الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠١٨
انحسار اللغة العربية

مقارنة بلغات وليدة «الطفرة» التكنولوجية

أحمد ناصر-الطيرة

إن لغة التواصل المستخدمة في مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنيت أو ما عرف بالفاسبوك والتويتر وغيرها، أصبحت تشكل أزمة حقيقية تنمو وتتفاقم في قرانا ومدننا العربية. وما يثير القلق ويلفت الانتباه أنّ هذه المشكلة أدت إلى انحسار في التعامل باللغة العربية وانخفاض مستواها مقارنة مع لغة غريبة أفرزتها الطفرة التكنولوجية، وأعني لغة "التشات" التي ما زالت تتوسّع على حساب اللغة العربية "لغة الأم" وتهمشها. ومن غريب الأمر أن هذه اللغة الغازية تفشت وتمكنت من الوصول إلى جميع شرائح المجتمع دون استثناء. المعلمات والمعلمون في المدارس، الطلاب والطالبات في الصفوف، الأمهات والآباء في البيوت، الشباب والشابات في مختلف أماكن العمل كلهم منشغلون إما بجهاز الحاسوب أو بالهاتف النقال "البيلفون" عبر باب المحادثة الإلكترونية التي باتت تشكل قاموس لغة الشارع والتواصل اليومي.

تعابير مثلhi ، kefk، mrhaba، Eied saaed وغيرها أصبحت ملتصقة بحياة الفرد يطعّمها ببعض الكلمات العربية من باب المجاملة أحيانًا. وهذا مؤشر واضح يدق نواقيس الخطر ويعلن عن وجود أزمة جدّية تعيشها اللغة العربية بخاصة بعد خروج لغة "التشات" من حدود شاشة الكمبيوتر الى المجتمع الكبير لتؤسس لغة جديدة. ويختلف الباحثون حول أسباب هذه الازمة؛ فيرى قسم منهم أنّها نتيجة حتمية لمواكبة العصر، وما "لغة التشات" إلا نوع من التغير الطبيعي الحاصل في علم اللغات بهدف مجاراة الحداثة الكونية. ويرى قسم آخر أن "لغة التشات" تعبير حقيقي عن ضيق آفاق اللغة العربية وانعدام قدرتها على تحقيق التطلعات المستقبلية. ويعتقد قسم ثالث إنّ تطور نظم الحوسبة ودخول شبكة الانترنت في المؤسسات والمدارس والبيوت ساهم مساهمة جادة في تحويل مأساة اللغة الأم الى ظاهرة عابرة.

أينما توجهنا تطالعنا لافتات إعلانية كتبت على الملصقات او على الأقمشة. لافتات إذا ما كتبت باللغة العربية فإنها تكون معظمها مليئة بالأخطاء الإملائية. منها تلك التي تعلن عن افتتاح معهد للتعليم او حتى مدرسة خاصة لتعليم اللغات. ولا ندري ما السبب الذي جعل جميع القائمين على اخراج هذه الإعلانات أن يختاروا الكتابة بلغة الانترنت، أي تلك التي تكتب بأحرف أجنبية وتقرأ بالعربية. وكما في اللافتات كذلك في الحياة اليومية يتجه الطالب العربي أكثر فأكثر الى الـكتابة بالحروف الانجليزية من خلال توسيع قاموسه اللغوي على حساب اللغة الأم التي باتت غريبة في مدارسنا. وما زاد اللغة غرابة عنا أيضًا اقامة غرف المحادثة الالكترونية التي أعطت زخمًا أكبر ومساحة أوسع لاستئثار اللغة الجديدة في التواصل اليومي بين الناس بحيث انتشرت مصطلحات طبعت هذه اللغة وواكبتها الى حدّ تأصلها بخاصة لدى جيل الشباب والشابات الأكثر قبولاً للحداثة والتكنولوجيا.

من المسؤول الأول عن حماية اللغة العربية امام اقتحام لغة الانترنيت؟

يعلم الجميع أنّ اللغة العربية تواجه مأزقًا حادًا يتمثل في تمدّد اللغات الأجنبية على إيقاع العولمة المتسارع، ويتجسد في تعاظم اللهجات المحلية وسيادتها على حساب اللغة العربية الفصحى، ما يشكل معضلة في مختلف قرانا ومدننا العربية ابتداءً من الجليل شمالاً، وصولاً إلى منطقة المثلث في المركز وانتهاءً في النقب جنوبًا. ولعلّ الأكثر خطورة في الامر هو انتقال اللهجات المحلية وبالتدريج من حيز التداول الأهلي المحدود إلى ما يشبه كونها لغة أصيلة.

تساهم مدارسنا العربية عامة في عملية تراجع اللغة العربية الأصيلة، إذ تركز في برامجها التعليمية واتجاهاتها التثقيفية على تفعيل المواد العلمية واللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية "اللغة الأم"، دونما اهتمام كبير لبعض محاولات القائمين على جهاز التعليم العربي من أجل النهوض باللغة العربية وعصرنتها، ودونما استعداد لتقبل البرامج التي أعدتها مجامع اللغة العربية لهذا الغرض. وما يجدر ذكره أنّ بعض المدارس العربية قد أدركت خطورة الانترنيت ومواقعه التعليمية وعكفت على اعداد الخطط التي تهدف إلى إعادة إحياء اللغة الأم وتفعيلها بمجموعة من المبادرات الذاتية والنشاطات التعليمية التثقيفية مثل فعاليات "يوم اللغة العربية"!!. وعلى الرغم من ذلك، يرى بعض معلمي اللغة العربية أن هناك واقعًا ملموسًا لضعف استخدام اللغة العربية وصعوبة تلقي الطالب لها واعتبارها من اللغات المعقّدة، لذا كان لا بد من اللجوء الى أساليب لتفعيلها وتقريبها من ذهن الطالب من خلال استخدام الانترنيت ونظم الحوسبة الجديدة بما فيها "لغة المحادثة الالكترونية". وقسم لا بأس به من المعلمين يرى أن طلابًا في بعض المدارس باتوا لا يتراسلون ولا يكتبون سوى الحروف الأجنبية، حتى أن كثيرين منهم لا يستطيعون حفظ الأبجدية أو كتابة حروفها ما أوجد مشكلة بالنسبة الى معظم أساتذة اللغة العربية الذين باتوا يفتشون عن وسائل لتقريبها كترجمتها الى العبرية أو الإنجليزية لشرحها.

ما يجدر ذكره أن المبادرات الإصلاحية لإنقاذ الوضع القائم، ما زالت رهينة الأطر الفردية وأحيانا ينتهي بها الى الزوال بعد اصطدامها بالعائق الاجتماعي-المالي الذي يقف حائلاً دون بلوغها الأهداف المتوخاة. ولعل غياب الدعم التقني الرسمي (مفتشون ومرشدون متخصصون) في مدارسنا يشكل إحدى الصعوبات التي تواجه المعلمين لتنفيذ مبادراتهم الفردية.

نعود ونقول لئلا تضيع اللغة العربية بين لغة الرسائل النصية على الهواتف ولغة الدردشة على الإنترنت، يحب أن يبادر القائمون على جهاز التربية والتعليم في المدارس العربية بوضع خطة عمل ممنهجة تخضع لرقابة المختصين في أصول اللغة العربية وآدابها، ومن ثم تفعيل برامج تعليمية وتربوية ملتزمة بأصول الثقافة العربية وموروثها. كما ونهيب بمجامع اللغة العربية في بلادنا ان تلتزم بنهجها وتقوم بدورها وتسعى جاهدة لإعادة الاعتبار للغة الضاد المهدّدة والحفاظ على ثقافتها، وتسليط الضوء على أهمية اللغة والتراث والتاريخ العربي. ولا بد أن يتحمل المعلمون والمعلمات مسؤولية انحسار اللغة العربية دون غيرها من اللغات، وان يعملوا على تنمية قدرات الفرد من خلال تقديم الأرضية الثقافية والخلفية الاجتماعية المناسبة للانطلاق والإسهام في بناء مجتمع عربي مثقف وأصيل. فواقع اللغة العربية دقيق وحساس إذا كنا لا نريد الاعتراف بأنه مأساوي.

أحمد ناصر-الطيرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى