الثلاثاء ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

ممرضة..لا اسم لها

ويلتقي وجهه بوجهي مرّات عديدة في اليوم، طبيبٌ أعرفه مبتسماً دائماً حتى لتخاله بلا هموم، ويزداد عرض ابتسامته اللبقة عندما يراني وكأنه يلقي عليّ سلاماً فأبتسم له كنوعٍ من ردّ التحيّة.

أعرف اسمه فالأطباء معروفون بسهولة وينادونهم بأسمائهم ممهورة بلقب الدكتور، أما نحن الممرّضات فيبقى اسمنا ممرّضة فقط مهما عملنا من أمجاد، مع أني موصومة بلوحة اسميّة مثبّتة على مريلتي البيضاء، لكن سرعة المصادفة قد لا تسمح له بقراءة الإسم الصغير.

حتى التقينا مرّةً في المصعد الكهربائي المكتظّ بالصاعدين، كان ينظر إلى الأرض كنوع من عدم الاكتراث وما زال محافظاً على ابتسامته، ويتوقّف المصعد ويخرج منه من يخرج ويدخل إليه من يدخل، ويتبدّل الركاب المستعجلون إلا هو وأنا حيث تسمّرنا واستمرأنا الرفقة المؤقّتة في المصعد، صعودا ًونزولاً عدة مرّات كوتر الربابة يصعد ويهبط ليعزف لحناً ما يتفاعل بيننا..حزيناً وبلا إيقاع.

قلت مبتسمةً وكأنني أبرّر بقائيَ المغناطيسيّ حذاءه:

 يجب أن أنزل في قسم الجراحة ونسيت نفسي

قال:

 وأنا سأنزل في قسم الجراحة

واقتربنا سويّة من الباب عندما كان المصعد يتهادى قبيل الطابق الثالث.. رأيته يتفحّص لوحتي الإسمية من خلف نظارته فعرفت أنّ اسمي صار معروفاً.

خرجتُ قبله مسرعة وكأني على عجلة من أمري، وتركني أسبقه.

كنت سعيدةً ساعتها وكأنّي أوقعته في شبكتي، وسعيدة حتى ولو اعتبرت نفسي سمكة علقت بخيط صنارته لكنه ترك لي الخيط طويلاً لأسبح وأمرح قليلاً قبل أن يجذبني إلى سلّته..كمسألة وقت.

وانشغلتُ في غرفة التمريض حيث المهام الكثيرة تتوازعها كبيرة الممرّضات عليّ وعلى زميلاتي، وغرقت في تنفيذ الأوامر الكثيرة.

وقلت في نفسي..أما من استشارةٍ لمريض أستدعيه لينفّذها؟

أما من طريقة ألتقيه فيها فيُفصح لي عما يُخفيه خلف ابتسامته التي تتمطّط بوجودي؟

أظنّ أن لديه كلاماً ما وأشتاق أن أسمعه‍!

الأيام الوظيفية تمضي برتابة، وصادفته كثيراً بشكل عفويّ ومصطنع، واقتصرت علاقتنا على ابتسامات متبادلة وارتباكات في تصرّفاتنا تنمّ عن اختلاجات وخفَقات وإخفاقات، واهتمام واضح به بدا جلياً عليّ والتقطَته زميلاتي..وكنت أكثِر من التبرّج والتعطّر في الأيام التي أعرف أنه سيكون فيها موجوداً في المشفى.

عرفتُ بطرقي الخاصة أنه على خلاف معقّد مع زوجته الطبيبة، ولا أدري إن كان قد سأل عن وضعي وظروفي كأرملة شابة استشهد زوجها في الحرب بعد شهرين من زواجها.

وعرفتُ أيضاً مكان عيادته الخاصّة التي يداوم فيها مساءً، وأرسلت له مريضة من قريباتي تعاني من كتلة في الثدي، وألحّت تلك المريضة عليّ إلا أن أرافقها.

في مكتبه الخاص كان مصرّاً على ممارسة ابتسامته المدروسة وكلماته القليلة، وعيونه الخفيضة التي ترمقني من خلف عدساته السّميكة، وكان لابد لنا من تكرار زيارته لأتفه الأسباب، وكان سهلاً عليّ أن أتصل به من أجل موعد قادم.

وما عدنا نمارس الابتسامات والاختلاجات والخلجات في المشفى، إذ صرنا نمارسها في عيادته، ونتكاشف لبعضنا كم نخفي وراء ابتساماتنا المصطنعة من غصّات ومنغّصات وقروح ودموع.

العمل الوظيفي ـ يا صديقتي ـ لا يسدّ إلا الرّمق في ظلّ الغلاء المستشري وتداعي العملة الوطنية، وفشلنا الاجتماعي يزيد الطين بلّة، والأفق ملبّد بما لا يبشّر بانفضاض الأزمة.

ما قال يوماً إنه يحبّني، وما امتدّت يده نحوي إلا ليصلح وضع نظارته الثقيلة، وقد يزيلها عن عيونه ويمسحها بطرفٍ من مريلته وينظر إليّ من خلال عدساتها ليتأكّد من نقاء زجاجها، ويعود ليثبّتها ويعدّلها فترى عيونه التائهة الباحثة عن هدفٍ ما مع أني جالسة قبالته.

وما سمح الشرع له بطلاق زوجته ولا أصلحت الأيام بينهما، ولا أدري إن كان طموحي يسمح لي بأن أكون البديلة..

 وهل تكون بديلة الزوجة الطبيبة ممرّضة؟!.. رغم أنكِ أكثر جمالاً منها، لكنّ هذا الطبيب له أهداف أخرى.

قالتها لي إحدى الزميلات لتكبح جماح جنوحي نحوه، وقالت إنّ سقف آمالي معه لن يتجاوز خلوة عابرة، فقصص الأطباء والممرّضات معروفة ويعتبرونهنّ كاستراحة المحارب في بعض الغرف المهملة.

وقلت في نفسي غير مبالية..فليكن‍!

ولينتهِ مسلسل الابتسامات والاختلاجات في نزوة أعترف فيها بخطيئتي عند الكاهن، والله غفور رحيم..ولكن كيف؟..ولا قدرة لي على كسر حاجز قلّة كلامه وضعف إقدامه وفتور عواطفه.
كان يعلم بأني أنتظر منه خطوة ما، وكان يخاف أن أنعته بالجبن أو الخجل، لذا قال لي مبرّداً حرارة ترقّبي:

 قريباً جداً سأقوم بخطوة جبّارة تصلح ما أفسده الدهر..وبضعة أيام فقط وسأفاجئكِ بخبر ينهي انتظاراتنا فيقلع قطارنا المتوقّف في سكة مشتركة.

وكنت أتخيّل أنواع الحلول المحتملة التي سيزفّها إليّ.

كم كان سعيداً ومستبشراً عندما دعاني إلى مكانٍ عام وقد تأبّط مجموعة من الأوراق..قسمها على الطاولة كمجموعتين وقال:

 لقد ظفرت بعقد عمل لنا نحن الاثنين في الخليج العربي..وهناك سنبعد عن محيطنا الجامد والمتجمّد، فنكسب ما يزيد عن الرمق ونعيش سوية قريبين متقاربين بلا قيودنا العائلية والمجتمعية.

وبدون تفكير قلت له:

 نعم سأسافر معك ولو إلى جهنم..سنسافر كالمرتزقة إلى جبهة أخرى للجهاد المأجور.
 نعم..وفي استراحة المحارب هناك سنكون مع بعضنا بلا رقيب.

وفي مستشفيين متباعدين صرنا نعمل في محيطٍ أكثر جماداً وتجمّداً وجموداً، وصار صعباً عليّ أن ألقاه وأرى ابتسامته حتى، اللهم إلا في صفحات الهاتف الذكي.

قلت له، وبعد سنتين من ممارسة الابتسامات الالكترونية في مستشفيات الخليج:

 لماذا سحبتني وراءك إلى هنا وما كنت أريد مزيداً من مال؟

قال بثقة..وللمرة الأولى شعرت به يقول الحقيقة:

 كانوا يطلبون طبيباً وممرّضة وقد اخترتك أنتِ لتكوني معي.

قلت..ولا أدري لماذا ارتفع صوتي فجأة:

 اخترتني أنا؟!..وما التقينا هنا أو هناك يوماً؟

وبلا تردّد أجاب، لأنّ أجوبته كانت جاهزة ومدروسة كابتسامته اللبقة:

 اخترتك كممرّضة فقط‍!

عندما عدنا إلى الوطن وقد انتهى عقدنا بلا تجديد..عاد ليمارس ابتسامته السّكوتة معي ومع غيري من المتلهّفات لما بعد الابتسامة.

وكنت أقابل ابتسامته بتقطيبٍ مفتعل وتوجّس وهروب، وعندما نلتقي وجهاً لوجه بمحض الصدفة كان يهرب من وجهي ويعود ليدقّق في لوحتي الإسمية المعلّقة على صدري..لا لشيء إنما ليؤكّد لي أني مجرّد ممرّضة، وأنه أيضاً نسيَ اسمي.

ويتساءل الناس لماذا يموت الأطباء كثيراً في زمن الكورونا؟..لا بل ويسمّوننا الجيش الأبيض‍!
والجواب ببساطة، لأنّ الأطباء يستهترون بالكمامات.

لا لشيء إلا ليظهرون لنا ابتساماتهم المفخّخة..وللأسف يحصون الخسائر بطريقة الجيوش فيذكرون اسم الطبيب الشهيد كبطل، ويضيفون أنه استشهد معه لفيفٌ من ممرّضات..هكذا بلا أسماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى