الثلاثاء ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠

لا حدوث خلف أبواب المدينة

ماجدة داغر

من ديوان جوازا تقديره هو

قلقُ الريحِ سُكنايَ
سُكنايَ نائية
أبعدُ من حواسي
أقصى من القفز إلى شعاع،
تنأى كلّما نبتَت طريق.
لا إياب،
والذهاب أيقونة العودة.
لا حدوثَ خلف أبواب المدينة
خلف التوحّد بالجدران.
النوافذ صارت غرباناً،
الأسوَدُ أجّلَ التحليق، لأجل سلام الريح.
لا حدوثَ خلف أبواب المدينة،
لا مدينةَ خلف قلقِ الريح.
سُكنايَ نائية،
لا تسمعُ قرع الطبول
للوحيدة النائمة، في رقادٍ بلا أحلام.
يعودون من منتصف الرغبة
الشعراءُ القادمون،
تنهرُهم الريح:
عودوا بلا منازل،
سلّموا مآثركم إلى العرّافة
عَرّوا قصائدكم من المسافات.
المسافات فراشات،
وسكنايَ تحرسها الجوارح والإشارات الغريبة،
سكناي مسقوفةٌ بالقصائد الرديئة،
سكناي ضيّقةٌ كبَيت السلحفاة.
لا حدوث خلف القصائد المنهكة
لا نوم في أسفل أعمدة الملح،
لا آثام قبل النوم.
والشعراءُ القادمون
يقتاتون بقوافيهم
قبل وصول العصافير.

أغنيات بيليتيس

وهي ترحل
لا تُعرِّ كتفيَها من الّلحظة المنتشية
وحدها تعبّئ الوراء في حقيبتها
وحدها تتقن استحضار المحيط
لترميَها، فصلاً فصلاً، أغراضَ الحقيبة
ومواسمَ الشّهوة،
وحده أحمر شفتيها
يرمّم وجه البحر.

وهي ترحل،
أنشِد لكتفيَها "أغنيات بيليتيس"،
دعها تتلو الرّيح:
“آه يا حبيبي
لا أزال جميلةً في الّليل‏
وخريفي‏
أكثر دفئًا من ربيع النّساء".
يا حبيبها المفجوع بخَفر قدمَيها
وهما تعبران لازمة الجسر
تغنّيان "أناشيد مالدورور".
لا تبحث عن مائها
صار عطرًا
صار غيمةً
صار أمًّا للزّنابق.
دعها تبتعد، تنأى
دعها تصغر كالهايكو
وكسماء الملحدين.
دع الغيمة تكبر في رأسها الصّغير
وحدها تعلم أوان المطر،
وحدها تترقّب حليب الينابيع.
وهي ترحل،
بيضاءَ مغسولة بماء الطّريق،
دعها ترقص على حافة الدّائرة
لا تُدِر ظهرك ناحية الجثّة
وهي تفتح في صدرها مجرًى للنّهر.
لا تمضِ إلى حيث تسجد المرأة المصلية،
إلى حيث غوايتها
تناجي بركبتَيها السّاديَّ الأكبر.
دعها تغتسل وترحل
إلى النّهر العظيم.
أرهِف السّمع إلى حواسِّها
وهي ترحل،
تسقط منها مدينةٌ
وهي ترحل،
وحزقيال ودانيال يرتقان النّبوءة بشعرةٍ
لم تسقط من رأسها.
إرحل وهي ترحل،
لا تمدّ عنقك إلى فوّهة النّار
إلى فمها المقطوف من حديقة البركان،
إرحل ولا تنظر إلى الوراء.

مرثيّة النّزق

تحتي الّلحظة الثّابتة
تحتي موتٌ يطول.
أستلقي على المسافة القاتلة
والإحساس بالهاوية
يتسلّق الذُّروة.
أستلقي على شِعريّة النّار.
أين عصفُك،
ولك مديحُ الغربة؟
لك إيماءةٌ منكسرة
وتحتي موتٌ يطول.
تجيءُ والعدمَ المُرائي،
تهزُّ عرشَ الثّبات
ولا سقوط.
يتصاعدُ الإحساسُ بالهاوية
يعلو،
يسري في عنقي
كعطرٍ مسموم،
والغيوم...
ذهبُ الذّاكرةِ، هيَ الغيوم.
أستلقي على المسافة القاتلة
ولك النَّشيج الموزون
لك تَرَدُّد الصّدر
لك مراوغة الحنين
وبقايا البكاء الأسير.
تحتي موتٌ يطول
تحتي أحضان الغول.
لك مرثيّةُ النّزق
وغوايةُ النِّسيان
في بعض الزّمان.
لك بعضي المغلوب
في منافي المسرّة،
في انسحاق الجسد.
تحتي الّلحظةُ الثّابتةُ
وأصواتُ المطرقة
عند أوان التّشكيل،
تحتي موتٌ يطول.

بَيت

لا طريق إلى بيتي،
رسالةٌ على ورقة خريفيّة
بريدٌ مضمون.
لن تصل إلى غبار نافذتي،
تركتُه ليوم القيامة،
يتمرّى عليه الأموات قبل رؤية وجهه،
لا يليق به سوى الغبار.
طريق النّمل تقودك إلى قمح العيد
وبيتي لا غناء فيه.
طريق النّحل تؤدّي إلى المملكة
ولا تاج في بيتي.
طريق الفراشات تدلّك إلى ألوان الشّفَق
وبيتي يسكنه الغروب.
الطّريق المرصوفة بالذّكريات
لا توصلك إلاّ إلى الحداء
وبيتي أصَمٌّ قِرْميدُهُ.
لا طريق إلى بيتي
العاصفة سرقت الجهات
فصرتُ البوصلة.

أنا في عهدة النّقطة

تراءى خلف التفاتةٍ مكتومة، يسير وراء ظلٍّ أنهكه مكرُ الضوء."لا تُطِل اللعبة، أضجرني التظاهرُ بالاختباء".
قال المترائي للظلّ. والالتفاتة آبت إلى الكتمان.
"لم يحِن ضجرُك بعد.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ...؟"
تمتم الآية، والمترائي يغيب في الضوء، ويلعن الالتفاتة.
(...)
سأسكتُ في ذلك اليوم،
سأقضمُ النّصفَ المضيء، وأصيرُ المظلَّلة،
وهُما، هُم،
الظّلُّ والضّوءُ والمترائي والالتفاتة
يغادرون المرآة بقفزةٍ واحدة.
سأصغرُ كلّما تسارعتْ خطواتي
سأصيرُ بحجمِ كرَزة
سأصيرُ بعمر مرآتي.
لا تأتِ إلّا وقتَ النِّداء
أَبشِر عندما يُظلّلُك مائي.
سأصغرُ وأستديرُ كالْمِيم في المَجاز
لن تقوى على التقاطي
وأنا مستديرةٌ كَالقبْضة.
سأصغرُ بلا ثَدي أمّي،
سأصغر قبل أن يمتلئَ الجرنُ
ويحفظَ جبيني رائحةَ النّهر.
سأصغرُ حتّى تُبلِّلَني الرُّقعُ الّلزِجةُ تحت أقدام النّمل،
حتّى أَسُدَّ مَسامّات الأفعى الملتمعة.
سأصغر بلا أزرق عينَي أبي
وبلا ظلّه بِلون الموج.
تمتَم الآية ... واستدار،
أبي لا يحفظ الآية
يصنع أبي آياتٍ بيّنات:
"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". 
سأصغر بعد أكثرَ
فتسقط عنّي الأحمالُ، يسقطُ الغشاء،
ولن تقوى على التقاطي
...
أنا في عهدة النّقطة
أنا في صفر التكوين.

ذاكرة لا تأتي

اِحتمالك فاكهة الذّاكرة الآتية،
فاكهتك بوْح الأمس.
للبَوح نشوةٌ مكتنزة المحاولات. 
للبَوح عطر الصّدر حين يتأوّه.
أتأوّهك مع كلّ عطر.
أبوحك في استدعاء ملتبس... فتجيء.
دع لي القليل من الطُّيوب قبل مجيئك الملكيّ،
فقدَما القصيدة حافيتان
في انتظار طيوبك والحنّاء.
لا تغسلها، تلك القصيدة، من لهاثك،
دعها تَندى للضَوءة العطشى
ولأعشاشها المفطورة على النّور.
دعها ترقص بقدمَيها الطّريّتينعلى دهشتي
فيسيل النّبيذ.
دعني أمرّر أطراف انتظاريعلى سكينتك
فيولد الصَّخب.
أُغمض القصيدةَ، تُشرق أنتَ
أُشرق كالقصيدة... تُشرِق أنتَ
تجيء.
أطرد ظلّك، ألحقه.
أنزع عنّي ظلّك - الخمار،
يصير الكون أبعد
والصّوت... منقوعًا بالغبار.
لا ماء في الحرملك
إلى السّبايا الإيزيديّات في العراق
حولي كثير من الصّمت
حولي ضجيج كثير
سبيٌّ أنا...
مخلوقٌ من طين يتشكّل في حدْقة السّابي.

سبيٌّ أنا
أحدّق بلا وجَل
في قلبي يلتهمه السّابي.
كائنٌ موقّت أنا
أتوق إلى شتاتي في الغابة البنفسجيّة
هناك حيث رَحِمُ أمّي،
آه! يا عزلة البنفسج!
(يا بيتي على ضفاف النّقاء)
طريقي إليكَ تكنسها كلَّ مساء لِحىً غبراء،
آه! يا رَحِمَ أمّي المتّشح بالمساء الشّرّير،
لَم يحن بعد زمن الحداد
لِم كلّ هذا الّليل؟

موتٌ كثير قبل الموت المشتهى.
ما زلتُ أُعيد الانتظار
حتّى فرغتُ من المكان،
تلاشى فيّ المكان،
صرتُ الّلحظات المأهولة.
لا ماء في الحرملك أغسل به ذاكرتي الموءودة.
جفّ ماء وجهي،
ماء عينيّ لا يُطفئ الحرائق،
عطشى يا صخور سنجار.
أتشكّلُ، كلَّ غسقٍ، في حدقة السّابي،
وأصوات الطّبول تسجد لمديح الصّمت
أصوات الطّبول تشتهي انتفاخ البطون.
أقتلعُ، كلَّ غسق، ريشة،
أخبّئها تحت جلدي
جلدي المعروض بألوان ملك الطّاووس.
أختبئ في الغابة البنفسجيّة،
تلحق بي أصوات الطّبول وأهازيج السّبايا:
"يا بنتَ البنفسج المسفوك
جئناكِ بصياح الدُّيوك.
يا بنتَ سنجار الشّريد
جئناك بالذّبح والزّغاريد".
أختبئ تحت خاصرةٍ زرقاء،
أصير مستديرةً كالقمر،
أنجب أقمارًا ملتحية، وسبايا مستديرات.
يصرخ البيت في الغابة، تنبت في حديقته الأقفال.
أين أزرع صغاري؟ 
ماءٌ كثير تحت الوسادة
بين أصابعي صراخ،
وفي معصمي ندوبٌ ساديّة وموتُ انتظار.
آه يا سنجار
آه يا سنجار...

ماجدة داغر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى