الجمعة ١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦

مقابلة مع الدكتور محمد جابر الأنصاري

منذ أكثر من ربع قرن والدكتور محمد جابر الأنصاري اسم حاضر، وصوت نافد بقوة في الثقافة العربية. فابن البحرين المولود عام 1939، وأحد مؤسسي «أسرة الأدباء والكتّاب» في البحرين في العام 1969، والتي كانت واحدة من أبرز «اتحادات» الكتّاب العربية وأكثر استقلالية، يرصد بغضب وحزن التدهور الذي يطاول الأوضاع العربية، سياسياً واجتماعياً، منذ عقود طويلة، ويكتب المقال تلو الآخر والكتاب تلو الكتاب باحثة عن إجابات وربما أحياناً عن أسئلة.

مواقع الأنصاري الكثيرة، في بلده البحرين، وفي الخريطة الثقافية العربية في شكل عام، لم تخـفـت من صوته ولا وفرت له الإجابات التي تطلع إلى الحصول عليها دائماً. فانكب على النهضويين يدرّسهم، أو على الحداثويين يسبر أغوار أفكارهم مهتماً خصوصاً بالمسألة الثقافية وتأثيراتها في المجتمعات العربية، وهو الموضوع الذي قاده دائماً إلى البحث في مسألة علاقة العرب بالعالم، هذه العلاقة التي يغلب التأزم عليها. وحول هذا الموضوع كان على أية حال واحد من أبرز كتبه «العالم والعرب سنة 2000» (1989). إلى هذا رصد الأنصاري «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» في كتاب بارز له صدر في سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية عام 1980. وهو منذ ذلك الحين لم يتوقف عن الكتابة حول «الفكر العربي وصراع الأضداد» و «لمحات من الخليج العربي»، و «الحساسية المغربية والثقافة المشرقية» و «التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق» و «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» وصولاً إلى كتاب حديث له يطرح فيه السؤال الأساس: «العرب والسياسة: أين الخلل؟».

كل هذه البحوث والاهتمامات، أعطت لحوار «الحياة» مع محمد جابر الأنصاري نكهة خاصة، ولا سيما في مجالين محددين: العلاقة مع الآخر، ثم موقف المثقفين العرب والموقف منهم (وهو موضوع شائك وسجالي كرس له الأنصاري واحداً من كتبه الأكثر راهنية «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية). وحوار «الحياة» مع محمد جابر الأنصاري يأتي في سياق السلسلة التي تنشرها وتتضمن حوارات مع أبرز وجوه الفكر العربي في الزمن الراهن، تطاول الكثير من القضايا الشائكة والسجالية المتعلقة بالأوضاع العربية الراهنة ودور المثقفين، ومسألة نظرة العرب إلى الآخر ونظرة الآخر إلى العرب. وكان من الطبيعي، في حوار مع مفكر اهتم خصوصاً بهذا الموضوع ودرس الفكر الإسلامي الحديث في الجامعة الأميركية في بيروت ثم أكمل دراسته في جامعتي كيمبردج والسوربون، قبل أن يصبح أستاذ الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج في البحرين، حيث هو كذلك عضو في مجلسها الوطني للثقافة والآداب والفنون، إضافة إلى كونه مستشاراً ثقافياً لملك البلاد.

 المواجهة مع الآخر ما زالت مطروحة، ولكن صارت لها أولويتان في ضوء دروس الراهن. فثمة «آخر» داخلي، سواء داخل الشخصية العربية الجماعية، أو داخل مجتمعاتها. العلاقة هنا أساسية وملحة لا بد من مواجهتها وحسمها في زمن التخوف من الحروب الأهلية التي لم تعد موضوعاً نظرياً.

أما الآخر «الخارجي» – وهو أصبح أيضاً في داخلنا – فالمقلق أننا «ننشحن» أحداثاً وإعلاماً وصراخاً ضد ما لديه من قوة. أعني ضد جانبه الإيجابي... الحضاري. من الطبيعي أن نرفض تعدياته وجانبه السياسي الساعي إلى الهيمنة والتسلط، ولكن أن نصاب بالعمى الفكري في ما يتعلق بقوته الحضارية التي ليس أمامنا إلا الاستفادة منها، بعد فهمها بتواضع، لنستطيع رد عدوانه، فذلك عبث. الصراخ في الميكروفونات والفضائيات لن يرده. والأعمال الانتحارية لا تستطيع تغيير موازين القوى على الأرض في شكل حاسم. هل يمكن القيام بأكثر من «ضربات» الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001؟

من ناحية نفسية هي «فشة خلق» وتنفيس. لكنه تنفيس يائس. فماذا تغير بعدها من موازين القوى الاستراتيجية في العالم؟! وما هي «الانتصارات – المنجزات» الحقيقية، القائمة على الأرض، التي حققناها فعلاً؟

إنها ظاهرة، قد لا تكون مسبوقة، في دراسات علم النفس الاجتماعي أن تتهافت جموع من «الجامعيين» و «المثقفين» و «المفكرين» العرب على تتبع مثل هذه «الانتحارات»، وتمني حدوثها، بدل تشغيل عقولهم وعلومهم من أجل نهضة حضارية قادرة على رد العدوان الذي ينسحقون نفسياً تحت وطأته.

قد لا يكون مثيلاً لهذه الظاهرة العربية إلا ما حدث للنخب الألمانية في عهد النازية. كانت ألمانيا تضم أعداداً غير قليلة من المثقفين والعلماء، لكنهم فقدوا عقولهم، وأضاعوا البوصلة، ولم يكتشفوا الخطأ ويعترفوا به إلا بعد أن رأوا وطنهم المتقدم والمتحضر والجميل قد أصبح أنقاضاً، أي بعد «خراب البصرة»... التي أرجو ألا نخربها اليوم بالكامل!!

اليابان تعرضت أيضاً لما يشبه ذلك المصير الألماني وتحولت إلى أنقاض، بل إلى محرقة نووية. عندما أخذني مرافقي الياباني في زيارة ثقافية (1986) إلى مدينة هيروشيما ومتحفها التوثيقي للضربة النووية الأميركية في آب (أغسطس) 1945، شعرت بغضب شديد للدمار الذي حل، والتشويه الذي لحق ليس بأطفال اليابان، فحسب، بل بخيولها أيضاً! ونظرت إلى مرافقي نظرة متسائلة... فكتم مشاعره وأخذني إلى مكان آخر...

الأمة اليابانية، أيضاً، بعد الكارثة، كتمت مشاعر غضبها وتحولت إلى ميدان آخر من العمل والرد والتصدي للعدوان، في ظل أول احتلال عسكري لأراضيها تحت سيطرة «مكارثي» الذي علينا – كعرب – أن نتذكره ونحن نرى وجوهاً أميركية لا تختلف عنه كثيراً في الملامح «الداخلية»، هنا أو هناك على امتداد المنطقة...

لكن اليابانيين لم يضيعوا وقتهم وجهدهم في «هجاء» مكارثي وتبيان مثالبه! بل أقدموا على خطة إعادة بناء وطنهم المحطم من أجل استعادة القوة المؤثرة في عالم الغد... وهي القوة الاقتصادية والتكنولوجية التي بلغوها، وأصبحوا بامتلاكهم إياها إحدى القوى الكبرى في العالم.

وعندما نذكر اليابان ينبغي أن نذكر أيضاً الصين، وكذلك الهند التي بدأت تصعد كقوة عظمى لا تبعد كثيراً عن الأطراف العربية المهمة كالخليج. هذه الأمم الشرقية الكبيرة الثلاث، كل بنهجها الخاص، والمتوافق مع ظروفها وتاريخها، حسمت أمرها و «وصلت» بحسب تعبير مؤرخنا العربي شاكر مصطفى (رحمه الله)، فلماذا وصلت ولم نصل؟ كان هذا سؤاله منذ هزيمة 1967. وكانت المعادلة في منتهى الوضوح أمامها: قاومت المستعمر الطامع بيد، وأخذت علومه وحضارته باليد الأخرى، ولا خيار غير ذلك. كانت هذه «المعادلة» الأساسية والبسيطة في بنية المشروع النهضوي لكل من اليابان والصين والهند، وغيرها من الأمم، الكبيرة والصغيرة، التي دخلت العصر.

وليس أمامنا إلا هذا الخيار بمعادلته هذه.

المخيف، إننا عرباً ومسلمين، ينتابنا شعور قاتل بأننا مختلفون عن بقية خلق الله. لماذا؟ لا أدري! ويقوي هذا الشعور الهدام لدينا عدد كبير من الوعاظ والكتبة وأمثالهم ممن تأسست ثقافتهم في الظلام وراء الأبواب المغلقة، فتوهموا أنهم وحدهم في هذا العالم الفسيح!

لا يمكن مواجهة ذلك إلا بتعميق ثقافة المقارنة، والدراسات التي تسير في الأرض شرقها وغربها وتكتشف سنن الله في خلقه كما تحض على ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم... وهي سنن إلهية كونية لن نجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، من اليابان إلى اليمن، ومن الصين إلى المغرب، ومن الهند إلى مصر. ولن يستطيع أيّ «مجمع كرادلة» من أي أصولية من المحافظين «الجدد» في واشنطن، إلى المحافظين «القدامى» في تورا بورا... تغييرها، ولا تغيير «شعرة» منها. فهي سارية على كل الخلق... ولن تجدوا لسنّة الله تبديلاً! فتنبهوا واستفيقوا أيها الواعظون بالخصوصيات... الموهومة!

اليوم عندما نتحدث عن «الآخر» يجب ألا نقصره على الغرب وحده. فالشرق الأقصى اعتبره «الشرق الآخر»: الصين واليابان والهند... وملايين آسيا تمثل هي الأخرى «الآخر» الذي يجب الاعتراف بوجوده، والتعرف إليه، ومحاولة الاستفادة من تجاربه. لم يعد عنوان المعركة، معركة الحضارة: التغريب. أصبح أسمها: التحديث والتطور والتقدم. وإما أن تصبح الأمم أعضاء في نادي التقدم بمواصفات واستحقاقات محددة في فكرها وسلوكها وإنجازها وإنتاجها، وإما أن تبقى خارج العصر، ولا عزاء للعاجزين، ولا «وساطة أو شفاعة للمتخلفين».

وهذا التحديث ليس مثالياً، وليس بلا عيوب، فلكل وضع تاريخي جديد تحدياته، ومن يبحثون عن اليوتوبيا عليهم الذهاب إلى «جمهورية أفلاطون».
تحوّل تاريخي طويل

 ما تشخيصك لوضع العالم العربي راهناً، في ضوء ما آلت إليه أحوالنا، ووضعية الصراعات الحقيقية أو المفترضة؟

 إنها مرحلة تحول تاريخي طويل وصعب، لا يجرى في الماضي – كما في ماضي أمم أخرى – بل يجري في الحاضر، وتحت عدسات المصورين ومراسلي وكالات الأنباء الذين يصورونه من زاويتهم أنباء جديدة يبثونها للعالم، وتحت بصره، وبما يوافق أهواء مجتمعه الدولي وأطماع قواه أو يخالفها. إن انعطافنا التاريخي لا يحدث في زاوية منعزلة من العالم وفي زمن منسي من أزمانه، بل يجري في قلبه وفي اللحظة الراهنة بكل أضوائها. ونحن، جيلنا هذا، يقاسي ويعاني ما يحدث فوق صفيح ساخن، ولا بد من الاحتراق والانفعال ولا مهرب من ذلك! قدر الأكثرية العربية أن تحترق فوق هذا الصفيح الساخن من دون ترف المراقبة الهادئة من الأبراج الجامعية! إنها مهمة في حالتنا لا بد منها لئلا نغرق نهائياً في موجات الانفعال... ويجرفنا التيار إلى لجة البحر الهائج.

المسألة ببساطة وهدوء مسألة زمن. ثمة بضعة قرون من التطورات النوعية تفصلنا مثلاً عن أكثر مجتمعات أوروبا، وثمة قرن كامل بيننا وبين الصين. فما حدث للصين وفيها من «إرهاب» وتجزئة وتنازع أهلي وحيرة بين الإيديولوجيات ومناهج الإنقاذ، يحدث لدينا اليوم في ظروف أكثر صعوبة وتعقيداً لأننا في قلب العالم، وهو يراقبنا بدقة ويتدخل متى شاء. حتى حركة النمل – كما قلت ذات مرة – يراقبها العالم على الرمال العربية، بينما استطاعت الصين في زمن سابق القيام بمسيرة طويلة انتهت بإعادة وحدتها. هذا يضع على عاتق الناشطين العرب من أجل التغيير مسؤوليات أكبر، تتجاوز العبثية والانتحارية والاستعراضية اللفظية التي نراها عند بعضهم.

إذا تصفحنا تاريخ أوروبا الحديث وجدنا المعركة محتدمة حتى القرن السابع عشر بين «الاتحاد البروتستانتي» وبين «الحلف الكاثوليكي»، إلى أن كشفت التجارب للأوروبيين عقم هذا التصارع المذهبي وضرورة إحلال مشروع أرقى محله. بعد أربعة قرون نجد الصراع محتدماً بين «الائتلاف الشيعي» و «التكتل السنّي» في العراق وغيره... ولكن إلى أين؟ وأي مشروع يحقق؟ وما مستقبله؟

كل طفل لا بد أن يضع يده في النار ليتعلم أنها تحرق... هكذا هذا التصارع الطفولي. إنه كذلك من زاوية التاريخ، لكنه ليس كذلك من زاوية ضحاياه المكتوين بناره. هذا جزء من تراجيديا الإنسان والأمم على وجه هذه الأرض، ولا توجد حلول سحرية... «ويا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً...» (سورة الانشقاق: الآية 84).

 بعد هزيمة 1967، كانت هناك نهضة فكرية نهلت من الحداثة ولكن أيضاً من الوجوه المضيئة في التراث، علاماتها كتب ودراسات قالت غضب الفكر العربي على الهزيمة ورغبته في تجاوزها. أنت شاركت في ذلك كتباً ودراسات، فهل تعتقد بأن تلك الانتفاضة النهضوية أثّرت؟

 العبرة بما حدث ويحدث في الواقع، وليس على صفحات الكتب. نعم كانت هناك «انتفاضة» نهضوية بعد هزيمة 1967. استمرت إلى حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 ثم توقف كل شيء بتأثير ما حدث في الواقع. علينا ألا ننسى أنه كانت هناك أيضاً «نهضة» عربية حديثة منذ القرن التاسع عشر، ثم ذهبت مع الريح، ريح النكبات والتراجعات... وكذلك الواقع الذي لم يتحرر بعد من الماضي، ذلك الماضي الذي يأخذ في كل منعطف بخناق الواقع ويعيده إلى قبره. وهذا ليس مجرد «سوء حظ» للعرب وليس قدراً مقدوراً عليهم. المسألة أننا اليوم في مرحلة تحول تاريخي صعب، ولكن زاد تعقيداته أننا – ثوريين ومحافظين – أرجأنا مواجهة متطلبات «الحسم» التاريخي في التطور والإصلاح الحقيقي الذي لا بد منه. وغالطنا وما زلنا أنفسنا بالإعلام المزيف، حتى طفح الكيل... إنها فواتير التطور التاريخي التي أجلناها وتهربنا منها شعوباً وأنظمة ومفكرين، وها هي ساعة الحساب وأرجو ألا تكون ساعة العقاب.

تحدثوا كثيراً عن البعث والانبعاث، ولكن لم يحدث شيء من هذا، أو لنقل أنه لم يبدأ البداية الصحيحة. كان انبعاثاً مزيفاً في أحايين كثيرة. تذكر قصيدة «لعازر» لخليل حاوي التي صوّر فيها بمأسوية فاجعة ظاهرة الانبعاث المزيف... كان ذلك عام 1962 وقبل هزيمة حزيران (يونيو) 1967 بسنوات عجاف! تصورها جيلي سماناً! ما أن حدثت تلك الهزيمة وتحقق من وقوعها الضمير العام، حتى توالت مظاهر الرجعة، في ظاهرة تكمل بعضها بعضاً...

 على ذكر قصيدة خليل حاوي الغاضبة، كثيرون اليوم يرون أن المثقفين صامتون، خانوا أو دُّجنوا... أو ابتعدوا مشمئزين، بينما لجأ بعضهم إلى مهادنة أنظمة وتيارات قومية متأزمة أو أصوليات... فماذا تقول؟ ما هي صورة الساحة الفكرية العربية الراهنة؟

 «أن يصمتوا» أو «يشمئزوا» هذا رد فعل ذاتي. المسألة كما حاولت أن أوضح مسألة تحول تاريخي موضوعي «إجباري»... أعني أنه «مقرر» إجباري في حياة كل أمة، ونحن لسنا «معفيين» من ذلك. ودعك من حديث الخصائص والخصوصيات المزعومة. أشرت في مواضع عدة مما كتبت إلى خصوصيات ترسبت معنا عبر تاريخ طويل، واعتبرتها خصوصيات سلبية، أما الخصوصيات الإيجابية فهي في ذاكرة التاريخ، وهي تبدو حقيقية عندما تتعرض إلى التدقيق العلمي لكن هذا لا يجعلها واقعاً. ولا بد من النظر موضوعياً في السلبيات والاعتراف بها والعمل لتجاوزها ليس بالصمت أو الاشمئزاز، أو الصراخ!... فالصراخ لا يغيّر شيئاً من سنن الله في خلقه.

ثمة مشاهد أخرى في ثقافتنا الراهنة لا تقل عنها إثارة للقلق، على صعيد أيديولوجيات واتجاهات مختلفة... مثلاً محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي أعاد بصياغة أسلوبية لا غير، عرض ما هو معروف عن الفلسفة الإسلامية في مصادرها ومراجعها. ولا بد من التذكير بأن أحمد أمين صاحب «فجر الإسلام» الصادر عام 1927، كان أول دارس وناقد للعقل العربي من المفكرين العرب المحدثين، وكان جديراً بعابد الجابري الاعتراف بريادته، كما يفترض في أي باحث نزيه، أن يفعل. وغير أحمد أمين كثيرون في دراسة الفلسفة الإسلامية وتبيان تياراتها التي بسّطها الجابري للعوام بالكلمات المسجعة الثلاث: بيان – برهان – عرفان.

وهؤلاء «العوام» في الفلسفة معظمهم – للمفارقة العجيبة - من مثقفي المشرق! ففي كثير من بلدان المشرق لم تكن مادة الفلسفة متضمنة في المناهج المدرسية. وكان – ولا يزال أحياناً – ثمة «حظر» عليها بعكس حال مثقفي المغرب العربي الذين درسوا الفلسفة منذ نعومة أظفارهم، ووجدوا في عمل الجابري إضافات هامشية – كما وجدناها نحن الذين درسنا ودرسنا الفلسفة منذ شبابنا – لكنها، أي كتابات الجابري، لم تكن لديهم ولا لدينا «فصل المقال»!

أما مثقفو المشرق عموماً، وبسبب «أمية» غالبيتهم الفلسفية، فما أن قرأوا تبسيطات الجابري حتى توهموا أنهم أمسكوا بناصية الفلسفة وأصبحوا روادها. وويل للعلم من أصحاب الكتاب الواحد، خصوصاً عندما ينتقلون من ثقافتهم التقليدية إلى ثقافة تلميعية أخرى!... أحدهم وقد «فُجع» بنقدي للجابري، اعتبر ذلك من «الكبائر»، وهذا يدل على أنه لم يجد فيه ما يحرر فكره... فظل يجتر مصطلحه القديم!

أوضحت المبررات الفكرية لموقفي من «نقد» الجابري – الذي كتب نقداً ممنوع نقده... في عرفه وعرف تلامذته – أوضحت مبرراتي الفكرية في كتابي «مساءلة الهزيمة»، ولا أرى داعياً لتكرارها هنا، باستثناء الإشارة إلى أن من يريد اليوم التعرف إلى نقد العقل العربي، عليه قراءة ما كتبه جورج طرابيشي من نقد علمي للجابري في مؤلفات، والمؤسف ان الجابري لم يكتفِ بعدم الرد عليه، في سلوكٍ لا يليق برجال الفكر، بل أعلن كذلك صحافياً وباستعلاء أنه «لا يقرأ» جورج طرابيشي. ومن مظاهر الانحطاط في الثقافة العربية أن يتم التذرع ضد المعارضات العلمية التي جاء بها طرابيشي في محاولة لتصحيح بعض ما رأى أنها أخطاء في نقد الجابري، أن يتم التذرع بكون الرجل «مسيحياً»!

فهل كُتِب علينا، نحن عرب هذا الزمان، ألا نتقبل إلا ما يقوله المنتسبون إلى الإسلام؟ ألا يوجد للحق والحقيقة، انتساب؟!

على الطرف الآخر من المنشور الثقافي – وضد الجابري – يقف أدونيس بتنظيراته المهزوزة في تاريخ الفكر العربي. أدونيس شاعر كبير وهو حر في إبداعه شاعراً، لكنه كباحث علمي ملزم بمنهجية البحث في موضوعه، وإلا فعليه الإيضاح لقرائه انه يقدم لهم انطباعاته الذاتية لا غير، وهذا ما وجدته في «الثابت والمتحول». إنه مجرد انطباعات ذاتية – وإن نوقش كأطروحة دكتوراه – وأخطر ما فيه قوله إن كل ما هو «ثوري» و «رفضي» تقدمي، وكل ما سوى ذلك «رجعي ومتخلف». هذا تزييف وتزوير لحركة التاريخ... فهذا يعني أن «ثورة» الخوارج ضد دولة الإمام علي بن أبي طالب ثورة تقدمية، وهذا خطأ، وأن نعتبر «ثورة» القرامطة ضد الخلافة العباسية التي رعت العلوم «ودار الحكمة» ثورة «تقدمية» أيضاً، وعلى ذلك قس.

ولن أعيد تفاصيل خلافي مع أدونيس هنا، لأنني أوضحتها في لقاء فكري معه في البحرين قبل سنوات، ثم نشرته بعنوان «هذا ما اختلف فيه مع أدونيس»، صحيفة «الأيام» البحرينية.

والمهم في كل ذلك هو تحرير القطاع الواسع من الشباب العربي من أحادية وسطوة هذه الأفكار التي يجب أن تبقى مفتوحة للنقد، سواء جاءت من الجابري أو أدونيس أو غيرهما... وفي أي حال، اعتبرهما وأمثالهما أعلاماً لفكرنا نعتز بهم، شرط أن يقبلوا النقد. ولمن أراد اعتبارهم أصناماً للفكر... أقول أن «الأصنام» أطاحها الإسلام والفكر الحر منذ قرون!

ثم أن المثقفين في كل المجتمعات، ومنها العربية، يشكلون نسبة ضئيلة جداً من قوى التغيير والمواجهة، هذا إن انطبق على بعضهم هذا الوصف. وطالما أن قوى التغيير عموماً لا تنجز شيئاً يذكر في هذه المرحلة، على الأقل ظاهراً، فلماذا نخص المثقفين بتهم الصمت والخيانة والتدجين؟ وماذا عن قوى المجتمع الأخرى من تجار وإداريين ومهندسين وأطباء؟... جميع هؤلاء ليسوا بالضرورة مثقفين بالتعريف الدقيق، فماذا فعلوا وأين هم؟

أعتقد بأننا نحمّل المثقفين أكثر مما يتحملون من أدوارهم الحقيقية، وحان الوقت لنتعامل معهم وننظر إليهم كبشر طبيعيين. المثقف ينتج مادة معرفية – أو هكذا يُفترض – كما ينتج النجار مادته التنجيرية والمهندس مادته الهندسية... الإنتاج أولاً، ثم الرأي، والرأي مطلوب من جميع هؤلاء، وليس من المثقف وحده.

لماذا نعمّد المثقف وحده بطلاً، ونطلب منه أن يكون شهيداً؟ في تاريخنا كان الفقيه هو المثقف، بعدما تراجع دور الكتاب والمفكرين والفلاسفة. وفي «اللاشعور الجمعي» نتصور المثقف فقيهاً، وهذا عين الخطأ لأنه التباس تاريخي، بينما حقيقة الأمر أن المثقف المعاصر ربما نقض دور الفقيه القديم وهذا قدره التاريخي. فالمثقف منتج أسئلة قد لا تكون مرغوبة، بينما الفقيه مطالب بالأجوبة القطعية فحسب! وإذا نظرنا إلى دور المثقف خارج تراثنا، وبمنظور عالمي، نجد أنه صاحب أفكار لا غير، والأفكار مهمة لكنها عملياً – لا تغيّر التاريخ. لا بد من قوى مجتمعية فاعلة تتبناها وتنقلها إلى حيز الواقع (كما حملت قوى الطبقة الوسطى الفرنسية أفكار «التنويريين» الفرنسيين وقامت بحركة التغيير الكبرى في فرنسا، ثم في أوروبا...) وإلا بقيت تلك الأفكار، مهما كانت تنويرية وثورية، اجتراراً في أوساط النخب القليلة غير المؤثرة، في مقاهي الثقافة والمثقفين. وعندما يعجز المثقفون عن إيصال أفكارهم إلى الجمهور العريض لنقلها إلى مسرح الفعل، يصابون بثرثرة عجيبة، ويتحولون إلى ظاهرة «صوتية».

عندما أسمع مثقفاً عربياً «يصرخ» بأعلى صوته في فضائية ماذا يغيّر ذلك في «ميزان القوة» على الأرض، بعد انتهاء «نوبة» صراخه؟! ألا يبدو هذا المثقف الصارخ، وهو في منتهى الثورية الكلامية واللفظية، تابعاً مطيعاً للمبدأ الشائع هذه الأيام: «دعهم يقولون ما يريدون... ودعنا نفعل ما نريد»؟!

أما مسألة «المهادنة» مع القوى المؤثرة اليوم، فلا يُسأل عنها المثقفون وحدهم، إلا بحسب نسبتهم الضئيلة التي ذكرت. أين هي بقية القوى الاجتماعية الأقوى منهم؟ لماذا لا ننظر في مواقفها ونحللها وننقدها؟ فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وليس ما يكتبه كتابهم فحسب.
مسؤولية وأخطاء
 وهل يمكن اتهام حداثة عربية ما، بأنها مسؤولة جزئياً عما يحدث؟

 ارتكبت كل تيارات الحداثة العربية، من ناصريين وقوميين وبعثيين ويساريين وليبراليين، خطأين فادحين أديا إلى النتيجة المشهودة اليوم:

الخطأ الأول: إنهم لم يجذروا أفكارهم اجتماعياً وضميرياً في أوساط «الجماهير» التي طالما تغنوا بها. وكانت استفادتهم من إمكانات التجديد الإسلامي ضئيلة جداً، وهي إمكانات قائمة، وكبيرة، وكان يجب العبور من خلالها في ميدان «التجديد» الإسلامي، مواصلةً لمدرسة محمد عبده. لكن الجهد المعرفي الذي بذلوه في هذا الصدد كان تافهاً وغير مؤثر، بل إن بعض تلك التيارات عاكس العقائد العميقة للجماهير فخلق ريبة حيالها وتصدعاً معها. من السخف «تحريك» الجماهير بمناقضة إيمانها، لذلك انحازت قطاعات عريضة منها إلى الأصوليات التي تدغدغ مشاعرها الإيمانية، لكنها للأسف تجرها إلى وراء. والحركة التصحيحية الكبرى المنتظرة في صفوف التحديثيين العرب تتمثل اليوم في اجتراح معجزة «التجديد» في الإسلام الذي حمل «حداثة» التاريخ تحت إبطيه منذ البداية ومضى بها، مقيماً حضارة من أعظم الحضارات في التاريخ... أليست الحضارة الإسلامية – بعقلانيتها وفلاسفتها، علومها، نصاراها ويهودها وصابئتها، إضافة إلى مسلميها بالطبع –معجزة الإسلام الكبرى في التاريخ؟ إذاً العجز عن إنجاز «التجديد» في الإسلام، بهذا المفهوم، يساوي الكارثة، بل الكوارث التي نحن فيها! ولن تكون البداية الصحيحة المنتظرة، والمشروع النهضوي المأمول، إلا بحركة «تجديد» إسلامي يثبت القدرة على مواجهة العصر والمستقبل.

الخطأ الثاني: إن تيارات التقدم العربي وقد انكشف ظهرها بسبب الخطأ الأول، لم تحسن خوض معاركها السياسية والعسكرية ضد أعداء التقدم العربي. وعلينا الانتباه. فعدو الإمبريالية والصهيونية اليوم حركة «التقدم العربي» وليس أي صنف آخر. بحدوث الهزيمة السياسية والعسكرية وتوالي مظاهرها انكفأت تلك التيارات، وابتعدت عنها «الجماهير»، وكان ما كان. ولا أستبعد، بل أرجح أن ينشأ تحالف استراتيجي بين القوى الأجنبية والتيارات السائدة «جماهيرياً» اليوم، طالما أنها لا تعمل من أجل التقدم الحضاري الحقيقي، ولا تمتلك مشروعاً حضارياً... فذلك هو المحظور وليس السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة!
 هناك مفكرون عرب وصلوا إلى مواقع قرار ما، في بلدانهم أو في مؤسسات عالمية. هل ترى أنهم وصلوا بأفكارهم أم من دونها؟

 المهم أن يصلوا مع «قوى» تؤمن بأفكارهم لتطبقها. أما أن يصلوا فرادى بأفكارهم المجردة فلن يغيّروا شيئاً.
> من يصنع الذهنيات العربية حالياً، وأيّها تصنع على هذا النحو؟

 الهزيمة ومختلف تراجعاتها هي التي تصنع الذهنيات اليوم قبل كل شيء. أما الدعاة إلى تلك الذهنيات فما هم إلا زرّاع يستفيدون من التربة والموسم! لتقم جهة عربية ما بتغيير الحالة المهزومة، ثم أنظر ما يحدث على صعيد الأفكار.
 هل يمكن، بعد، الحديث عن وحدة ثقافة أو فكر عربية... أم أن ثمة تطوراً غير متكافئ بين منطقة وأخرى، حتى بين فئات داخل كل منطقة، ما يجعل الوصول إلى نقاط تلاق مستحيلاً، كما يقول بعضهم؟

 الاختلاف في المستويات المناطقية وغيرها قائم لدى أمم كثيرة وفي ثقافات، والتنوع سيبقى ولو بلغنا أكبر الانتصارات وحققنا أرقى أشكال الوحدة. كان هذا التنوع قائماً طوال تاريخ الحضارة الإسلامية التي علينا أن نلاحظ أن دوائرها السياسية تعددت، كما دوائرها اللغوية – القومية، لكن وحدتها الحضارية بقيت. ما يجب أن ننتبه إليه اليوم من «اختلاف» أن وحدة الثقافة لا يمكن أن تقوم إلا على وحدة اللغة، وما أن تختلف اللغة حتى تختلف الثقافة وتتغير القومية ويختلف «الوجدان». تأمل في الحدود القائمة بين الناطقين بالعربية وغيرهم من الأقوام المحيطين بهم، أو حتى من المتعايشين معهم.

عن صحيفة الحياة في 12/ 06/ 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى