

مع الحنين إلى الوطن
حفظنا وأعجبنا بأبيات القصيدة الفائية البَحْدلية التي تظهر الحنين إلى الوطن، وتفضله على كل ترف أو بُلَـهنية عيش في سواه، ومنها:
لَبيتٌ تخفق الأرواح فيهأحبُّ إليَّ من قصر منيفوأصواتُ الرياح بكل فَجّ ...أحب إلي من نقر الدُّفوفولُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عينيأحبُّ إلي من لبس الشُّفوفوخِرقٌ من بني عمّي نحيفٌأحب إلي من عِلج عليفخشونةُ عيشتي في البدو أشهىإلى نفسي من العيش الطريفِفما أبغي سوى وطني بديلاًفحسبي ذاك من وطن شريفِ
إلخ
(البغدادي- خزانة الأدب، ج8، ص 504)- تحقيق عبد السلام هارون
في اللغة:
انتبه إلى معنى (الأرواح) فهي جمع الريح- كالرياح، وأما (العَليف) فهو المعلوف السمين، وانتبه أيضًا إلى نصب (تقرَّ) منصوبة بأن مضمرة مقدرة، وهي من الشواهد اللغوية.
الشاعرة هي مَيسون بنت بَحْدَل زوج معاوية بن أبي سفيان، وقد قالت الشعر لما أن برّح بها الشوق لموطنها في البادية؛ فلما سمع معاوية هذه الأبيات قال:
"ما رضيتِ والله يا ابنة بحدل حتى جعلتِني عِلجا عليفًا، فالحقي بأهلك! فطلقها وألحقها بأهلها، وقال لها: كنتِ فبِنتِ!
فقالت: والله ما سررنا إذ كنّا، ولا أسفنا إذ بِنّـا".
(البغدادي: خزانة الأدب، ج8، ص 506)
"الحنين إلى الأوطان" رسالة خطّها الجاحظ- (رسائل الجاحظ، ج1، ص 388- 412- تحقيق عبد السلام هارون). وقد ذكر فيها أنّ الحنين إلى الأوطان أمر تشترك فيه جميع الأُمم والشعوب. فقد قال الفرس: من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة. وقال الهنود: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك لأنّ غذاءك منهما وأنت جنين، وغذاءهما منه.
في موضوع الحنين ورد ذكر امرأة من بني ضَبّة اسمها زينب أم حسّانة، وقد سئلت وهي إلى جانب بركة بين الرياحين والأزهار: كيف حالك هنا؟
أجابت: ليس أطيب من البادية، ثم أنشدت:
أقول لأدنى صاحبَيَّ أسرُّهوللعين دمع يحدِرُ الكحلَ ساكبُهلَعمري لَنهرٌ باللِّوى نازحُ القَذىبعيدُ النواحي غيرُ طرقٍ مشاربُهأحبُّ إلينا من صهاريجَ مُلِّـئتللِعبٍ، ولم تملُحْ لديَّ ملاعبًهفيا حبذا نجدٌ وطيبُ ترابهإذا هضبَـتْه بالعَشِيِّ هواضبهوريحُ صَبا نجدٍ إذا ما تنسّمتضحًى، أو سَرتْ جُنْحَ الظلامِ جنائبُهوأُقسِمُ لا أنساه ما دمتُ حيةًوما دام ليلٌ من نهار يعاقبُهولا زال هذا القطرُ يُسفر لوعةُبذكراه حتى يتركَ الماءَ شاربُـه
تعجبني في هذا السياق أبيات ابن الرومي في حبه لوطنه:
ولي وطن آليت أن لا أبيعَهوألا أرى غيري له الدهرَ مالكا[...]وحبّب أوطانَ الرجال إليهممآربُ قضّاها الشباب هنالكاإذا ذكروا أوطانَهمْ ذكَّرتهمُعهودُ الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا
ما أجمل أن نعرف:
كان من عادة العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تراب بلدها فتنشقه عند نزلة أو صداع. (رسائل الجاحظ، ج1، ص 392).
ومما روي كذلك:
لما أُسِر سابور ببلد الروم ومرض قالت له بنت الملك وقد عشقته:
ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة وشمّة من تراب اصطخر.
فلما حقّقتهما له شُفي.
حتى المتنبي الذي كان يجوب ويجول يحن إلى أهله في موطنهم:
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهموأين من المشتاق عنقاء مغرب
ومن جميل الشعر كذلك ما قاله الشاعر الجاهلي مُعَقِّر البارقي:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوىكما قرَّ عينًا في الإيابِ المسافرُ
(يُضرب مثلاً لكل من وافقه شيء فأقام عليه)
ولا ننس بيت أبي تمّام المشهور الذي ناقشناه سابقًا في موضوع (الحب الأول أم الأخير؟):
كم منزل في الأرض يألفه الفتىوحنينه أبدًا لأول منزل
يبدو أن مترددة (موتيف) الحنين لدى الصِّـمَّـة بن عبد الله القُشيري بارزة في قصائده، ومنها ما هو الحنين لحبيبته حيث تقيم، وللصمة شعر رقيق أذكر منه:
قِفا ودِّعا نجدًا ومن حلَّ بالحمَىوقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعاو ليست عشيات الحمى برواجععليك ولكن خلِّ عينيكَ تدمَعَابكتْ عينيَ اليُسرَى فلمَّا زجرتُهاعن الجهلِ بعد الحلْمِ أسبَلَتا معَاوأذكر أيام الحمى ثم أنثنيعلى كبدي من خَشية أن تصدَّعاتمتعْ من شميم عرارِ نجد ...فما بعد العشية من عَرارألا يا حبذا نفحاتُ نجدورَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ القِطَارِوَأهْلُكَ إذْ يَحُلُّ الحَيُّ نَجْدًاوأنت على زمانك غير زار
وأختم بقول شوقي في قصيدته للأطفال- "عصفورتان في الحجاز":
هب جنة الخُلدِ اليمنلا شيء يعدل الوطن
ولا بدع في ذلك وهو القائل:
وطني لو شُغلتُ بالخُلد عنهنازعتني إليه في الخُلد نفسي
في العصر الحديث كثر القول والتغني بالوطن في أدبنا، كما كثر في الأغاني، هذا الوطن الذي يوجب الوفاء له وخدمته، ومحبة أهله، وأرضه بكل ما فيها من جمال وعطاء.
ملاحظة عابرة: لي مجموعة شعرية سميتها (يا وطني)- كفر قاسم- 1977.