الثلاثاء ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

مستشرقةٌ...و «مستغربْ»

كنتُ غريباً.. ومغترباً.. ومستغربَ الهوى والطموح!

وكانت اسبانية المولدْ.. شرقية الملامح.. ومستشرقة الهوى والجنوح!

كانت نظراتي المسمّرة عليها واهتمامي بها.. كافيين لأن يلجَ سهمي إلى قلبها... فيصيبُ منها مقتلاً.

أعجبها فيّ افتتاني الأخرس (كوني لم أتقن لغتها بعد).. وحبّيَ العذريّ.. والتزامي بها وحدها.

أخذتني إلى حدائق غرناطة... وهناك تبرقعت بشالٍ مزركشٍ تحمله في حقيبتها... قالت:

 أنا جاريةٌ قشتالية.. وأنتَ أميرٌ عربيّ... اخطفني على جوادك الأصيل.. وخذني إلى قصركَ المنيف..وعند ذلك العمود المزخرف بالنقوش والكتابات العربية.. حاصرْني... مزّق إزاري.. قبّلني.. اغمرني بعباءتك المعجونة بشمس الصحراء.. ثمّ قلْ بي شعراً من الموشّحات الأندلسية.. وأضافتْ:

 ماذا كُتبَ فوق ذاك العمود؟

قلت:

 لا غالبَ إلا الله.

ردّدت العبارة بلكنتها الاسبانية.. وكررتها مراراً في طريق العودة إلى بيتي في ناحية (موستولِس) جنوبي مدريد.

شربَتْ هناك قهوتي العربية استعذاباً... وشربتُ من خمرتها الأعجمية استلذاذاً.

رقصَتْ على موسيقى أمّ كلثوم.. (أنتَ عمري)..وقالت:

 (إنتا أومري).. جميلةٌ مخارج الحروف التي تنبعث من فمها الأعجميّ.

بعد أيام... قالت:

 يعجبني فيكَ جبينك العابس المقطّب دونما سبب.. وحاجبيك الكثيفين اللذين التصقا فوق عيونك الحزينة... ابتسامتك صفراء يا هذا..وضحكتك تخبو كلما شاهدتَ القنوات الفضائية العربية.!

في خضمّ بحثها عن سبب حزني.. قرأتْ الكثير عن بلدي.. فتعاطفتْ.. وشاهدت صور أهلي.. واستهجنت قلة تواصلي معهم.

قالت:

 هل تريد أن نرسل إلى أهلك بعض الدراهم؟

قلت:

 لا.. (فاليورو) الأوربي.. يصبح (عورو).. عربيا.ً

لم تفهم ماذا أقصد.. لكنها أصرّت على استشراقها... وأغرقتُ أنا في اغترابي.

تعاطفتْ مع المحاصرينَ في غزّة... وتعاطفتُ أنا مع القرد (ميمون) المحاصر في حديقة الحيوان.

بعد أشهرٍ من حياتنا المشتركة.. وبعد أن أوغلت في استشراقها... سألتني متى يأتي رمضان؟.. وتساءلتْ:

 لماذا لم تصمْ يوماً؟.. دعني أرى صلاتكَ وسجودكَ الخاشع ْ.

أدرتُ ظهري لها... عندما ردّدت بلهجةٍ قريبةٍ من العربية:

 لا غالب َ إلا الله

تركتني فجأةً.. ولم تمضِ سنة على إقامتها في منزلي..وعندما سألوها (لماذا) قالت ساخرةً:

 لأنه خجول ْ..

أجابوا:

 ذلك أمرٌ عادي ّ لأيّ عربي في المهجرْ.

لكنّها أماطتْ اللثام عن الجُرح وفسّرت قولها ضاحكة:

 لا... عروبته خجلة..ووطنيته ناقصة..وانتماؤه ذليل ْ... لا يعجبني رجلٌ ناقص الاعتزاز بتاريخه استنقاصاً... ومنكرٌ لأهله استنكاراً... وكافرٌ بدينه استكفاراً..وكارهٌ للغته استكراهاُ... وفاقدٌ لشخصيته استفقاداً... ومغتربٌ عن الوطن.. ليس اغتراباً وإنما... استغراباً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى