الأحد ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩

مقاربة في أدب الملاجئ

محمد جهاد إسماعيل

قمرٌ على بيروت، هو اسم المجموعة القصصية الكئيبة الجميلة، التي كتبها زياد عبد الفتاح إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان ومنظمة التحرير في 1982. شعرت أثناء قراءتي هذه المجموعة القصصية أنني أتواجد في بيروت الغربية، وأنني أعايش مع أهلها تفاصيل الحرب. فإذ بأنفي يشتم رائحة البارود والموت، وعيني تفجعهما رؤية الدماء والأشلاء، وقدمي تبرطعان في الشوارع على غير هدى، هرباً من السيارات المفخخة والغارات الغادرة المجنونة.

شعرت بهذا الاندماج الرهيب مع بيروت ومأساتها، لأن المؤلف أخذني في تطواف مؤثر، على يوميات الحرب ومشاهداتها. لأجد أمامي تفاصيلاً مثيرة، حول الحياة الاستثنائية الغير طبيعية، التي عاشها المدنيون والمقاتلون والمسعفون والباعة والعشاق والأطفال طيلة ثمانين يوماً أو أكثر. لقد أذهلني كفاح البشر في بيروت، وإصرارهم على افتكاك البقاء، من قلب قبضة الموت.

وجدت أثناء قراءتي هذه المجموعة القصصية أن عملية السرد أو القص تدور كثيراً، حول الملاجئ والملتجئين إليها. فكثير من القصص التي قرأتها تتخذ من الملاجئ مسرحاً لأحداثها. وقد شعرت مع ذلك أنني أمام جنس أدبي فريد، يجوز لنا أن نسميه أدب الملاجئ.

رغم قتامة الملجأ ودلالته المحبطة، كونه ذاك الركن السفلي المشحون بالخوف والترقب والنوستالجيا. إلا أن المؤلف صنع منه مكاناً اعتيادياً ينبض بالحياة. ففي أحد القصص كانت هناك حفلة عرس بداخل ملجأ، حيث العروس تزف إلى عريسها، والمغني يغني، ونزلاء الملجأ يتقمصون الفرحة.

في قصة ثانية كان الملجأ هو السكن الدائم لموريس الأرمني، الذي بدا أمثولة في الإنسانية والفداء. لقد كان موريس ينبت دوماً من الملجأ كالأبطال الخارقين، ليغيث الملهوفين من ضحايا الحرب، ويسجل مواقفه الإنسانية النبيلة.

في قصة ثالثة رفض البطل أن يرافق حبيبته إلى الملجأ، فتركها تذهب وحدها. وبعد أن جاءت الطائرات ودكت الملجأ، اكتشف أن القنابل أذابت حبيبته وأفنت وجودها. فندم ندماً شديداً أنه فارقها، ولم يشاركها مصيرها.

في قصة أخرى قصد الفدائيون أحد الملاجئ، ليبحثوا فيه عن طرف خيط، يقودهم لمعرفة من يقف وراء السيارات الملغومة، التي تنثر الحتف في كل أنحاء بيروت الغربية. ثمة جاسوس كان في قبضة الفدائيين، وكانوا يتولون مهمتي تطبيبه والتحقيق معه في داخل الملجأ.

تتبدى لنا في القصص السالفة - بل في سائر المجموعة القصصية - الكثير من ملامح أدب اللجوء والملاجئ. لكن يبقى أعظم أثر للمؤلف هو قيامه بأنسنة الملجأ، من خلال تقديمه إياه في سياق سوسيولوجي مشوق. لقد أبدع المؤلف في أنسنة الملجأ، ونجح في تفعيله ونسج الحكايات حوله، رغم ما للملجأ من كينونة كهفية ستاتيكية، وإيحاءات مزعجة منفرة، يفر منها الكثيرون.

محمد جهاد إسماعيل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى