الجمعة ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

لو سكت الجاهل ما اختلف الناس

قرأتُ كتاب "مواقف في أتون الصِّراع" للكاتب نمر عيسى ريحاني، من سكان كفر كنا الجليلية، الذي ولد عام 1935 وعمل في سلك التعليم 16 عامًا، لم يُرض خطه السياسي الحكومة فتربّصت له المخابرات الإسرائيلية ووجّهت له تهمة أمنية، حوكم وسُجن لمدة سنتين وتبع ذلك فُصِل من وظيفته في سلك التعليم، وصحّ قول علي بن أبي طالب "لو سكت الجاهل ما اختلف الناس"، ونمر ليس بالجاهل، وعمل في مجال الحسابات.

لم يسكت نمر، بل كتب معلقًا حول أمور تمس قضية شعبه وأصدر مقالات كتبها لتوثيق حقبة وعبر استخلصها منها وجمّعت عائلته بمناسبة عيد ميلاده الثمانين بعضًا من مقالاته في هذا الكتاب، فهو شاهدٌ على العصر – حيث كتب خواطرَه حسب رؤيته للأمور ساعةَ وقوعها، بمنظاره هوَ، دون مواربة ورياء وبنظرة ثاقبة تعبّرُ عن مواقفه الجريئة، فالرجال مواقف ونمر عزّ الرجال(كما نرى في مقالته "مسكين أنت أيها الدين" ص 227). كتبها بحرقة وألم على ما يجري حوله وعلى جرح عربيّ يدمي وقضيّة تضيع وأثبت بأنّه صاحب رؤية ورؤيا لإنسان يعي ما يدورَ حوله من مؤامرات وحبَكات تُحاك ضدّ شعبه فيصرخ عبر خواطره، فلم يكن جاهلًا ولم يسكت وحاول أن يوصل رسالته وصوته وهل من سامع أو مجيب؟!؟

يصوّرُ نمر بقلمه مشاهدات من الحوادث والقصص التي عاشها حول معاناة شعبنا ويذكّرني بتوفيق الحكيم ويوميات نائب في الأرياف ومحمد حسنين هيكل وتأمّلاته حاملا كاميرته/ألا وهي قلمَه ليصوّر مأساة واكبها بمنظاره هو.

يشخّصُ في هذه الخواطر رواية شعب ويوميّاته حيث يعرضها بأسلوب مميّز متألّم وموجوع، يتطرّقُ لأشياء صغيرة تمُرّ في حياتنا، لا نُدركُ أهميّتها وجمالها، ربّما لصغر حجمها، أو لعدم اكتراثنا بها، أو لأنّنا نضعُ نظّارةً لا ترى مثل هذه الأمور، إلاّ إذا غيّرنا عدسات نظّارتنا وبدأنا نُقرّب الصورة لنرى تفاصيل الأمور، عندها سنرى أمورًا صغيرةً تؤثّرُ فينا.

قلتُ أنّها خواطر لأن الخاطرة هي اسم لما يتحرّكَ في القلب من رأي أو معنى وتُكتَب لحظةَ حدوث شيء أو بعدَه; وهي كلمات ذات إبداع حسّي تُتَرجم فيها الأحاسيس بأسلوب لافت للنظر لما تحويه من معاني عميقة تعبّر عمّا قد يجول في خاطرنا.

أبدع نمر، قصدًا أو سهوًا، بكتابة خواطره على أصولها: بدايةً باختياره عنوانًا لكلّ منها، فللاسسم صلة بكلمات الخاطرة وعناوينها مميّزة تشدّ القارئ وتُلمّح إلى ما تحويه من كلمات (كما نرى في مقالته "آفةٌ اجتماعية هي أخطر ما يكونَ على مجتمعنا: ألمصلحة الشخصية" ص 67)، ومن ثَمّ البدايات فجاءت لافتة وأشدّ وقعاً من عنوان الخاطرة فتستهوي القارئ لمتابعة القراءة إلى النهاية.

ومن ثَمّ التعمّق في صُلب الموضوع وهو يَكمُن في إبحارنا مع الخيال فلا نقتصرُ على الواقع الذي نمرّ به لكي نصلَ إلى مزيج من الإبداع يصل بعضه بالبعض بكلمات مترابطة توحي إلى تزيين الواقع برسم الخيال (كما نرى في مقالته "إنهم عبيد" ص 113)، ومن ثَمّ التنويه إلى بداية ونهاية الخاطرة: طرح عنصر التشويق الذي يوصلنا إلى خاطرة واضحة بعيدة عن معاني الغموض ومُفعمة بالتشويق (كما نرى في مقالته "التجمع الوطني: مبادئ أو شعار" ص 43).

وأخيرا: النهاية فهناك ربط بين نهاية الخاطرة وبدايتها حتى يكون النصّ متكاملًا فإذا ابتدأنا بالتشويق نُنهيها بنفس معاني الشوق أو بما يوحي إليه حتى نلتمس تماسُك النصّ وثُبوت المعنى في ذهن قارئه بما يحملُه الكاتب من أحاسيس ومشاعر.

قراءة الكتاب كمن يُطالع موسوعة : فالتجربة عريضة والثقافة مُميّزة، والمُتابعة دقيقة، والتحليل يستندُ إلى معلومات تفصيلية تتجاوز الأخبار، والذاكرة المميّزة التي تحتفظ بشبابها... كل ذلك يحضر مع نمر فإذ هو دائرةُ معارف: يعرفُ الكثير الكثير من المرجعيّات السياسيّة، ويعرفُ عن البلاد وأحوالها، اقتصادا وثقافةً وتوجُهات، وكما يقول البدو - هو "العارفة". ذاكرته نضرة، ومعلوماته شاملة، ثم إنه متابعٌ دقيق وخزينَه المعرفيّ يُسهّل عليه تحليل الحاضر واتجاهات الريح، ما يُمكّنه من استقراء المستقبل (كما نرى في مقالته "بين حانا ومانا ستضيع لحانا" ص 132 – 05.02.2007) فكتب أن قضيّة الشعب الفلسطيني ستضيع بسبب التناحر على السلطة وفعلاً هذا الاقتتال أصبح الخطرُ الأكبر الذي يُهدّد بالقضاء نهائيًا على حُلم تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية وهذا ما أنجبَ انتفاضة السكاكين: انتفاضة أفراد سئموا هذا الاحتراب بين التنظيمات.

كتب نمر بوضوح رؤية ورؤيا، وهو ليس بجاهل، بل مضطلع على خبايا الأمور لحنكته وتجربته الحياتيّة، حول أكذوبة أوسلو في مقالاته "شارون والدولة الفلسطينية"، "محاولات شارون للالتفاف واحتواء ما يدور على الساحة السياسية من مبادرات سلام"، "سلام بالتقسيط"، المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية: أحصد هوا وغمّر ماش"، المفاوضات العبثية وما يدور على الساحة لدفن هذه القضية، و"التحايل على محمود عباس ومحاولة الهروب" وغيرها، كما وتطرق لدور أمريكا الاستعماري ومصالحها الكولونياليّة في المنطقة في مقالاته "بوش هو بوش"، "أكذوبة الارهاب – وصفة الاستعمار الجديد"، "ديمقراطية بوش الكذب على شعبه"، "الوعود الأمريكية كلها ضحك على الذقون"، و"التصدّي للبطش واجب شريطة أن لا يصب في مصلحة امريكا" ولم ينس الشؤون المحلية لأبناء شعبه في مقالاته "حفظًا لماء الوجه"، "إذا دخلت الطائفية حتى من ثقب صغير تخرج الوطنية من أوسع الأبواب"، "آفة اجتماعية هي أخطر ما يكون على مجتمعنا: المصلحة الشخصية"، "لكي لا ننزلق إلى خطر الطائفية" وغيرها وله نظرة ثاقبة ...وصائبة.

أعجبني الكتاب - الصادرِ عن دار "الشجرة" الحيفاوية وهو يحوي في طيّاتِه 248 صفحة، وقد قام بمراجعتِه لغويًّا الصحافي الأديب عودة بشارات وقامَ بتصميمِه وإنتاجِه الفنان ظافر شربجي، صاحب "مجد" للتصميم والفنون في حيفا - من أولِ نظرةٍ و من أولِ قراءةٍ و قرأتَه بشغف: لأن النظرَ إليه مريحٌ للعينِ بسبب التصميمِ الغرافي الراقي حيث أخذ كلَّ القيمِ النصيةِ (الخطوط) مهتمًّا بأوزانِ النصِّ، تقريبها وإبعادها عن العنوانِ وعن بعضِها البعض. الفراغُ بين الأسطرِ مريحُ، وتمّ الأخذُ بجميعِ المعاييرِ للخطوطِ ونقلِ المعلومةِ.

نمر لم يكن مهادنًا أو متلوّنًا في خواطره، بل كان البوصلة التي يُحتذى بها... ونعمَ البوصلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى