الجمعة ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم صبحي غندور

مشكلة أولويات !

هناك مثال عالمي شائع على ألسنة معظم شعوب الأرض، وفيه تلخيص لمخاطر عدم الترتيب الصحيح للأولويات، وهو مثال (وضع العربة أمام الحصان)، حيث تكون العناصر اللازمة للتقدم إلى الأمام متوفّرة، وهي هنا (العربة والحصان)، لكن تقع مشكلة لا محال حينما يخطئ الإنسان (الذي هو هنا صانع العربة ومروّض الحصان) في ترتيبه لأولويات هذه العناصر، ممّا يعطّل حُسن استخدامها ويجعل منها مشكلة إضافية عوضاً من أن تكون حلاً.

قضايا عربية بارزة الآن ينطبق عليها هذا المثال، لكن المتحكّم في ترتيب الأولويات هو إرادة خارجية، والمعنيّون العرب في هذه القضايا هم ركّاب جالسون في "العربة" ينتظرون "حكمة" وفعل السائس الخارجي!

فعلى الصعيد الفلسطيني، هناك أولويّة أميركية/إسرائيلية مسنودة من بعض دول الغرب، تريد من الحكومة الفلسطينية الجديدة التي انبثقت عن انتخابات ديمقراطية في الأرضي المحتلة، أن تعترف أولاً بإسرائيل وأن تعلن التزامها بوقف المقاومة المسلّحة ضدَّ الاحتلال، مقابل الاعتراف الدولي بها وبشرعيتها القانونية في تمثيل الفلسطينيين، ومن ثمّ التفاوض معها وتقديم المساعدات الدولية من خلالها.

إنّها أولويّة أميركية/إسرائيلية تقلب الحقائق وتؤدّي عملياً إلى مزيد من التصعيد والجمود في الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، وإلى مضاعفة حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون بالأراضي المحتلّة، وبالتالي إلى تصاعد أعمال العنف المسلّح من المعتدي الإسرائيلي ومن الضحيّة الفلسطينية.

إنّ انطلاق "العربة" على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي يتطلّب من أميركا ومن العالم أجمع الضغط على إسرائيل للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، ومن ضمنها حقّه بدولة فلسطينية مستقلّة على كامل الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية، وليس الضغط على الفلسطينيين للاعتراف بدولة إسرائيل التي لم تعلن بعد حدودها الرسمية!

أيضاً، إنّ الأولويّة السليمة هي مطالبة إسرائيل بوقف كافّة أشكال العنف المسلّح ضدَّ الفلسطينيين، وليست مطالبة الضحيّة بالامتناع عن الدفاع عن النفس!

لكن مشكلة الأولويّات هي ليست لدى السائس الأميركي فقط، بل هي أيضاً لدى الأطراف الفلسطينية المشاركة بالسلطة الفلسطينية في وجهيها الرئاسي والحكومي، حيث الصراع على الحكم يأخذ أبعاداً خطيرة تطال من وحدة وأمن الشعب الفلسطيني، وتجعل الإنسان الفلسطيني والعربي وعموم العالم مشدوداً لهذه الصراعات الداخلية لا لما يحدث من ظلم وحصار وعدوان على الشعب الفلسطيني.

فقد تناقلت وسائل الإعلام العالمية بشكل جيّد خبر مجزرة الضحايا المدنيين على شاطئ غزّة، لكن سرعان ما تراجع الاهتمام بهذا الموضوع وعادت الصراعات الفلسطينية الداخلية إلى سطح الأولويّات.

الأمر نفسه حدث أيضاً مع "مجزرة حديثة" التي ارتكبها في العراق مجموعة من الجنود الأميركيين، حيث اهتمّت وسائل الإعلام الأميركية بهذه الأنباء وبتفاعلاتها السياسية داخل الولايات المتحدة، لكن الأولويّة سرعان ما عادت أيضاً إلى عنف الصراع الداخلي العراقي وما ينتج عنه يومياً من عشرات القتلى والجرحى.

أولويّة الشعب العراقي، كما الشعب الفلسطيني، هي وحدته وأمنه واستقراره وقضاياه المعيشية، بينما أولويّات الأطراف المتصارعة هي المصالح والرؤى الخاصّة، مما يخدم عن قصد أو بغير قصد، مصالح وأولويّات السائس الخارجي للقضيتين الفلسطينية والعراقية.

هي أيضاً مشكلة أولويات أميركية حينما تضغط واشنطن على الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل حدوث تسوية شاملة للصراع العربي معها وتحقيق حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية.

كذلك هي مشكلة أولويات أميركية حينما تسعى واشنطن مع أطراف لبنانية لنزع سلاح المقاومة قبل تحقيق التسوية الشاملة على الجبهتين السورية واللبنانية وتحرير الأراضي المحتلة.

وهكذا، هي المنطقة العربية في فوضى هائلة من أولويات خارجية ومن انعدام الأولويات السليمة للأطراف العربية.

إنّ تنوّع القضايا العربية الآن يفرض حتماً اختلافاً وتنوّعاً في الأولويّات الوطنية، لكن مهما اختلفت القضايا فإنّ أولويّة الوحدة الوطنية داخل كل بلد عربي تبقى هي الأساس والمدخل السليم للتعامل مع كلّ القضايا والتحدّيات.

فالوحدة الوطنية الشعبية هي التي تصنع القاعدة الصلبة للتحرير والتغيير، لحرّية الوطن ولحريّة المواطن، للتطوّر الاقتصادي والإنماء الاجتماعي، وهذه الوحدة هي المستهدَفة الآن في أولويّات الهيمنة الخارجية ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى