القصيدة، وذلك عبر مجموعة من القرائن التعبيرية والوسائط اللغوية التلفظية، التي يمكن حصرها في القرائن الإشارية التالية:

الضمائر المتصلة: يستعمل الشاعر مجموعة من الضمائر المتصلة الدالة على حضور الشاعر، وذلك باعتباره متكلما ومبدعا ومرسلا، كاستعماله لياء المتكلم (بقلبي-آمالي- دمي- فؤادي- طريقي- قيثارتي-جوانحي- هدمي- بنائي- ظلي- لحمي- سمائي- رأيتموني…)...

الضمائر المنفصلة: يستخدم الشاعر أيضا الضمائر المنفصلة الدالة على الحضور الكلي للشاعر مقالا ومقاما، وذلك على مستوى السياق التواصلي الذي يستوجب حضور كلا من المتكلم والمخاطب. ومن بين هذه الضمائر المنفصلة التي يستعملها الشاعر نستحضر: الضمير المتكلم المفرد (أنا الخضم الرحب- أنا الناي- أنا السعيد- أما أنا فأحبكم…).

أفعال المضارعة: تؤشر الأفعال المضارعة الدالة على زمن الحاضر، والمقترنة بضمير التكلم على حضور المتكلم المرسل داخل السياق التواصلي لعملية التلفظ الشعري، كما يبدو ذلك واضحا عبر هذه الأفعال المضارعة التالية: (أرنو- لا أرمق- أسير- أصغي- أقول- أمشي- فعلام أخشى- أقول- فأجيبكم...)

وإذا كانت القصيدة تتضمن سبعة وستين (67)فعلا، فإنها تتوزع إلى خمسة وثلاثين (35)فعلا مضارعا، وأربع وعشرين (24) فعلا ماضيا، وثمانية (8)أفعال أمر على الشكل التالي:

مجموع الأفعال
الأفعال المضارعة
الأفعال الماضية
أفعال الأمر
 
67 فعلا
35 فعلا
24 فعلا
8 أفعال

ويعني هذا أن الشاعر يكثر من الأفعال المضارعة. وبعدها، تأتي الأفعال الماضية، فأفعال الأمر.وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تجذر الشاعر سياقيا في الزمان والمكان، ويبرهن لسانيا على حضوره في الواقع قوة وإرادة ونضالا وتغييرا، وليس ضعفا أو مرضا أو هروبا.

صيغ التملك: تعمل صيغ التملك على تثبيت حضور الشاعر والمبدع في السياق الفضائي والتواصلي، والاستدلال على ذاتيته الإبداعية، وإثبات إنيته وكينونته الوجودية، وذلك باعتباره مرسلا ومتكلما وذاتا حاضرة على مستوى التلفظ والتواصل ، كما في الأمثلة التالية: (قلبي- بنائي- شتائمي- أعضائي- غنائي- أشلائي...)

صيغ التقويم والحكم: تحضر الذات المتكلمة عبر صيغ التقويم والحكم، سواء أكان ذلك الحكم محايدا أم إيجابيا أم سلبيا، ومن الأمثلة التي يمكن استحضارها في هذا النطاق الأحكام المحايدة: (الشمس المضيئة- الصخرة الصماء-الشعلة الحمراء- القبة الزرقاء-الوحي المقدس...)، والأحكام السلبية (الظل الكئيب- الهوة السوداء- ظلمة الآلام والأدواء…)، والأحكام الإيجابية (أنا الناي-أنا الخضم الرحب-أنا السعيد – الجمال السرمدي- وجهي مشرق-الشفق الجميل…).

الصيغ الانفعالية والتعبيرية: تعبر صيغ الانفعال والـتعجب والتأثر على حضور المتكلم المرسل تجذيرا واندماجا داخل عملية التلفظ الإبداعي. ومن الأدلة على ذلك الصيغ التعبيرية التالية: (فعلام أخشى السير في الظلماء!…).

الأعلام أو صيغ الهويـــة:

تعبر أسماء الأعلام الشخصية على هوية المبدع أو الشاعر أو المرسل، فالشاعر يسمي نفسه بروميثيوس، أو يقارن نفسه بالبطل اليوناني الذي خلص الشعب اليوناني من الجهل، بعد أن سرق مشعل الحضارة .وقد ضحى برميثيوس بنفسه من أجل أن ينقذ شعبه من بطش زيوس اللعين. ومن ثم، فاسم العلم دليل على إثبات الوجود والإنية والكينونة، وحضور الشاعر في القصيدة باسمه وهويته الشخصية.

قرائـــن المخاطب أو المرســـل إليه:

يستوجب منطق التواصل داخل الإبداع الشعري وجود متكلم مرسل ومتلق مرسل إليه. ويعني هذا أن عملية التلفظ داخل كل قصيدة شعرية يحضر فيها المتكلم والسامع معا لتحقيق عملية التبليغ، وتفعيل عملية التواصل، وتبادل الإرساليات. ويحضر المرسل إليه أو المخاطب عبر مجموعة من القرائن الإشارية والوسائط اللغوية والتعبيرية، والتي يمكن حصرها بدورها في الوسائل اللغوية التالية:

الضمائر المتصلة: ثمة كلمات ترتبط بها ضمائر التكلم المتصلة تؤكد وجود المخاطب، وتشير إلى حضوره التلفظي داخل سياق القصيدة الشعرية ، مثل: (استطعت- رأيتموني- ماشئتم-أجيبكم- فوقكم-…)، وتقوم هذه الضمائر- كما يرى رومان جاكبسون- بالوظيفة التنبيهية والتأثيرية والإبلاغية.

صيغة الفعـــل: تدل بنية الأفعال بضمائرها وصيغها الصرفية والمورفيمية على حضور المخاطب السامع فردا أو جماعة، وتجذيره سياقيا في الزمان والمكان، سواء أكانت تلك الأفعال ماضية مرتبطة بضمير المخاطب(رأيتموني- ماشئتم-...)، أم مضارعة مقترنة بضمير المخاطب (أجيبكم...)، أم أمرية تقترن بدورها بضمائر الخطاب، مثل: (اهدم-املأ-انثر- ارموا- العبوا- ترنموا- تجاهروا-….). وتنتقل هذه الصيغة الفعلية من الزمن المستعاد مع الفعل الماضي، إلى الزمن الحاضر مع الفعل المضارع، إلى زمن المستقبل مع فعل الأمر. ويعبر هذا عن تأرجح الذات بين ماضي الوشاية واللوم والعتاب، وحاضر التحول والقوة والأمل السعيد، ومستقبل الانطلاق والتحدي والثقة بالنفس.

صيغ النداء: تدل صيغ النداء في اللغة العربية على حضور المخاطب أو المنادى، سواء أكان ذلك المنادى المذكور نكرة مقصودة، أو علما معرفة، أو شبيها بالمضاف، أو مضافا إليه، وذلك داخل عملية التلفظ التواصلي، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: (يا معشر الأطفال تحت سمائي).

ويلاحظ أن الصيغ الدالة على المخاطب أقل بكثير من الصيغ اللغوية الدالة على حضور المتكلم أمرا وانفعالا وتعبيرا. ويعني هذا أن المتكلم يمتلك سلطة تواصلية عليا ، وذلك بالمقارنة مع سلطة المتلقي المخاطب، الذي لا يملك سوى سلطة الإنصات والخضوع والتلقي والسماع والانتباه. كما يؤشر هذا على الحضور البارز للذات المتكلمة، من خلال التمركز الذاتي، وتضخيم الأنا البؤرية داخل النسيج النصي.

هذا، وتحيل صيغة الخطاب على مجموعة من العوامل السيميائية الحاضرة داخل عملية التلفظ النصي، والتي يمكن حصرها في المفردات التالية: المخاطب-الأعداء- الجمع - الحاقدون- الحاسدون- الوشاة- النمامون -المغتابون- الأطفال السذج-الجبناء- الساخرون... وكل هؤلاء في صراع عكسي مع الشاعر أو بروميثيوس أو الجبار:

سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى،
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ" وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا
فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً
وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاء: إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي "إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

المعينـــات السياقيــة:

تنقسم المعينات السياقية أو الإحالية أو المرجعية إلى القرائن الزمانية والقرائن المكانية. بمعنى أن هذه القرائن الإشارية هي التي تشكل النسق التواصلي لعملية التلفظ القائمة بين الذات المتكلمة والذات المخاطبة. وتدل هذه القرائن الزمانية والمكانية على حضور المتكلم والمخاطب جنبا إلى جنب، وذلك استحضارا أو إضمارا. ويمكن تصنيف القرائن السياقية إلى نوعين من القرائن: القرائن الإشارية الزمانية، والقرائن الإشارية المكانية.

القرائن الزمانيــــة:

تعمل القرائن الإشارية الزمانية على تأطير عملية التواصل داخل نطاقها الزمني، كما تعبر عن اندماج المتكلم والمخاطب معا داخل الزمن النصي والتلفظي والتواصلي. ويكون التأشير الزمني في هذه القصيدة بواسطة الصيغ الزمانية المجردة ( الفجر- الشمس المضيئة-الظلمة-الدجى- الشفق الجميل-النور- الظلماء-...)، والأفعال الدالة على التزمين(انقضى عمري- خمدت حياتي...). وتدل هذه الصيغ الزمانية على جدلية الظلمة والنور.

القرائـــن المكانيـــــة:

تحدد القرائن الإشارية المكانية الإطار المكاني الذي تجري فيه عملية التواصل والتلفظ، وتواجد كل من المتكلم والمخاطب، سواء أكانت تلك المعينات أسماء للإشارة(هناك)، أم ظروفا للمكان (إزائي- فوق- بين- تحت - ...)، أم أسماء للمكان (الفضاء- البيوت-...)، أم صيغا مكانية مجردة ( القمة الشماء- قرار الهوة- دنيا المشاعر- الكون-الخضم الرحب-السماء...).

ونستنتج ، مما سبق ذكره، أن الذات المتكلمة والذات المخاطبة حاضرتان داخل النص الشعري في الزمان ظلمة ونورا، وفي المكان صعودا ونزولا. ويعني هذا أن الشاعر ومخاطبه حاضران في مكان تتجاذبه مجموعة من الثنائيات البنيوية: كجدلية النور والظلمة، وجدلية المادة والروح، وجدلية الأعلى والأسفل، وجدلية القوة والضعف، وجدلية الحب والكراهية، وجدلية العلم والجهل، وجدلية البناء والهدم، وجدلية الحرية والعبودية، وجدلية الفرح والحزن، وجدلية الحياة والموت، وجدلية الحاضر والمستقبل، وجدلية الذات والآخر، وجدلية التحدي والاستسلام،وجدلية الأمل واليأس، وجدلية السلام والحرب، وجدلية الذات والطبيعة-... وتتجمع هذه الثنائيات الجدلية في ثنائية سيميائية مولدة، وهي ثنائية النور والظلمة. وترتبط هذه الثنائية بدورها بثنائية الحياة والموت. ويمكن حصر معاجم ثنائية النور والظلمة في الصور التالية:

صورة النور

صورة الظلمة

الشمس المضيئة- اللهب المؤجج- يحدق بالفجر- متوهج- لهيب الكون- الشعلة الحمراء- فجر الجمال- الأضواء- يشبون اللهيب- وجهي مشرق- النار-الشفق الجميل-الشمس...

السحب- الأمطار- الأنواء- الظل الكئيب- الهوة السوداء- الدجى- ظلمة الآلام والأدواء-الظلماء- خبا لهيب الكون...

ويتبين لنا - من خلال هذا الجدول- بأن مفردات النور أكثر من مفردات الظلمة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على انتصار النور والحياة على الظلمة والموت، ويدل أيضا على مدى تطلع الشاعر إلى الفجر والحرية والحياة، وتلذذه بالأمل المعسول المقترن بالقوة، والتحدي، والنصر على الأعداء والأدواء على حد سواء.

المقاطع الذاتية والموضوعية:

نعني بالمقاطع الذاتية داخل القصيدة الشعرية تلك المقاطع التي تحضر فيها الذات المتكلمة أو الذات المخاطبة ، وذلك عبر الصيغ اللغوية والقرائن والمؤشرات والمعينات الدالة على الحضور والاندماج والتجذير في الزمان والمكان. في حين، أن المقاطع الموضوعية هي التي يغيب فيها ضمير المتكلم، أو تغيب فيها الذات المتكلمة والذات المخاطبة، حيث يتحول ضمير التكلم في المقطع الشعري إلى ضمير الغياب، أو ما يسمى بالضمير اللاشخصي. لأن ضمير المتكلم يدل على حضور الشخص في الزمان والمكان ضمن عملية التلفظ التواصلي. بينما يدل ضمير الغياب على غياب الشخص في الزمان والمكان، ويعبر أيضا عن اللااندماجه داخل القصيدة الشعرية.

هذا، ويلاحظ أن المقاطع الذاتية أكثر بكثير من المقاطع الموضوعية، حيث نجد أن هناك ثلاثة وعشرين (23) بيتا شعريا ذاتيا، وذلك في مقابل أربعة عشرة (14) بيتا شعريا غيريا أو موضوعيا. ويؤشر كل هذا على ضمور ضمير الغياب اللاشخصي أمام اكتساح ضمائر التكلم لمعظم أبيات القصيدة الشعرية، والتي تعبر عن الاندماج والتجذير والتواجد داخل عملية التلفظ التواصلي.

الروابــط اللغوية الحجاجية:

تذهب التداولية الحجاجية إلى أن النص أو الخطاب عبارة عن روابط لغوية حجاجية. وخير من يمثل هذه المقاربة الحجاجية أوزوالد دوكرو ، الذي أدخل البعد التداولي ضمن الوصف اللساني، باعتباره أحد مكوناته الرئيسة إلى جانب التركيب والدلالة، وذلك على غرار شارل موريس. ويعني هذا أن البعد التداولي للملفوظ يوجد في اللغة نفسها، وليس مرتبطا بسياق تلفظي ما. ومن ثم، فالعلاقات الموجودة بين الملفوظات هي علاقة حجاجية، وليست منطقية استنباطية. بمعنى أن القواعد الحجاجية هي التي تتحكم في ترابط ملفوظات النص، وتسلسلها في علاقاتها بمعانيها، وليست هي القواعد المنطقية والاستنباطية. أي: إن الروابط الحجاجية هي التي تتحكم في اتساق النص وانسجامه، كالضمائر، وحروف العطف، والأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة، وروابط الإثبات والنفي، والاستنتاج، والاستدراك...ومن ثم، يتحقق تواصل الملفوظات عبر أفعال الكلام، وليس عبر الصفات من جهة، وفهم الملفوظ يعني فهم أسباب تلفظه من جهة أخرى. ومن ثم، اهتم دوكرو كثيرا بالروابط التعبيرية التي تخلق اتساق النص وانسجامه، واهتم كذلك بالتمفصلات اللغوية التي تساهم في خلق النص الحجاجي برهنة واستدلالا وترابطا وهيكلة.

هذا، والغرض من هذا الحجاج هو الإقناع والتأثير والتداول والتواصل والتخاطب. ومن ثم، فالحجاج فعالية تداولية جدلية ديناميكية فعالة. وهناك نوعان من الحجاج: حجاج عادي عند البلاغيين الجدد، يستعمل آليات وتقنيات بلاغية ومنطقية.أي: مجمل الإستراتيجيات التي يستعملها المتكلم من أجل إقناع مخاطبه. وفي هذا المجال، ارتبطت البلاغة الجديدة بالحجاج ارتباطا وثيقا ، فاستعملت تقنيات البلاغة في عملية الإفهام والإقناع، وقد اهتم بها كل من بيرلمان) و أولبريشت تيتيكا(Tyteka) في كتابهما:" مصنف في الحجاج: البلاغة الجديدة" (1958م). وقد ركز بيلمان كثيرا على مبدأين رئيسين، وهما: القصد والمقام. ويمكن الاستفادة من هذا التصور الحجاجي التقليدي، حيث يساعدنا على:" اكتساب خبرة منهاجية دقيقة في تحليل نصوص ذات طبيعة حجاجية قوية ،كالنصوص القضائية والسياسية والفلسفية ، بناء على تصور تفاعلي بين الذات المتكلمة والمخاطبين.وعلى الرغم من ميزات هذا التصور، فإنه يقصر الحجاج على بعض التقنيات والآليات البلاغية والمنطقية، وهو ما يدفعه إلى تقسيم الخطابات إلى خطابات حجاجية ذات طبيعة إقناعية، كالمناظرات والمجادلات الدينية والفلسفية والسياسية والقانونية، وأخرى غير حجاجية . بينما يتبنى التصور التقني للحجاج تقسيما آخر تصير بمقتضاه كل الخطابات المختلفة التي تستعمل لسانا طبيعيا خطابات حجاجية بدرجات مختلفة."#

وفي المقابل، هناك حجاج لغوي يعتمد على الروابط اللغوية في عملية الإقناع والمحاججة، ويمثل هذا الاتجاه كل من أوزوالد دوكرو في كتابه:" السلالم الحجاجية " (1989م)، وأنسكومبر ). ويسمى هذا أيضا بالحجاج داخل اللغة، وهو امتداد للمقاربة التلفظية عند إميل بنيفنست. ويتم التركيز عند دوكرو على منطق الكلام ، وذلك باستكشاف القواعد الداخلية للخطاب التي تتحكم في ترابط النص وتسلسله واتساقه وانسجامه. ومن هنا، فالحجاج ليس خارجا عن اللغة، أو يضاف إليها، بل هو موجود في داخل اللغة وعبرها وفي بنيتها الضمنية. كما أن الجملة، باعتبارها مورفيمات ومونيمات وتعابير وصيغا، بالإضافة إلى محتواها القضوي الإخباري، يمكن أن توجه للمتلقي تأثيرات إقناعية حجاجية سلبية أو إيجابية.

ومن هنا، يمكن مدارسة النص الأدبي، سواء أكان سردا أم مسرحية أم نصا شعريا، في ضوء المقاربة الحجاجية، عن طريق استكشاف الروابط الحجاجية اللغوية التي تتحكم في بناء النص وترابطه،مع تبيان البعد الحجاجي والإقناعي في النص ، وذلك بالتشديد على السلم الحجاجي الذي يعنى بدراسة مسار الحجاج، انطلاقا من قول الحجة إلى نتيـــجتها، مع تبيان طريقة التــــــلازم، و التعاقد، وسلّم التفاضل بين الحجج، من حيث القوة و الضعف، و الكم و الكيف ...إلخ

وعليه، تقوم الروابط الحجاجية والتلفظية على تمتين روابط التواصل، وتقوية التلفظ بين المتكلم والمخاطب. وهكذا، تحضر في هذه القصيدة مجموعة من الروابط الحجاجية وصلا وفصلا، لتحقيق الاتساق والانسجام على مستوى بناء الملفوظ.ويمكن حصرها في:

روابط التشبيه: الكاف- مثل...
روابط الاستدراك: رغم...
روابط التزمين: سأعيش...
روابط النفي: لا أرمق- لا أرى- ليس تزيده- لا تهد- لم يحتفل...
روابط العطف: الواو- الفاء...
روابط الإشارة: تلك- ذلك-هناك...
روابط الصلة: الذي- ما- الذين...
روابط التأكيد: إنه-إني- قد- إن...
روابط الاستفهام: علام؟...
روابط القصر والحصر: ليس...إلا...
روابط الشرط: إذا خمدت حياتي...- إذا تمردت العواصف... من جاش...
روابط الفصل: أما....
روابط التعليل: لأذوب...ليأكلوا...
روابط التمني والرجاء والتوقع: لو...
روابط التعميم أو روابط الكم: كل...
الروابط الشخصية أو الضمائر: أنا- ياء المتكلم- همزة المضارع...
روابط النداء: يا معشر الأطفال...
التكرار: ما شئتم(كررت مرتين)...

وعلى العموم، فقد بدأ الشاعر سلمه الحجاجي بالإثبات المستقبلي، ثم أعقبه بالاستدراك والتشبيه:

كالنِّسْر فـــوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّـــــــاءِ
سَأعيشُ رَغْـــــمَ الدَّاءِ والأَعْــــــداءِ

وبعد ذلك، ينتقل الشاعر إلى الإثبات الحجاجي، باستخدام آليات الوصل(الضمائر- والأسماء الموصولة- وحروف العطف- وأسماء الإشارة- والشرط- والتمني- والتشبيه- والتعليل- ...)، وآليات الفصل (النفي- الاستثناء- الاستفهام- الفصل بأما...)، واستثمار آليات التأكيد من خلال التشديد على ضمائر الحضور، واستخدام أدوات التأكيد، وتوظيف روابط النداء...وإذا كانت القصيدة تبتدئ بالإثبات، فإنها تنتهي بحجاج الشرط الافتراضي والاحتمالي القائم على أداة الشرط والنفي.

وبناء على ما سبق، يتضح لنا بأن الملفوظ اللساني غالبا ما يتم تعضيده بآليات الوصل والفصل، بغية خلق خطاب حجاجي، يربط المتكلم بالمخاطب وصلا وفصلا، إثباتا ونفيا. وهذا له علاقة وطيدة بمقصديات المرسل وغاياته المباشرة والإيحائية.

الأفعـــال الكلاميــة:

إن النص الأدبي ليس مجرد خطاب لتبادل الأخبار والأقوال والأحاديث، بل يهدف عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية إلى تغيير وضع المتلقي، وتغيير نظام معتقداته، أو تغيير موقفه السلوكي من خلال ثنائية افعل ولا تفعل. ويعني هذا أن الخطاب أو النص الأدبي، وذلك في مفهوم التداوليات التحليلية التي ظهرت في سنوات الخمسين من القرن العشرين مع أوستين، كما في كتابه:" نظرية أفعال الكلام" (1962م)، وسورل في كتابه:" أفعال اللغة" (1969م)،عبارة عن أفعال كلامية تتجاوز الأقوال والملفوظات إلى الفعل الإنجازي، والتأثير الذي يتركه ذلك الإنجاز. ومن هنا، فنظرية الأفعال الكلامية تنبني على ثلاثة عناصر رئيسة، وهي: أولا، فعل القول ، ويراد به إطلاق ألفاظ في جمل مفيدة سليمة التركيب، وذات دلالة، تحمل في طياتها حمولات قضوية وإخبارية. وبالتالي، تشتمل على مستوى صوتي وتركيبي ودلالي، مثل: "أشكرك ياعلي". وثانيا، الفعل المتضمن في القول: وهو الفعل الإنجازي، وهو يحدد الغرض المقصود بالقول، كصيغة الأمر في هذه الجملة:" انتظري اللحن الجديد". وثالثا، الفعل الناتج عن القول، وهو ما ينتج عن القول من آثار لدى المخاطب إثر فعل القول، كإقناع المخاطب، وحثه، وإرشاده، وتوجيهه، أو تضليله ...وتحضر هذه المستويات الثلاثة للفعل الكلامي جميعها في الوقت ذاته، و بدرجة متفاوتة، وهي التي تجعل هذا الفعل الكلامي كاملا.

وعلاوة على ذلك، يميز أوستين بين الجمل الخبرية والجمل الإنجازية، وتتنوع هذه الأقوال الإنجازية إلى أقوال ظاهرة وأقوال مضمرة. فالأقوال الإنجازية قد تكون لها قوة حرفية، مثل: الاستفهام، والتمني، والأمر... وقد تكون لها قوة إنجازية حوارية وسياقية، مثل: الالتماس، والإرشاد، والتهديد، والتحسر،...

ويعني كل هذا أن الفعل الكلامي ينقسم إلى ثلاثة أنواع: فعل القول، والفعل المتضمن في القول، والفعل الناتج عن القول، وقد لايدل الفعل المتضمن في القول على دلالته المباشرة، بل يفيد معنى إنجازيا آخر غير مباشر يحدده سياق القول. بتعبير آخر، للجملة الواحدة ثلاثة مستويات: محتواها القضوي، وهو مجموع معاني مفرداتها، والقوة الإنجازية الحرفية، وهي قوة مدركة مقاليا، والقوة الإنجازية المستلزمة، وهي التي تدرك مقاميا. ويعني هذا أن أوستين يربط الأقوال بالأفعال، والمقال بالمقام. فأن نقول كلاما، يعني أننا ننجز فعلا. ومن هنا، فنظرية الأفعال الكلامية تنبني على فعل القول (قول شيء ما) الذي يتخذ مظهرا صوتيا وتركيبيا ودلاليا، والفعل المتضمن في القول (إنجاز فعل معين ضمن قول ما)، وقد يكون فعلا مباشرا أو غير مباشر، والفعل الناتج عن القول(الآثار المترتبة عن قول شيء ما). ويتميز الفعل الكلامي بالمطابقة مع الواقع والسياق، والتعبير عن حالة نفسية، والقدرة على الإنجاز، واختلافه باختلاف منزلة المتكلم من المتلقي، والاختلاف في أسلوب الإنجاز، واختلاف القوة الإنجازية...

ويمكن تقسيم أفعال الكلام - حسب ما ورد في هذه القصيدة الشعرية- إلى الجمل الإنجازية التالية:

1- الجملة التقريرية: وتفيد تأكيد المتكلم وإقراره لبعض الوقائع والأحداث في الواقع الخارجي، مثل:

أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ" "إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي

عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاءِ" فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ

2- الجملة الطلبية أو الأمرية: وتحضر في توجيه المتكلم طلبا للمخاطب لإنجاز فعل ما، مثل:

سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي

الجملة البوحية أو الإفصاحية: تعبر عن الحالة النفسية للمتكلم، مثل:

غرِداً- وتلكَ سعادة ُ الشــــعراءِ وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالمــــاَ،
وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشـائي أُصغِي لموسيقى الحياة ِ، وَوَحْيها
يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْــــــداءِ وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ، الَّــــذي
قيثارتي، مترنِّما بغنائي" "سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً
في ظُلمة ِ الآلامِ والأدواءِ" "أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ
فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ!" النّور في قلبِي وبينَ جوانحي

4- الجملة الوعدية: تفيد التزام المتكلم بإنجاز فعل في الزمان المستقبل، مثل:

سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّه
وضَراعَة َ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء لا يعرفُ الشكْوى الذليلة َ والبُكا،
بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي "ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى،
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ" وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
قيثارتي، مترنِّما بغنائي" "سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاء: إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي "إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

5- الجملة التصريحية: ويقصد بها إعلان المتكلم عن إنجاز فعل، يفيد تغييرا مرتقبا على مستوى العالم الخارجي، مثل:

كالنِّسْر فـــوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّـــــــاءِ سَأعيشُ رَغْـــــمَ الدَّاءِ والأَعْــــــداءِ
بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنــــواءِ أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِ..،هازِئاً

وعليه، فالشاعر يثبت، ويقرر، ويؤكد. وفي الوقت نفسه، يأمر، ويطلب، ويعد، ويصرح، ويبوح. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن المقام الذي يجمع المتكلم بالمخاطب هو مقام اختلاف، وتنابذ، وصراع جدلي.

البوليفونية اللسانية أو التلفظية:

تعرف فرانسواز أرمينكو الحوارية بأنها:" مكون لكل كلام، وتعرف كتوزيع لكل خطاب إلى لحظتين تلفظيتين توجدان في علاقة حالية، ويقدم المبدأ الحواري من خلال الحدود التالية: كل تلفظ يوضع في مجتمع معين لابد من أن ينتج بطريقة ثنائية، تتوزع بين المتلفظين الذين يتمرسون على ثنائية الإصاتة وثنائية العرض، على حد تعبير فرانسيس جاك، وإن كل كلام إلا وله مالكان تقريبيان، وربما كان من المضبوط القول بأن سيدة الكلام الحواري هي العلاقة التخاطبية ذاتها."

بمعنى أن الملفوظ التخاطبي دال، مادام يتموضع في مجتمع المتحاورين والمتناظرين. وبالتالي، يمتلكون علاقات حوارية وتخاطبية. ومن ثم، تقوم الحوارية على عرض الملفوظات المتبادلة، فتترابط الحوارات الحالية مع الحوارات السابقة، والحوارات اللاحقة.

علاوة على ذلك، يمكن الحديث عن أنواع من الحوارية، فهناك حوارية حجاجية فلسفية وتداولية كما عند فرنسيس جاك، وحوارية أدبية كما عند الروسي ميخائيل باختين، وحوارية بوليفونية لسانية ولغوية كما عند أزوالد دوكرو. كما تنقسم الحوارية أيضا إلى حوارية صريحة، وحوارية مضمرة، وحوارية متعددة الأصوات.

هذا، وتحقق الحوارية مجموعة من الوظائف والأهداف:" نجد في الدرجة الأولى أنها تمنح للتلفظ طبيعة نسبية وتفاعلية. وتحكم في الدرجة الثانية عند المتكلمين- وأكثر في اللحظات التلفظية – نشاطين لايفترقان عن إرادة القول والفهم: في الدلالة والفهم. حين، تكون العلاقة التخاطبية غير متعادلة، أو حين تكون موضوعا لنفي صراعي في الخطاب. وتحكم الحوارية في الدرجة الثالثة الدلالة العميقة للتلفظ: مادامت الآلية الإحالية والمضمون القضوي، والقوة الإنجازية للجملة في وضعية تخاطبية.

وتعد آثار الحوارية في مفهوم المتكلم هامة بصفة خاصة. إذ تلغي استقلال الفاعل المتكلم تجاه الدلالات الموصلة. ويحيل التحليل المتعالي، في علاقة بهذا، لا على الفاعل، بل على العلاقة التخاطبية نفسها."

ومن هنا، فالحوارية تتجاوز الجملة، مادام التخاطب قائما على السؤال والجواب، وتجاوز للمتكلم إلى العلاقة التخاطبية التي تجمع بين المتكلم والمتلقي، ووجود إحالة على الأشخاص، وإحالة على العالم سياقا ومقاما.

أما فيما يخص الحوارية المتعددة في الأدب، فتنبني على تعددية في الأطروحات، والأفكار، والإيديولوجيات، ووجهات النظر، وتعدد في الرواة والسراد، وتعدد في اللغات واللهجات والأساليب، واعتماد السخرية والباروديا والتهجين والأسلبة والتناص. بمعنى أنها رواية تفاعلية نسبية، تحتكم إلى دمقرطة السرد والرؤية والإيديولوجيا.

ومن هنا، فالقصيدة - التي نحن بصدد دراستها- لا تحمل صوتا شعريا واحدا، بل هناك أصوات متعددة، وهي مختلفة من حيث الأفكار والمعتقدات والإيديولوجيات. فنجد على مستوى الإرسال: صوت أبي القاسم الشابي، وصوت بروميثيوس، وصوت الجبار، وصوت الشاعر الضمني...في حين، نلفي على مستوى التلقين صوت المتلقي الضمني، وصوت المخاطب المفرد، وصوت المخاطبين بالجمع، وصوت الأعداء، وصوت الجمع، وصوت الوشاة والحاسدين والمغتابين والهادمين والحاقدين...إذاً، هناك بوليفونية في الأصوات الشعرية، صراحة أو إضمارا. وهناك من جهة أخرى، بوليفونية فكرية وإيديولوجية عبارة عن فعل ورد فعل. ومن ثم، يدافع الشاعر عن فلسفته في الحياة، وهي فلسفة النور والقوة والتحدي والأمل...في حين، ثمة فلسفة مقابلة هي فلسفة الضعف والاستسلام والشك والهدم والظلمة. ويتبين لنا أن هناك صراعا جدليا قائما على العدوان والكراهية، والتنافر بين الذات المتكلمة والمخاطب

سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
وضَراعَة َ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء لا يعرفُ الشكْوى الذليلة َ والبُكا،
بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي "ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى،
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ" وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
قيثارتي، مترنِّما بغنائي" "سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً
في ظُلمة ِ الآلامِ والأدواءِ" "أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ
فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ!" النّور في قلبِي وبينَ جوانحي
أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ" "إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي
إلا حياة ً سَطْوة ُ الأنواءِ" "وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ
عُمُري، وأخرسَتِ المنيَّة ُ نائي" أمَّا إذا خمدَتْ حَياتي، وانْقَضَى
قدْ عاشَ مثلَ الشُّعْلة ِ الحمْراءِ "وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاءِ" فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ
وأَرْتوي منْ مَنْهَلِ الأَضْواءِ" "لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ
هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا
فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً
وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاء: إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي "إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

إذاً، ثمة بوليفونية متصارعة، قوامها الحب والكراهية، والظلمة والنور، والسلام والحرب، والحب والكراهية، والبناء والهدم، والحرية والعبودية، والعدالة والظلم...ومن ثم، فقد كان الشاعر يدافع عن قيم إيجابية أصيلة مثل: الحب، والقوة، والحرية، والحياة، والسلام،...بينما يعتنق أعداؤه قيما سلبية تتجلى في: العداوة، والكراهية، والحقد، والرعب، والهدم، والموت...

مقاصـــد الملفـــوظ:

لقد اهتمت الدراسات التداولية في بداية الأمر بالمتكلم باعتباره قوة عليا، يمتلك سلطة متفوقة، فيوجه للمخاطب، والذي يكون في مرتبة دنيا، مجموعة من الأوامر لتنفيذها بطريقة ميكانيكية، دون تردد أو مناقشة، كما هو حال الأوامر الدينية والعسكرية، ويسمى هذا بالتواصل التوجيهي. لكن هناك من يرفض هذا التصور الميكانيكي، فيعتبر المقصدية قاسما مشتركا بين كل من المتكلم والمتلقي، ولا فرق بينهما إلا من باب الأخذ بزمام المبادرة. لكن هناك من يرى بأن المقصدية قد يتحكم فيها المتلقي، فيجعل المتكلم في قبضة يده، فيتصرف فيه كيفما يشاء، ثم يضطر المتكلم إلى تكييف خطابه حسب رغبات المتلقي، بل قد يكون ناطقا بلسانه#.

ويعني هذا أن النص الأدبي باعتباره جملا وملفوظات لغوية يحوي مجموعة من المقاصد المباشرة والضمنية التي يعبر عنها المتكلم أو المتلقي أو هما معا. بتعبير آخر، ثمة مقاصد أولية تتعلق بالمتكلم المرسل قد يكون شاعرا - مثلا -، فيعبر عن بعض مقاصده كالحب والخوف والاعتقاد والتمني والكراهية. وفي المقابل، ثمة مقاصد ثانوية، تتعلق بالمتلقي السامع الذي عليه أن يفهم مقاصد الشاعر المبدع، و يتعرف ظروفه وحالاته النفسية والذهنية والوجدانية.

وإذا انتقلنا إلى النص الأدبي، فإن المبدعين والشعراء يوظفون كلمات وتعابير وأسماء أعلام لها مقصدية مباشرة وغير مباشرة، قد تدرك بطريقة ظاهرة، أو تفهم بالتضمين والتلميح. وهكذا، فالمقاربة التداولية تتعامل مع النص الأدبي والخطاب الإبداعي باعتباره مقصدية سياقية، ينبغي استحضارها، بغية تأويل النص تأويلا صحيحا وسليما.

وعليه، يحمل نصنا هذا لسانيا وسياقيا مقصديات مباشرة وغير مباشرة، تكمن في ضرورة التمثل بفلسفة القوة والتحدي والتضحية، من أجل التحرر من قبضة الأدواء والأعداء على حد سواء، مع نبذ الخلافات الداخلية، وترك الصراعات الشخصية. وهكذا، فإنه يستحيل في بعض الأحيان – كما تقول كاترين أوريكشيوني-، وهي تتحدث عن القرائن الإشارية:" الوصف المناسب للأداء الكلامي، دون الاهتمام بمحيطها غير الكلامي. بشكل عام، لا يمكن دراسة المعنى، دون تحديد صلته بالمرجع. ولا يمكن تحليل القدرة اللسانية بتفريغ القدرة الإيديولوجية التي تنتظم عليها، ولا يمكننا وصف الإرسالية، دون الاهتمام بالمقام الذي تأسس عليه، والنتائج التي تهدف إليها."#

وعلى العموم، تحمل القصيدة الشعرية مقصديتين: الأولى مقصدية إيجابية تدعو المتلقي، إيحاء وإضمارا، إلى تمثل فلسفة القوة والحياة عبر التشبث بالأمل، والطموح، والتحدي، والشجاعة، والفرح، والاستجابة لله والطبيعة. أما المقصدية الثانية، فهي مقصدية سلبية تقوم على الحقد والعدوان والموت والتطرف، مع إدانة المخاطب لوما وتقريعا وتعنيفا وسخرية، مادام قد اختار فلسفة هدم الآخرين ترويعا وتخويفا، ونبش أعراضهم قذفا ونميمة وغيبة وحسدا، والاعتداء عليهم ماديا ورمزيا.

ومن هنا، يتضح لنا بأن هذه القصيدة الشعرية تعبير صادق وجلي عن ثنائية النور والظلمة، وثنائية الحياة والموت.كما أنها قصيدة ملحمية تتغنى بفلسفة القوة والحياة والأمل والحب والبناء، في مواجهة فلسفة الضعف والخنوع والاستسلام والحقد والكراهية والهدم.

البنيـــة العامليـــة:

مادمنا نتحدث عن السياق التواصلي للبنية التلفظية، فلا ضير من الحديث عن البنية العاملية داخل هذه القصيدة الشعرية الملحمية، من خلال استحضار الضمائر والأزمنة والأمكنة. وبالتالي، يمكن لنا الحديث عن ذاتين متقابلتين: ذات متكلمة مرسلة، وذات مخاطبة مستمعة ومتلقية (المرسل إليه). فالذات الأولى هي ذات الشاعر (بروميثيوس- الجبار) التي تتوارى وراء ضمائر التكلم، وصيغ التملك، وأفعال المضارعة والحضور، والصيغ الانفعالية، وصيغ التقويم. أما عن الموضوع المرغوب فيه، فهو الإقبال على الحياة، و التغني بنور الحرية، والتوق إلى الغد المعسول:

كالنِّسْر فـــوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّـــــــاءِ سَأعيشُ رَغْـــــمَ الدَّاءِ والأَعْــــــداءِ
بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنــــواءِ أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِ..،هازِئاً
ما في قرار الهَوّة ِ الســــــوداءِ... لا أرمقُ الظلَّ الكئيــبَ..، ولا أَرى
غرِداً- وتلكَ سعادة ُ الشــــعراءِ وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالمــــاَ،
وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشـائي أُصغِي لموسيقى الحياة ِ، وَوَحْيها
يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْــــــداءِ وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ، الَّــــذي
عن حرب آمالي بكل بــــــلاءِ: وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْــــــــثني
موجُ الأسى، وعواصفُ الأرْزاءِ "-لا يطفئ اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي
سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
وضَراعَة َ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء لا يعرفُ الشكْوى الذليلة َ والبُكا،
بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي "ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى،
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ" وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
قيثارتي، مترنِّما بغنائي" "سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً

بيد أن ثمة مجموعة من المعيقات التي تقف في وجه الذات العاشقة البطلة (الشاعر)، وذلك في سعيها لامتلاك موضوعها الأثير لديها (نور الحياة)، كما يتجلى ذلك واضحا في: العدوان، والرعب، والخوف، والظلمة، والموت، والحقد، والوشاية، والحسد، والغيبة، والنميمة...

هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا
فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً
وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاء: إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي "إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

في حين، تتمثل العوامل المساعدة للذات في المفردات التالية: (النسر-بروميثيوس- الشمس المضيئة- الحلم- الموسيقى- الطبيعة- الصوت الإلهي- الجبار- الصخرة الصماء- القيثارة- الغناء- الناي- الجمال- النور- الطائر-الوحي المقدس…). أما الذات المعاكسة داخل القصيدة الشعرية، فتؤشر عليها مجموعة من الدوال اللغوية ( الهدم- الجمع- اللهيب- المعاول- النار- الحشائش- العواصف- الهول- الحجارة- أمن البيوت-الخوف- الدجى- زوابع الأشواك-الحصباء -الرعب - رجم الردى-صواعق البأساء...…).

بيد أن المرسل الحقيقي الذي يتحكم في هذا التركيب العاملي يتمثل في الشاعر الجبار أو بروميثيوس. في حين، يتمثل المستفيد في الشاعر نفسه، والإنسان بصفة عامة، سواء أكان صديقا أم عدوا، كما يتضح ذلك جليا في هذا البيتين الشعريين:

والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

ويتبين لنا - من خلال استقرائنا لدلالات النص- بأن الحقول المعجمية والدلالية التي تزخر بها القصيدة الشعرية تنحصر في مجموعة من الحقول، مثل: حقل الذات، وحقل الطبيعة، وحقل الحياة، وحقل الموت، وحقل الحب، وحقل الكراهية، وحقل السلام، وحقل الزمان، وحقل المكان، وحقل القيم…ويمكن إجمالها في تشاكل دلالي وسيميائي يتمثل في ثنائية النور والظلمة أو ثنائية الحياة والموت.. ويعني هذا أن الظلمة عداوة وكراهية وحرب وموت. بينما النور حب وأمان وسلام وحياة. ومن ثم، فالبنية الدلالية العميقة المولدة للقصيدة، على مستوى السطح والظاهر، تتجلى في ثنائية النور والظلمة. ويعني هذا أن القصيدة الشعرية تتأرجح بين واقع الظلمة ونور الأمل. وبتعبير آخر، تتردد بين حاضر الظلمة والكراهية والعدوان من جهة، وغد النور والسلام والحب من جهة أخرى.
لذا، سيكون المربع السيميائي لهذه القصيدة الشعرية مبنيا على العلاقات المنطقية التالية:

1- علاقات التضاد: النور والظلمة.

2- علاقات شبه التضاد: لا ظلمة ولا نور.

3- علاقات التناقض: الظلمة ولا ظلمة، ونور ولا نور.

4- علاقات التضمن: الظلمة ولا نور، والنور ولا ظلمة.

الظلمة النور

لا نور لا ظلمة

تركيب استنتاجي:

نستنتج، مما سبق ذكره، بأن المقاربة القرائنية هي التي تدرس الخطاب الشعري، وذلك في ضوء المعينات التلفظية، والقرائن الإشارية، والسياقات الزمانية والمكانية. ويعني هذا أن القصيدة لا يمكن فهم معناها، وتمثل سياقها الخارجي والتداولي، إلا بالتركيز على عمليات التلفظ القائمة على أطراف التواصل والسياق الفضائي. و قد تبين لنا بكل وضوح بأن هذه المقاربة القرائنية واللغوية تسعفنا كثيرا في تحديد نظام التواصل، ومعرفة سياقه التداولي الخارجي، بالإضافة إلى التمييز بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي، ومعرفة خاصية الاندماج واللااندماج على المستوى السيميائي، وتبيان مختلف العوامل التركيبية التي تتحكم في تشكيل البنية الدلالية الخطابية، مع استخلاص البنية التوليدية المنطقية التي تكون سببا في توليد النص الشعري إن تفكيكا وتركيبا، وإن سطحا وعمقا.

ومن جهة أخرى، فقد تبين لنا – مما سبق ذكره- بأن الشاعر أبا القاسم الشابي كان غارقا في مشاكل مجتمعه إلى أخمص قدميه، حتى في قصائده الذاتية والرومانسية. وقد أثبت لنا الدليل اللساني والتلفظي والسياقي، بكل قرائنه ومعيناته ومؤشراته التداولية، مدى اندماج الشاعر في واقعه الموضوعي ذاتا، وزمانا، ومكانا، وسياقا. وأكد لنا أيضا مدى انصهاره في مجتمعه انخراطا والتزاما وتجذيرا. وبالتالي، لم يكن أبو القاسم الشابي شاعرا سلبيا منعزلا، أو كائنا ذاتيا ضعيفا مقهورا، يتلذذ بالهروب من الواقع المنخور إلى الطبيعة الصامتة والصائتة، بغية التغني بعالم الغاب المثالي، والاتحاد به حلولا ووصالا وكشفا، بل كان – على العكس من ذلك- شاعرا مندمجا كل الاندماج في مجتمعه المنحط الموبوء، يتغنى فيه بنور الحياة، كارها ظلمة الموت.

ملحق القصيدة الشعرية:

نشيد الجبار (هكذا غنّى بروميثيوس)

كالنِّسْر فـــوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّـــــــاءِ سَأعيشُ رَغْـــــمَ الدَّاءِ والأَعْــــــداءِ
بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنــــواءِ أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِ..،هازِئاً
ما في قرار الهَوّة ِ الســــــوداءِ... لا أرمقُ الظلَّ الكئيــبَ..، ولا أَرى
غرِداً- وتلكَ سعادة ُ الشــــعراءِ وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالمــــاَ،
وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشـائي أُصغِي لموسيقى الحياة ِ، وَوَحْيها
يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْــــــداءِ وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ، الَّــــذي
عن حرب آمالي بكل بــــــلاءِ: وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْــــــــثني
موجُ الأسى، وعواصفُ الأرْزاءِ "-لا يطفئ اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي
سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ" "فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
وضَراعَة َ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء لا يعرفُ الشكْوى الذليلة َ والبُكا،
بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي "ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى،
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ" وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
قيثارتي، مترنِّما بغنائي" "سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً
في ظُلمة ِ الآلامِ والأدواءِ" "أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ
فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ!" النّور في قلبِي وبينَ جوانحي
أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ" "إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي
إلا حياة ً سَطْوة ُ الأنواءِ" "وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ
عُمُري، وأخرسَتِ المنيَّة ُ نائي" أمَّا إذا خمدَتْ حَياتي، وانْقَضَى
قدْ عاشَ مثلَ الشُّعْلة ِ الحمْراءِ "وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاءِ" فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ
وأَرْتوي منْ مَنْهَلِ الأَضْواءِ" "لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ
هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا
فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً
وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاء: إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي "إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي" "فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
بالهول قَلْبُ القبّة ِ الزَّرقاءِ" "وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي "ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ.." "فارموا على ظلّي الحجارة َ، واختفوا
غثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ" وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي" "وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي: أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
لم يحتفِلْ بحجارة الفلـــــــــتاء" "مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى