الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

لا تسافر وحدَكَ

"اعرفوني كما أريد! وسأختار ما أريد وأُترجمه بنفسي!”هذا ما قاله صديقي د. نبيل طنوس في حواريّة حول الترجمة وأصولها، وتزامن الأمر مع قراءتي لكتاب الدكتور منير توما”مختارات من أشعار جلال الدين الرومي”ترجمها عن الانجليزية (71 قصيدة في 128 صفحة).

الترجمة عبارة عن فن وضرورة كونيّة من أجل التعرّف على الآخر وتفهّمه عبر ثقافته، والحديث عن الترجمة الأمينة، بعكس الترجمة الحرفيّة و/أو الحرة، التي تسعى للحفاظ على روح المتّرجَم ورونقه وليس الترجمة”الغوغليّة”الحرفيّة الخشبيّة أو المعدنيّة التي تُفقِد النص جماليتّه وتُشوّهه، وكما قال الجاحظ (المتوفي سنة 868 م) في كتابه الحيوان:”ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولَة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء".

أعي أن ترجمة الشعر من أصعب الترجمات لما يحويه من أحاسيس ومشاعر وذوق ولهذا نجد أن أفضل الشعر المترجَم قام بترجمته شعراء ذوّاقون للشعر وموسيقاه، وكما قال أكتافيو باث (الشاعر والأديب المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1990):"منذ البدء يعتبر الشعر هو الأقلّ ملاءمة للترجمة، وما يثير الدهشة أن أفضل الشعر المترجم قام بترجمته شعراء كبار"، وللدكتور الشاعر منير توما عدّة دواوين شعرية ومنها أوراق خريفية، ويبقى الهوى، ورد وشجن، تجليات ربيعية، قلوب شفافة، صور وظلال وغيرها، وكذلك دواوين شعر بالإنجليزية ومنها Blossoms of Anguish Sentimental Lines، The Sage’s Visit and Poems of Maturity وغيرها) فلهذا نجد د. توما قد قام بمهمة شائكة ونجح في نقل الرسالة إلى”متذوقي حكمة العشق الإلهي وصوفية الكلمة النيّرة بتجلّياتها الإنسانية المتوهّجة”كما جاء في الإهداء لدرايته بمعاني وألفاظ اللغتين - المتَرجَم منها والمترجَم اليها، ناهيك عن أنه مرهف الإحساس وإنسان نيّر ومثقّف، وهكذا جعل لجلال الدين الرومي حضورًا في النصوص المتَرجمَة.

وُفّقَ د. توما في اختياره للقصائد التي اختارها من اشعار جلال الدين الرومي (1207-1273 ميلادية، والذي كتبَ ديوان “المثنوي”الذي يضم خمسة وعشرين ألف بيت،”ديوان شمس تبريز”الذي يشمل ثلاثة آلاف وخمسمائة بيت والرباعيات التي تشتمل على 3,318 بيتًا!) وترجمها عن الانجليزية، وحاول في الاختيار التعريف على الشاعر الفارسي وشعره الذي يتّسم بحرارة الإيمان والتهاب العاطفة الذين يحوّلان التفكير النظري التأملي إلى صوفيّة.

رّوض الحيوان في الشعر وآلفه في قصيدة”التوق إلى طيور سليمان"،”كلب الأنا”وقصيدة”الفرق بين الكلاب والأسود”فترجم:

الفرق بين الكلاب والأسود

الكلبُ دائمًا ما يهِرّ على الفقير والبائس،
الى الحد الذي يستطيع أن يعضَ ويطبق فكّيهِ على الفقير
لكن إعلم أنّ الأسود تتصرّفُ بشكلٍ مختلف،
لأنَّ الأسدَ سيكونُ خجولًا
من أن ينقضَّ ويفترس الجيران

وصال وجال في الحب والعشق في قصائد”محبوبتي"،”قلبي المحترق"،”الحب هو السيد"، ”همسات حب"، ”الحب المدهش” وغيرها

العاشق الأسطوري

إنَّ حبي لك
جعلني مجنونًا
إنني أطوف هائمًا
في خرائب وأطلال حياتي
.......
أنا أبحث عنك
في كياني الداخلي
اعتدتُ أن أقرأ
أساطير الحب
الآن أصبحتُ
المحب والعاشق الأسطوري

وانتقى المواعظ والحكم في قصائد”لا تحمل حقدًا"،”اليقظة"،”مرض الأنا”

مرض الأنا

إذا ما تقاسم وتشاطر شيء أنيق وساطع،
فإنه في اليوم القادم تكون نزِقًا وضجرًا.
تخلّص من هذا المرض! حينما يذهب،
كل حكاية قديمة تصبح جديدة،
وتجعل جانب الطريق قناةً للريّ
تنفجر بالإزهار والتفتُّح.

ولجأ إلى العاطفة والمحبة بلا شروط

لو كنتُ كنزًا

هناك أمٌّ تداعب وتدغدغ أنف طفلها،
بحيثُ يستيقظ باحثًا عن طعامهِ،
لأنّه من الجائز أن يكون قد غلبه النوم
وهو جائع، ليس واعيًا،
وفي استيقاظهِ نَخَسَ ثديها طلبًا للحليب
لقد كنتُ كنزًا، رحمةً مخيفةً،
لذلك أرسلتُ نبيًّا رحيمًا راشدًا

وانتقى حكمة العشق الإلهي وصوفيّة الكلمة النيّرة بتجلّياتها الإنسانية المتوهّجة:

لا تسافر وحدَكَ
من المؤكد، أن النبيذَ العتيق يزدادُ قوةً وشدةً،
والذهبُ العتيق هو أكثر تمنًا وتقديرًا.
إختَرْ مُسنًّا حميمًا، لأنه بدونهِ
تكون هذه الرحلةُ ملآى بالصعوبةِ والخطر.
بدونِ مرشدٍ تصبحُ حائرًا
حتى في طريقٍ كنتَ قد سافرتَ فيها مراتٍ عديدة.
لا تسافرْ وحدَكَ في طريقٍ لم تَرَها أبدًا،
لا تصرِف رأسكَ بعيدًا من المرشد.

تزامنت قراءتي للكتاب مع استلامي لوحة عنوانها”صوفيّة”بريشة صديقي د. يوسف عراقي (طبيب تل الزعتر) الذي هُجّرَ من حيفاه في النكبة، وما زال فيها متأمّلًا وآملًا بوجدانيّته، فوجدتها خير أنيس لقراءتي للكتاب.

وأخيرًا، نجح د. توما في التعريف بهذا الشاعر الفارسي العظيم وصوفيّته الذي يتّسم بحرارة الإيمان والتهاب العاطفة الذين يحوّلان التفكير النظري التأملي الى صوفيّة.


مشاركة منتدى

  • مرةً اخرى تسجل فوزا بانتقائية الموضوع ولو ان لها وجهان لرسالة واحدة: الترجمة تفتح آفاقاً واسعة على عالم كبير وكذلك الصوفية تفتح عالماً يوّحد البشر حول مفهوم المحبة والعشق الالهي في علاقة عابرة للأديان والطوائف و أجناس البشر مما يجعل الصوفية لغة عالمية مفهومة من الجميع ....وقد وُفّقت في هذه التوليفة الجميلة لتنسج رسالة تدعو إلى الانفتاح على الاخر ...لأن معظم مشاكلنا هي بسبب عدم معرفة الآخر وفهمه وكم نحن بحاجة للمزيد من هذا في وقتنا الحاضر .أختم بمقولة رائعة
    : ان العلم ليس له محل خاص ولا ينسب العالِم إلى أرض خاصة بل العلم لكل البشر.والعالِم لكل البشر.
    دام قلمك عزيزي

  • أخي المحامي حسن عبادي، شكرا لأنك افتتحت مقالتك بقول لي، هذا يسعدني. مقالتك أعجبتني على الرغم من قصرها ولكنها تعرض الموضوع بشكل جيد. يعطيك العافية وكل الاحترام لك. قرأت المقطوعات المرفقة بالمقالة ولم أشعر أنها ترجمة بالعكس انتابني الشعور بأن هذه الترجمة للدكتور منير توما وكأنها الأصل. بوركتما.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى