الأحد ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٦
نقد مسرحي
بقلم سعداء الدعاس

مؤتمر الحيوانات يشوه معالم الحياة..!

من المؤكد أن ( مؤتمر الحيوانات ) عنوان يوحي بمضمون عمل جيد مقدم للطفل ، كما يشجع الأهل في الوقت ذاته على إصطحاب أطفالهم لحضور مسرحية يبدو أنها تتناول قضية مهمة تستدعي من الحيوانات عقد مؤتمر للنظر فيها ، هذا ما يظنه قارئ إعلاناتها وهذا ما أوحت به بداية ( فكرة ) العرض الذي استمر لأكثر من ساعتين على خشبة المسرح العائم في القاهرة ، وهي مـن إعـــداد وأشعـــــــار د. يسري خميس ، وإخراج د. محمد عبد المعطي ، بقي أن نعرف كيف طرحت هذه الفكرة ؟ ومدى ملاءمتها للطفل ؟

من يتحدث.. عن ماذا ؟

طوال فترة العرض الذي إحتشد حوله جمهور من الصغار بصحبة ذويهم ، ظل الأطفال يستفسرون عما يقوله الممثلون ، متسائلين عن ماهية ما تهذي به الشخصيات ، محاولين التفاعل مع تساؤلات الممثلين لهم بإجابات جاء أغلبها- إن لم نقل جميعها- مسروق من ذويهم الذين بدوا سعداء جدًا وهم يغششونهم تلك الإجابات ، ليرددها الأطفال دون وعي منهم بفحواها حتى يحصلوا على الحلويات من (د. عبد المعطي) الذي قام بدور رئيس الجنرالات ، وراح يطرح أسئلة عديدة عليهم مثل : ما هي غاية الدول الأجنبية في السيطرة على دولنا العربية ؟ وما هي سبب قوتنا نحن الغرب ؟ وكيف سيطرنا عليكم ؟ وأسئلة أخرى غيرها .
بينما شُغل بعض الأطفال بأمور بدت لهم أكثر أهمية كالأكل ، ومخاطبة الشخصيات الثانوية المكدسة على جانبي الخشبة ، أواللعب على درجات سلم المسرح ، متنقلين بين الجمهور وبين الممثلين بعض الأحيان،والقلة المتبقية من الأطفال تابعوا المسرحية بملامح تائهة وتملل واضح .
قد يكون الوصف السابق ، أخف وطأة من الحقيقة ، فأنا شخصيًا شعرت بصداع لازمني طوال فترة العرض بدءً من نهاية الجزء الأول ، بسبب مشاهد خطابية طويلة ، ضاقت بمخرجها السبل فلم يجد أسهل من غرسها على خشبة المسرح كما هي دون أن يرهق ذاته بحلول إخراجية قد تنقذ ما هو ممكن .

نص بين علامات تنصيص !

رغم دفاع أحد الأصدقاء عن الكاتب يسري خميس ، بحجة أن النص لم يقدم بصورته الحقيقية ( هنا يحسب للمعد أمانته ، في أنه لم يدع التأليف كعادة بعض الكتاب للأسف ) ، ورغم تنصل الكاتب ذاته من بعض الأمور التي قدمت على الخشبة ( وهذا ما عبر عنه بعد إنتهاء العرض ) إلا أن ما لا شك فيه أننا شاهدنا العرض بعيوبه ، وشاهده معنا أطفال حاولوا بقدر إستطاعتهم أن يتحولوا إلى بالغين ليفكوا طلاسمه وألغازه، كما أن الجمهور لا يعرف مبررات الكاتب وهذا جزء من ضريبة يتحملها الكتـّاب عادة ، خاصة حين لا يتدخلون لإيقاف عرض مغاير عما كتبوه كما فعل المؤلف (أحمد هيكل) مثلا في عرض ( الموضوع كبير قوي ) ، مما أضاف نقطة لصالحه رغم مساهمته في تقديم عمل هوجم بشراسة على صفحات الصحف المصرية مؤخرًا.
وبعيدًا عن الأعذار ، تناولت المسرحية قضية الحروب والدمار الذي تعيشه البشرية ، من خلال مجموعة من حيوانات الغابة التي عقدت مؤتمرًا قررت فيه الوقوف على السبب الحقيقي وراء السعي الدائم للإنسان في القضاء على أخيه الإنسان والاستيلاء على ممتلكاته، وبالتالي محاولة إيجاد حل لهذه الأزمة العالمية، بمشاركة جميع أطفال العالم الذين قرروا الوقوف أمام الجشع الانساني ، مطالبين بالسلام والأمان.

بعد إستهلال غنائي استعراضي جميل أمتع الجمهور ، والأطفال خاصة حيث تفاعلوا مع الحيوانات الراقصة بحماس شديد ، يبدأ العرض (فعليًا) بتساؤل تطرحه الزرافة ( عزة لبيب ) حول معادلة حسابية عجزت عن حلها ، كتبت على لوحة في الجانب الأيسر للخشبة ، حيث تصور اللوحة كرة أرضية يتوسطها خط غرينيتش الفاصل بين نصفها(الفوقاني ) و ( التحتاني ) كما نعتتهما الزرافة ،أما الجانب الأيمن فاحتوى على شجرة كبيرة وبعض الرسومات الباهتة التي حاولت أن تعبر عن أجواء الغابة الأمر الذي لم يتداركه مصمم الإضاءة ( حازم شبل ) وهو ذاته مصمم الديكور حيث جاءت إضاءته عامة طوال العرض ، باستثناء المشهد الأخير.

وبالعودة إلى المعادلة التي دارت حولها التساؤلات (43 ÷ 40 = 1 ناقص 3 ) توضح كما شرحت الزرافة ، عدد الدول التي تحارب بعضها البعض ، فهناك 40 دولة تحارب 40 دولة أخرى ، أما الإجابة التي تبحث عنها الزرافة فهي حول دور الثلاث دول المتبقية ، وبالطبع فإنه من الصعب على الأطفال استيعاب ما ترمز له المعادلة رغم الشرح الذي كررته الزرافة كثيرًا .

ثراء لوني غطته الدماء..

بعد شرح وتكرار من الزرافة ومن ثم القرد ، يتدخل الحمار( قام بدوره حمدي العربي ) قادما من بين الجمهور باستدعاء من الحيوانات التي راحت تستنجد كذلك بالأسد ( سيد جبر ) القادم من بين الجمهور أيضا ، فتجمعت نماذج عديدة من حيوانات الغابة وملأت خشبة المسرح ، محققة بذلك الثراء الكمي والنوعي بالنسبة للطفل من سن(3- 6)من خلال استمتاعه بمشاهدة كل هذا الكم من الكائنات التي يحبها بألوانها الجميلة وأزياؤها الجيدة التي لم يشبها سوى سوء التنفيذ الواضح بالنسبة لجمهور الصفوف الأولى ، والماكياج المرافق لكل شخصية والذي كان يعبر عن الممثلين لا عن شخصياتهم التي جاءت غير متوافقة مع أقنعتهم ، أما الممثلين الصغار فلم يستطيعوا السيطرة على الأقنعة طوال العــــرض ( صمم الملابس والاقنعة : سمير شاهين ) .

وإذا أدى - تواجد كل هذا الكم على الخشبة- متعة للطفل الصغير ، فإن هذا التكدس شكل في المقابل تشويشا دراميًا شتت ذهن المتلقي من سن 7سنوات فما فوق ، الذي يريد الاستمتاع بمشاهدة الشخصيات ويصعب عليه في الوقت ذاته التركيز مع ما يقال على الخشبة ، خاصة وأن النص يحتوي على حوارات وجمل طويلة جدًا، إضافة إلى أن المجاميع كانت مشغولة بأحاديث جانبية حول ما يحدث في صالة الجمهور - كما ذكرنا سابقا- فاتضحت همساتهم لنا ( بل أنني شخصيا تابعت وباهتمام مشكلة أصغر فرد في المجاميع الذي كان متضايقا من زميل له يجلس بين الجماهير ويستفزه ببعض الحركات والجمل فراح الممثل ( الصغير ) يشتكي لزملاءه الممثلين الذين تفاعلوا معه وانصتوا باهتمام لشكواه ) كل ذلك تم على الخشبة بينما الزرافة والحمار يتجادلان حول أحقية كل منهما في إبداء رأيه الصائب بنظره .
بعد هذه النقاشات توصلـت الحيوانات في النهايــة ،إلى أن الـــدول المتبقيــة - في ظل عالم متخم بالحروب والقتل – تشتعل فيها حروب أهلية بالتأكيد ، الأمر الذي دفع المخرج إلى استغلال الحدث بتقديم مجموعة من الصور المؤلمة لأطفال مرضى وشباب يموتون ، وأخرون ينزفون وهم جرحى، ولولا فترة الإستراحة القصيرة جدا ( من أجل آذان العشاء !! ) لما استطعنا إعادة التوازن لأنفسنا ولأطفالنا بعد تلك الوجبة البشعة من الصور المؤذية .

ضمن منظومة الحرب هذه ، أصبح لزاما على الحيوانات إيجاد حل لوضع حد للبشر العطشى للحروب ، والمتهم فيها مجموعة من الجنرالات تمثل مجازًا حكام أكبر دول العالم والمسيطرة فيه .

ننتقل بعدها لمشهد الجنرالات الذي يصور الآلية التي يتعامل بها سادة العالم الأول ضد دول العالم الثالث ، خاصة قائدهم الجنرال( إكس ) الذي يشير بوضوح إلى الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بدء من الكلمات الانجليزية التي تلفظ بها ، انتهاء بالاشارات الواضحة للولايات المتحدة الأمريكية، وأما آلية التعامل فتتمثل بالنظرة المتدنية للآخر للدرجة التي ينعت فيها الجنرال هذه الدول بالتخلف والغباء بهزلية شديدة تجاوب معها الاطفال في بداية المشهد فقط ، لكن الجنرال ( إكس ) الذي أدى دوره مخرج العرض د. محمد عبد المعطي ، لم يع للأسف المدى المعقول لقابلية الطفل على التلقي ، فما من طفل يستوعب محاضرة طويلة عريضة بنفس الوتيرة من شخص واحد لا يكسرها سوى بعض الإفيهات الممجوجة من بعض الجنرالات الذين تعاملوا مع ( إكس ) كمخرج للعرض وسيده ، وليس كممثل يقوم بدور رئيس للجنرالات فقط ، حيث أتيح له المجال من قبل المحيطين به بصورة مبالغ فيها ، ذكرتنا بأفلام (عادل إمام) التي يضرب فيها جميع الشخصيات الأخرى ويهزأ منها سالبا حقها في الحوار بتمجيد مفتعل ليصبح البطل الأوحد ، وبدوره لم يتنازل ( إكس ) عن هذه البطولة فبث الملل في نفس المتلقي بطول محاضرته حول الغرب ونواياهم السيئة رغم أنه يمثل الغرب وهذا لا يتناسب مع وحدة النص التي تتحدد بملامح شخوصه العامة ، مما يشكل حالة من اللا توازن لدى المتلقي ( الطفل ) حيث وضعه ( إكس ) أمام خيارين لا ثالث لهما : إما أن ينظر لـ (جورج بوش ) وأعوانه نظرة محترمة بسبب ديمقراطيتهم وإعترافهم بأخطائهم ، أو أن يصدق بأن هؤلاء الإمبرياليون مجموعة من المجانين وبالتالي لا عتب على المجنون ( حتى أن ديننا الاسلامي رفع العتب عنه !) وكلا الخيارين مُر ، وبالتأكيد لا يرغب أي منا في أن يؤمن طفله ( بعد أن يكبر بالطبع ) بأي منهما .

شعار طفل الإنترنت العبقري!

إلتقيت بطفل مميز ( حمد إبراهيم توفيق ) وهو طالب في معهد الباليه في القاهرة ، عمل في مسرحية ( كوكب ميكي ) التي كتبها (نبيل خلف ) للطفل ، وفوجئت بوجهة نظره تجاه العرض الذي يرى أنه غير مناسب للأطفال ، وراح يذكر لي بعض المصطلحات التي راح يتشدق بها المؤلف على حساب الطفل المسكين ، مثل : الراديكالية ، الامبريالة ، كما عبر ( حمد ) عن استياءه من طول العرض الذي امتد لأكثر من ساعتين ونصف ، بل أنه علق قائلا : الكبار من الجمهور لم يستوعبوا العرض بمصطلحاته ، فما بال الأطفال ؟

أتذكر هذه المحادثة القصيرة ، وأنا أستعرض مسرحية (مؤتمر الحيوانات ) التي – على ما يبدو- تورطت فيما قدمت ، فبسبب عدم ملاءمة الموضوع للطفل أساسا ، إضطر( إكس ) في كثير من الأحيان إلى إعادة الجمل بتكرار بدا غير مبررا مسرحيا ، كما أن التعامل مع الطفل على أنه لن يستوعب الموضوع ، وهو السبب الوحيد لتكرار الجمل أكثر من مرة بإضافة أمثلة إيضاحية عديدة ( كأننا في مدرسة )، لا يتناسب مع كاتب ومخرج بدا انهما مؤمنان بما يطرحانه وملاءمته للطفل ، وهذا بالتالي يجرنا لتساؤل مهم حول أسباب التأرجح الذي يعاني منه بعض العاملين في مجال مسرح الطفل تحديدا، كونهم يصرون من جانب على تقديم وجبة دسمة ومعقدة للمتلقي دون مراعاة لفئته العمرية ، تحقيقا لشعارات المطالبة بالتعامل مع طفل الإنترنت العبقري ، ليجدوا أنفسهم من جانب آخر ، مجبرين على التوضيح بأساليب مدرسية مستهلكة لن توصل المعنى من مرة واحدة .
وتأكيدًا لاحساس المخرج بالورطة نظرا للفتور الذي قوبل به الجزء الثاني من مشهد الجنرالات ، اضطر فريق العمل إلى الاستخفاف بالموضوع علهم يصلون لنتيجة ، فجاء الحل استثنائيا لا يد للمعد فيه بالتأكيد ، بل واضح أنه من صنع المخرج وممثليه ، حيث عمل على تحويل الجنرالات إلى مهرجين ، الأمر الذي جعلنا نتساءل : هل يا ترى أن من يسيطر على العالم مجرد مهرجون ؟ وإن كانوا كذلك فما تصنيفنا نحن أبناء الدول النامية ؟ أو بالأحرى ما تصنيفنا نحن خاصة وأننا لا نشكل أكثر من دمى بيد هؤلاء المهرجين؟!

فكرة جيدة دمرها حلٌ ..!

ينتقل المشهد بعدها للغابة التي إجتمع فيها الحيوانات ليتناقشوا في أمر المؤتمر الذي يعقده الجنرالات على الجانب الآخر ، لتقرير مصير الشعوب من خلال إيجـاد فـرص أخـرى لمزيد مـن الحـروب في العـالم ، في حين يحــــاول مــؤتمـر ( الحيوانات ) إيجاد كوة صغيرة ليطل منها على عالم مسالم وآمن ، يسعد الانسان قبل اي كائن آخر .
لكن الحل ظل مستترا إلى آخر المسرحية محققـًا – نوعًا ما – شيئا من التشويق - خاصة وأن الجمهور يأمل حقيقة في معرفة الحل الذي عجز عن إيجاده كل فلاسفة العالم ومبدعيه – وقد تمثل الحل في إتحاد أطفال العالم بمن فيهم أبناء الجنرالات ، بعد هروبهم من ذويهم ، واشتراطهم مقابل العودة إليهم أن يتم وقف الحروب والدمار ، واتخاذ السلام والأمان شعارا لهم، فيضطر عندها الجنرال(إكس) للخضوع لمطالب الأطفال خاصة وأن ابنه الوحيد( جورج ) من بينهم .
بهذه الحيلة ( العجيبة ) التي دبرها الحيوانات في مؤتمرهم ، يعود السلام لعالمنا الجميل،وتختتم المسرحية مشاهدها بأغنية جميلة ومؤثرة .

وهنا نتساءل : هل بالفعل من الممكن أن تحل مشاكلنا بهذه السهولة ؟ على ما يبدو أن كتابنا من الشفافية بحيث يروا عكس ما يفرضه الواقع ، والمنطق أحيانا، فالحل الذي إرتآه ( يسري خميس ) لمسرحيته ، شبيه بالحل الذي وجده المؤلف ( يوسف معاطي ) مناسبا لمسلسله الكارثي (أدهم وزينات والسبع بنات)، فهذا الأخير رآى أنه لا سبيل لإعادة المياه إلى مجاريها بين الأم ( زينات ) والأب ( أدهم ) سوى بهروب بناتهم الثلاث .

وبهذا يجدر بنا – نحن أولياء الأمور – أن نتأكد من أن الباب مقفل بشكل جيد ، قبل خلودنا للنوم ، وإذا لزم الأمر يفضل إضافة جهاز التتبع الخاص بالمجرمين المحكومين بالإقامة الجبرية! قبل أن نفاجأ بأن أطفالنا قرروا الهرب لحل قضايانا التي عجزت عن حلها حكوماتنا العربية !
أما ما قد يتعلمه الطفل من هذا العرض فمن الممكن تلخيصه بجملة واحدة : إن صادفتك مشكلة يا صغيري ، فقط إهرب ، وعندها ستجد الحل ماثلا أمامك ، ولن تخسر شيئا خاصة وأن عودتك لذويك مضمونة بالنهاية ( نلاحظ هنا أن الغابة كانت ملاذا للأطفال في العرض ، وبالتالي فإن أطفالنا لن يعجزوا عن إيجاد المكان الآمن للاختباء مع الوحوش الطيبة التي رقصت على خشبة المسرح ! ) .

أطفال يموتون وآخرون يتفرجون...

لعل من أخطر الأمور التي يواجهها الصغار جراء ممارسات بعض الكتاب (الكبار) ، هي تلك الأزمة التي يتسبب بها الكاتب للطفل ، عندما يقدم له قضية لا يملك هو دورا فيها أو في تغييرها ، فحين أعرض على الطفل صورًا لأطفال أبرياء وهم يقتلون في كل مكان ما الذي أنتظره منه ، هل مجرد المشاركة الصورية التي تؤدي للألم النفسي فقط ، أم أنني أنتظر منه حلا كذلك الحل ( الساذج ) ؟؟!!
لعلني أتذكر في هذا الصدد مسرحية الاطفال الكويتية ( قانون الارض ) تأليف وإخراج ( عواطف البدر ) التي قدمت محاكمة للظالم (صدام حسين) من قبل الأطفال ، بعد أن بثت المسرحية مشهدًا مؤلما لطفلة تموت ، وأخرى تغتصب ، والعمل يقدم حلا متخيلا دون أن يعرف الطفل واجبه تجاه ما يشاهد .
تحتوي الفكرتين ( إقامة الحيوانات لمؤتمر يناقشون فيه مصائب البشر / محاكمة الطاغية صدام حسين من قبل أطفال الكويت ) على جدة في الطرح ، كما نلمس فيهما مفارقة ذكية تتمثل في استخدام ( الحيوان بدلا عن الانسان ) في عمل خميس و ( الطفل بدلا عن البالغ ) في عمل البدر ، لكن – للأسف – لم يتم استغلال هاتين الفكرتين بصورة منطقية أولا ( احتراما لعقلية الطفل ) وتربوية نفسية ثانيا ، مع عدم تجاهل أهمية السياق الفكري للطفل الذي كثيرا ما يتم التعامل معه على أنه كبير وبالغ من مبدأ ( طفل هذا الزمان يختلف عن أطفال الماضي ) ، وهو مبدأ يستخدمه أولياء الأمور الذين يريدون التنصل عن واجبهم تجاه أبنائهم فيبررون بذلك دفعهم أطفالهم للعمل الشاق أو تحميلهم جملا وأفكارا لا تتناسب وسنهم الصغيرة التي راعاها الدين والعلم على حد سواء .

إن للطفل حدودًا في المشاركة نعرفها نحن ( الكبار ) قبل أن يعيها هو ، وبالتالي فلابد أن تطرح القضايا من خلال وعي كامل بتلك الحدود ، حتى لا يشعر بالعجز حيال ما يرى ، خاصة حين نعرض عليه مأساة لا نهاية لها ، ويعلم علم اليقين أنها مستمرة ، وهو أمر ينبذه بعض علماء (علم نفس الطفل) الذين يعون مقدار الألم الذي قد يتسبب فيه عرض مأساوي لقضية مفتوحة ، حيث يؤكدون على أهمية أن ينام الطفل وهو يعلم أن المشكلة قد انتهت ، أو أنها على وشك الانتهاء نسبيا على الأقل.
وفي هذا الصدد ، أستشهد بمسرحية عرضت على خشبة مسرح العرائس في القاهرة،في نفس الفترة التي قدمت فيها ( مؤتمر الحيوانات ) ، وهي مسرحية ( عروستي ) من تأليف محمد بهجت ، وإخراج محمد نور ( بعيدا عن أنها تشبه في حكايتها إلى حد كبير مسرحية الأطفال الكويتية ( الدمية المفقودة ) من تأليف د. فائق الحكيم وإخراج خليفة خليفوه ، والتي قدمت في عام 1981 ) فبالاضافة لتميز ديكوراتها المبهرة والتي لا مجال لمقارنتها بديكورات ( مؤتمر الحيوانات ) فإنها عرضت قضية الطبقية بصورة ملائمة لفهم الطفل ، من خلال مشكلة تقع بين فتاتين متفاوتتين في المستوى الاجتماعي ، جراء حصول الفتاة الفقيرة على لعبة استغنت عنها الفتاة الغنية ، لكنها قررت فجأة استعادتها بعد أن تغير مظهرها للأحسن بسبب الاعتناء والاهتمام.

مثل هذه القضية قد تؤرق الطفل لوأن المؤلف أبقى الوضع معلقا ، لكنه وبعد العديد من الأحداث وصل لنهاية سعيدة أرضت جميع الأطراف وجعلت الأطفال سعداء بانتصار الحق ، ورجوع المخطئ لصوابه، حتى وإن لم يكن هو الواقع ، فما هو كائن ليس بالضرورة أمر مقبول وبالتالي ليس بالضرورة أيضا أن نعلمه لأبناءنا ، وإلا لكان الأجدى بنا تعليمهم العادات السيئة التي يمارسها غالبية أطفالنا ، بدء من هجر عادة القراءة والاستعاضة عنها بالادمان على ممارسة الالعاب الالكترونية ، إنتهاء باستخدام الموبايل رغم ضرره وعدم الحاجة إليه ، مرورا بالعادات الغذائية السيئة وخلافه .
ورغم أن مسرحية ( عروستي ) قدمت حكاية بسيطة، إلا أنها حملت مضمونـًا جيدًا – رغم بعض الاستثناءات - حول كثير من القيم التي نستطيع أن نحمّـلها معاني عديدة متعلقة بقضايانا الوطنية الكبرى إن أردنا ، لأن المسرح يقدم نماذج فقط لأمور أكبر وهموم أعم ، فعلى سبيل المثال ، حين نعلم الطفل كيفية الحفاظ على بيته مثلا ، نحن بذلك نخطو نحو تعليمه قيمة الحفاظ على وطنه بالتأكيد ، ودون الحاجة لقول ذلك صراحة .

عذر مقبول ..ولكن !

قد نقبل من المؤلف عذرًا واحدا فقط لمواجهة بعض مساوئ هذا العمل ، وهو أنه مقدم للأطفال من سن ( 12- 15 سنة ) ، حيث أنه من الممكن عرض المآسي التي يعيشها بعض الأطفال لهذه السن ، لكن الجمهور الذي شاهدته عند حضوري للعرض ضم كل الأعمار ، بل أن الأطفال أقل من سن 12 سنة ، شكلوا الغالبية العظمى ، وهنا لا لوم على أولياء الأمور في ظل إعلان تجاهل هذه المعلومة المهمة ، رغم أننا نتعامل مع المسرح القومي للطفل التابع للبيت الفني الذي ترعاه الدولة ، وليس مسرح تجاري أراد منتجه استغلال جيوب أكبر عدد من الجماهير .

كما أن مشاركة بعض الممثلين في اصطحاب أطفالهم(الصغار جدا ) لحضور مثل هذا العرض ، يشكل مفارقة كبيرة تجعلنا لا نستطيــع الأخـــــذ بحجـــة ( الفئة العمرية ) التي يبدو أنه لم يصـّرح بها إلا على النص المكتوب فقط.

أخيرا ، كان من الممكن تجاوز بعض علات هذا العرض لو أن المخرج اختصر الكثير من تلك الحوارات التي لم تضف شيئا لصلب الموضوع ، والتي أعتقد أنها من ابتكاره هو كون أغلبها جاء على لسانه باعتباره الممثل الأول فيه ، ولو أنه استعاض عن بعضها بالأغاني الجيدة التي كتبت بشفافية جميلة وصاحبتها ألحان غير مستهلكة لامست الأطفال برتمها وبموسيقاها الطفولية ( أشعار: د. يسري خميس / الحان: إيمان صلاح الدين ) التي تخللت العرض لكانت أكثر وقعًا في نفس المتلقي الذي أنصت لها باعجاب ، إضافة إلى عنصر التمثيل الذي بدا واضحا عدم الاهتمام به ، رغم أن المخرج أحد أساتذة قسم الاخراج الدرامي في المعهد العالي للفنون المسرحية ، حيث زاد استهتار الممثلين وخمولهم في هبوط إيقاع العمل ككل ، الأمر الذي قد يحيله المخرج لكون الممثلين موظفين في مسرح الدولة وبالتالي يؤدون أدوارهم كعمل وظيفي لا أكثر ( كما أشار في حديث له مع مجلة الشموع التي توصلت كاتبتها إلى أن هذا العمل عظيم ومميز جدًا !!) . وكما أشرنا فإن مشاهد القتل لا أهمية لها على الاطلاق ، حيث كان من الممكن الاستعاضة عنها- إذا أصر المؤلف - بجملة عن الأطفال الذين يعذبون في الكثير من دولنا العربية ، كون أن نقل المعلومة يؤدي الغرض من استيعابها ووعيها دون الألم أو المعاناة التي قد يسببها عرضها بالمشاهد المصورة . وبهذه التغييرات الجذرية ، من الممكن الخروج بعمل جيد حتى وإن اختلفنا مع مضمونه الذي يصر على زج الطفل في عالم الدمار بحجة أنه يعيشه أصلا ، دون مراعاة لسنه الصغيرة ، وأحلامه الوردية التي يصر البعض على تلطيخها بالدماء . بينما تراعي الدول المتقدمة أهمية أن يحافظ هذا الطفل على عالمه الجميل دون الانعزال عن الواقع المعاش ، حيث أننا ككبار نستطيع أن نستمر في حياتنا بمتطلباتها وإن كنا في حالة حزن قسري ، في حين تتجمد حياة هذا الطفل بمعطياتها الصغيرة ، حين يتعرض لمشهد كتلك المشاهد التي عرضها ( مؤتمر الحيوانات ) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى