الجمعة ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

محمد شكري سيرة أصدقاء... وجسدٌ للكتابة

لم تكن طنجة تلك المدينة، التي أسرت محمد شكري بشموس لا تعرف الأفول أو بشوارعَ لا تكاد تنام أو بفضاءات تحبس الأنفاس فحسب، بل استطاعت أن تجعل منه الأسطورة التي خلدته في الأدب العالمي. يموت شكري و يحى شكري في قلب الأدب وبين جوى وجوانح الأصدقاء، وما خلفوه من رسائلَ بدم الورد و الرماد و الجنون.

إن جنون طنجة من جنون محمد شكري ؛ المدينة التي كانت مهبط الأرزاء مهبط وحي الكتابة. ثلاثيته العالمية في السيرة الذاتية و ما شابهها ؛"الخبز الحافي"و"زمن الأخطاء"و"وجوه"، فلم يسدل الستار بعدُ عن رُكح طنجة، وعن رياحها العاتية معبد للأخطاء و الخطائين و التائبين و التوابين. لم يجعل شكري المدينة بطلة في أعماله، إلا بعدما عاش في بطنها وفي سُجوف ليلها، لما يزيد عن عشرين سنة متوالية. فالسيرة الذاتية للمدينة هي سيرة محمد شكري في مدها و جزرها، في رياحها التي تعوي بين دروب وأزقة و مقاه كان يعشقها. يقول"أنا كاتب طنجاوي"؛"أنا كاتب عالمي"؛ أو عندما يزنَّر بحبال حواراته المرحة مع أصدقاء فيقول:"إن لكل طنجته".

من سور المعكازين ـ أي الكسالى ـ إلى شارع باستور أو من فندق الموحدين إلى مقهى السنطرال، ألف حكاية و حكاية مع أدب تفتق برعمه، واشتد عوده في غفلة عن الأدب والأدباء. باستثناء الكاتب الأنيق محمد الصباغ الذي حمَّله المشعل في مقهى الكونتيننتال بتطوان، لولاه لما كان شكري ما هو عليه اليوم، ولولاه لأصبح أدب المهمشين والمنبوذين و التعساء و البؤساء و المارقين في خطر أو على حوافي لعبة النسيان.

بعيدا عن البلور الذي يلمع سناه كالكريستال، قريبا من شفافية محمد شكري تبرز الفردانية في ثوبها الجديد، في أناقة بحجم القبح والازدراء. ها هو محمد شكري ينام قرير العين على رصيف من أرصفة الطرانكات بمدينة تطوان، حيث يعمل الصبيُّ نهارا في السُّخرة لزبناء إسبان، بينما الليل خصصه للنوم قرب جدار، يُغدق عليه ببعض الدفء والتحنان. سور له باب باطنه فرن، و ظاهره من قَـِبَله جسد صبي مكوم كحفنة أديم. سيرة صبي زنيم، ليست كالسيرة التي أخرجها فليب لوجون أو سيلين أو جاك بوريل أو حتى صاحب الوجوه البغدادية غالب هلسا. هي معاناة تأكل وتتغذى وتنمو من الذات نفسها كالفطر؛ لتعود إليها من جديد. ذات متصرّمة في ماض بئيس، مندغمة و محبورة بعقلية الكبار وتوجساتهم، تتنفس هواءهم وتتشرَّب غدير مياههم.

ألف و تسع مئة و اثنان و سبعون السنة التي انفتحت على ما غلق و استغلق، جاءت السيرة الذاتية لمحمد شكري"الخبز الحافي"على إيقاع المنع و المطاردة ؛ فظلت حبيسة رفوف مهملة نسجت عليها عناكبُ شِعاعها. في الوقت الذي قرأها العالم بكل لغاته، وتغنى بهذه التجربة الفريدة، حملها محمد برادة مخطوطة إلى دار الآداب بيروت لتأخذ طريقها الطبيعي في النشر، وتطل على العالم العربي من عاصمة الثقافة و الفن، إلا أن الجرأة التي حبَّر بها الكاتب هذه السيرة، كانت السبب المباشر في عدم قبول هذا الطلب.

وفي تلك الآصرة، ظل محمد شكري، في عيون محمد برادة، سنجابا لا يشبه سنجابا آخر. بل وضعه في الخانة، التي يحتلها الكاتب خوان غويتيسولو، نزيل مراكش الحمراء، من الأدب الإسباني. على اعتبار أنهما غير قابلا ـ أي شكري و غويتيسولو ـ للتصنيف والتبويب والتفييء. فكلاهما ينظران إلى الواقع بعيون مائية و حاسرة. من الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي دك برشلونة دكا، إلى مجاعة الريف ؛ دوائر الموت و الرغبة الجامحة والحرونة تحدق بالنظيرين. فما كانت غواية الكتابة و جرفها الهاري إلا سبيلا نحو تكسير طوق الخوف و الأوهام نحو معانقة هذه الحرية، التي يشيّدها الإبداع على حواف وظلال من البنفسج.

إن صداقة محمد شكري كالطربيد العابر، الذي يمخرُ اليعابيب. علاوة على أن لها جوارا منشآت في البحر كالطود العظيم، تجمع العظماء و سيرهم في تاريخ الأدب العالمي ؛ من الكاتب الأمريكي بول بوولز إلى الإيطالي ألبيرتو مورافيا و من الفرنسي جان جنيه دفين مدينة العرائش إلى أدونيس، ومن خوان غويتيسولو إلى الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، ومن تينسي وليامز إلى الكاتب الشفهي محمد المرابط. علاقات وغيرها لا يؤطرها زمان و لا مكان، تسبح في عالم الشهرة مع نجوم رصّعوا مشهد الأدب العالمي، وأثثوه بمواقفَ تنتصر للروح الانسانيَّة، وتسْحَل العبودية حتى الموت. لم تكن لهذه العلاقات حدود عند محمد شكري، إنها غير منضبطة لأصول و مبادئَ، تعيش فوضى الحواس ؛ فوضى تقتص من الذات المبدعة، بل تؤرقها إلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود. و ذلك عبر السفر المعرفي في نصوص أرخت للأدب ومناهجه، تغوص في وجع النقد اللاذع تجاه الذات و تجاه الآخر.

محمد شكري قارئ مميز لنصوص المسخ الكافكاوية و لجمس جويس و لبروست أيضا، وحسب عبد الرفيع الجواهري، يُعتبر منطادا يحلق حول التنظيرات الحديثة للعلوم الانسانية ؛ لكل من نتالي ساروت و رولان بارت و لوسيان كولدمان، بيد أن ما يجمعه مع بول بوولز شيئا آخرَ ؛ تجربة حياة و عيش و كتابة. يقول محمد شكري في كتابه"بول بوولز و عزلة طنجة": عاش بول بوولز طفولته وسط الكبار، وليس في حضن الكبار، لأنه لم يتمتع بأي دفء في أسرته ؛ إذ حياته قننت و روقبت، وعوقبت إلى حد الإرهاب والجنون، ولم يتسامح معه أبوه إلا في ظروف نادرة". فمكمَن التلاقي و التلاحم والتواشج بينهما غير مرتبط بسيرورة خببية الأفول، وإنما هي نقط مشتركة يصعب تجاوزها أو فك شفراتها، لا في الزمن الراهن و لا في المستقبل و لا حتى بعد الرحيل. بول بوولز عاش في طنجة آتيا إليها من مدينة "نيس"الفرنسية، معرِّجا خلال سفره على مدينة وهران وعلى جبال الريف السَّامقة، شديدة الانحدار. وحسب إبراهيم الخطيب، في كتابه"بول بوولز التخييل والمثاقفة"، كان لزاما على بوولز أن يمرَّ على مدينة تطوان، قبل أن يشدَّ الرحال إلى طنجة. من هذا المنظور، أصبح المسار، الذي سلكه الكاتب الأمريكي في رحلته إلى المغرب سنة ألف و تسع مئة و واحد و ثلاثين، يتقاسم جزء كبير منه مع شكري. فضلا عن حياة تشوه"الأنا"و انعزاليتها في مرآة العالم منذ الطفولة عند كل من الكاتبين العالميين.

لقد جاءت هذه العلاقات، التي ربطها شكري مع الكتاب العالميين، كي تضيء غواية الكتابة و النقد لديه. من منطلق تعريته للذات ؛ بأحلامها و موروثاتها الثقافية و انحداراتها، وتشوهاتها في مواجهة واقع حرون. ولئن كانت الترجمة، التي استفاد من عائداتها محمد شكري، و درت عليه ببعض الأرباح، فإنه يظل مشدودا بأغلال و حبال إلى حياة المهمشين و المشوهين في المجتمع. بالموازاة، فهو يقتفي أثرهم و يلاحق عريشهم في أفضية متعددة يتردد عليها، إيمانا منه أنه لا صوت لهم سوى صوت الأدب. فمجنون الورد، عنوان مجموعته القصصية، جاء ـ أي العنوان ـ بفعل جنوني حقيقي صدر عن محمد شكري في إحدى حانات مدينة طنجة. ولكي يخلص بائعة الورد، وهي فتاة جميلة، من الورد نفسه، أقدم شكري على أكله بنهم جنوني.
كانت لهذه العلاقات، التي نسجها محمد شكري، صدى في الأدب المغربي. من زاوية حضوره المتميز و الفعلي عبر أدب الرسائل، التي كان يتقاسمها و الأصدقاءَ. ومنه فهو يُعتبر فصيلا أدبيا، يغني المشهد الثقافي المغربي. إن الكتابة، بهذا الحجم، تنصت لهفيف روح وسط بَوح هذه الرسائل، بيْد أنها تصبح وثيقة تاريخية لمرحلة من مراحل هذه الصداقة. فتأتي اليوميات موشحة بمغامرات مزاجية، ولعل في ذلك ما يكشف عن رتابة حياة يومية عاشها المتراسلون.
ف"ورد و رماد"رسائلُ وضبها المحمدان ؛ شكري وبرادة. ولقد امتد هذا التراسل بينهما زهاء عَقدين من الزمن، يقول محمد برادة في تقديمه لهذا الكتاب:"وأظن أن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة و التفكير بصوت مرتفع...". فالذي كان يشعر به محمد شكري في"ورد ورماد"، وهو يخط رسائله، و بالضبط من مستشفى الأمراض العقلية ؛ مايوركا بحي درسة بتطوان، هو الاحساس بالخواء القاتل المميت، رغم خروجه بين الفينة والأخرى دون رقابة إلى مقهى نيبون، التي سبق أن اشتغل بها، وهو لازال في ربيعه الثاني عشر. غير أن الرسائل التي كان يبعث بها إلى محمد عز الدين التازي، وقد أشار إليها هذا الأخير في كتابه"محمد شكري غواية العيش و الكتابة"، والذي جَنـَّسه ب: مذكرات، كانت عبارة عن حكي مستفيض عن مغامراته العاطفية، و خصوماته مع نفسه و مع الآخرين.

يبدو، في ضوء ما قدمناه، أن لمحمد شكري رغبة جنونية في الموت و الحياة معا. ألف بين هذين المتناقضين من خلال مغامراته في الكتابة و في الجسد المفهومي حسب عبد الكبير الخطيبي. فهذا الجسد بؤرة للتيه و الغواية، تتبرأ منه الحياة، كما تبرأ منه الموت ؛ ليظل هذا الأخير جريمة ترتكب في حق هذا الجسد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى