الأربعاء ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٩
فانتستيك السِّيرة الروائية،
بقلم رشيد سكري

من خلال «سيرة المنتهى» لواسيني الأعرج

في الحكي و تقنياته توجد السِّيرة الروائية، بعوالمها المغرية و أفضيتها السَّاحرة وأزمانها وأحيازها الباهرة، وشخوصها و ما تثيره من وفير الخيال و الحنين و الوجع. إن منطقها السردي يعمل في الخيال، بما هو وجه آخر لحقيقة الجمال، الذي يوطد علاقتنا بخطابها وألاعيبها. فضلا على أنها، كنظرية، تعتبر قسيم نظرية الأدب، أو عندما أراد المفكر الدكتور الجزائري عبد المالك مرتاض أن يضعها في إطارها العام، ألحقها بجنس الرواية، فقال: الرواية، هذه العجائبيَّة.

يشمل الفانتاستيك الروائي، بالإضافة إلى زاوية الرؤية التي يخرج بها الكاتبُ إلى العالم، الكيفية التي تجعل من الروائي محايدا في فعله الإبداعي غير خاضع لمؤثرات خارجية أيّا كانت مصادرها. أسوة بما فعلته الدكتورة الشاعرة زينب الأعوج، زوجة الروائي العربي الكبير واسيني الأعرج، حينما تركت، هذا الأخير، على شفير سقوط في غرفة انتظار من سيرته الذاتية"سيرة المنتهى عشتها... كما اشتهتني"، وفضلت الابتعاد عن جـُذوة هذا النص السيري الباذخ، والانضمام إلى سائر القراء يوم توقيعه. في ذات المقام، يصبح المبدع تحت رحمة الذاكرة و إيحاءاتها الغريبة و توجُّساتها المخيفة، التي تشمل معارج سماوات، وفلكيات تـَحَوُّل مقيم نحو كشف مستور هذا الوجود الرمزي.

يظل الفانتاستيك الإبداعي شفيفا، عندما يقلب الكاتب، على غرار واسيني، وجع التذكر بأساليبَ، قريبة من النص الصوفي على عهد ابن عربي و النـِّفـَّري، بعيدة عن المألوف والبديهي من نصوص السير ذاتي العربي. سَفر في كونيات الثقافة، من تاريخ لم يكن لنا فيه رأي إلى حدود مشارف غياب قمين بالامِّحاء في معان و قيم، من خلال أسس تشرعن المرور و الغزو الآمن، حسب غاستون باشلار، نحو إعادة كتابة هذا التاريخ، أو عبر البحث عن أصول و تأصيلاتها في برٍّ آخرَ من دهاقنة الفكر و الثقافة الإنسانية من أمثال: سيمون دو بوفوار، و مخذوع وهران ألبير كامو وأناييس نين وغيرهم. يسعى، فيه الكاتب، إلى البحث عن قيم مفقودة، سواء في المشترك القريب و البعيد من الثقافة العربية و غير العربيَّة، أو إلى تأصيل أصول تستغيب و تستغيم في يوم غائم، مادام المشترك الإنساني هو المحرك الأسْنى لعجلة هذا التاريخ المعطوب.

ولمَّا كان الإبداعُ قطعة من لحم و دم، سَار واسيني على درب البناء والتشييد لتجربته العاطفية والحسية في"سيرة المنتهى"، جاعلا منها ـ أي التجربة ـ نـُسكا يفيض ألما وأملا، جرَّاء صوت غامض يؤوبُ في المنتهى. يقول:

ـ شيطانة مأخوذة بك. بالضبط يا قلبي.

ـ لم أقصد... عفوا.

ـ سمعت صوتها، ثم صوتي، في داخلي.

لعبة الأصوات و تراسلها، شهب بوليفونية تقتص من الفانتاستيك ـ كما يقتص الحَطابُ من جذع نخلة، كانت بالأمس القريب يستظل بفيْـئها الوارف ناسكون و عُبَّد و عابرو سبيل ـ وتجره نحو الاعتراف بباقي الوحدات في العمل الإبداعي، مع الحرص كل الحرص ألاَّ يهيمن طرف على باقي الأطراف الأخرى. ومنه فلعبة التوازنات، داخل السيرة الذاتية، تشغل مساحة كبيرة في المتن الحكائي راهن عليها واسيني انطلاقا من دهشة الجبل الأعظم إلى حدود تيهانه تحت عباءة المحارب دون كيخوطي. ومن هنا نستحضر ذلك الشموخ الذي وقعه الكاتب، عبر المكاشفات و الانتقادات، غير المصرح بها، التي وجهها إلى الذات و الآخر عبر مسار التاريخ الإنساني.

لم يكن لِبَانُ الحكي في"سيرة المنتهى"ذاهبا نحو غيْمة المشتهى فحسب، وإنـَّما هو دعوة صريحة إلى تشكيل فسيفساء تاريخ الذات، وما يعتورها من حفر لا تكف عن الامتلاء في هذا العالم الفسيح. وذلك، حينما سئمنا تاريخا مليئا بالأعطاب و الحفر. إن العودة إلى الذات مشوبة بحذر و قلق وجودي، أو دهشة في محراب كلمة تضيء الصَّريم. يقول واسيني:"شيء من جدي الرُّوخو يملؤني، الآن، لدرجة أنه لم يترك متـَّسعا لغيره في قلبي و هواجسي... و التي دفعته أحْيَانا إلى لعن اللحظة التي قادته صوب أرض لم تكن أقل بطشا من الأراضي الأخرى".

فبالرغم من حكي مُمَركز و مُبَأَّر حول ذات الكاتب، إلا أنه استطاع أن يفصل بين"الأنا"السردي و"الأنا"الراوي، مما ألقي بظلال عريش الزمن و هرعه نحو الشيخ الأكبر، مُحي الدين بن عربي.

إن لعبة الزمن في"سيرة المنتهى"شبيهة برمية نرد على طاولة الندماء، وجه يظهر وآخر يتوارى مدسوسا و ملغوما، تكشف عنه لحظة اليقين. ولأن الزمن خطيٌّ، فإنه يظهر ويختفي كومضة ضوء تستفزُّ وَتـْغ العتمات. فالزمن موجود يخامرنا في سيرة واسيني، انطلاقا من الجد البعيد الروخو الأندلسي، و ذكرى وجع هزيمة سقوط غرناطة ونازحين مورسكيين، إلى حدود الوالد وما ولد. وفيه تشتد قوة الانحدار، نزولا إلى جذور شجرة العائلة مع الأب الشهيد والأم ميما أميزار، حمَّام الملائكة. يقول الكاتب:"وعندما انتهيت من حمام الملائكة، رأيت اليد الناعمة تمد لي الفوطة الكبيرة... بقيت اليد الممدودة لحظات معلقة في الهواء، وأنا أتأمل أصابعها التي شعرت بها أليفة جدا". فما كان لجسد

الملائكة، إلا أن يصبح منذورا للتربية و الإقامة الدائمة فيها، بهدف تنشئة اجتماعية مسجورة بدفق الحنان والتحنان. سيما وأن الفراغ الذي خلفه غياب الأب الشهيد جعل، على جرف هار، أسرة واسيني الصغيرة، كسائر الأسر العربية الباتريركية، التي توطن الأب في قلب العمود و النصب لحملها، و الدفع بها نحو شاطئ النجاة.

لكن، إذا كنا نشعر بوهمية الزمن، فأيُّ إقامة في سيرة المنتهى تلبس لبوس السقوط والتأمل و الحذر و الخوف و الألم، شبيها برقصة ثور مذبوح في الكوريدا الإسبانية. كانت وهمية الزمن تتمثل في التنبُّؤِ بتغيير مسار التاريخ في تلك الربوع العربية، لو لم يتم طرد المورسكيين من الأندلس بعد سقوط مدوٍّ ومهين لغرناطة. وفي ذلك كله، يقترب واسيني الأعرج بخطى المشَّاء الواثق من"ثلاثية غرناطة"لرضوى عاشور، عندما سُحل المسلمون على أعتاب الكنائس و المساجد و المعابد القديمة، وطردوا شر طردة، وافرنقعوا شر افرنقاع. فغرناطة ذلك الحلم المُنمنم في الكرى، ولكل غرناطته حسب لويس أرغون أو مجنون إلسا، كما أشارت رضوى عاشور في إحدى محاضراتها التي ألقتها الدكتورة في مدريد و غرناطة بمناسبة الترجمة الإسبانية للروايتها.

لكن، كيف لهذا المشاء على سدرة المنتهى أن يصبح مضاهيّا، في بهاء، دون كيخوط زمانه؟ أهو مسكون بإعادة، إلى الخلف، بندول تاريخ عربي ميـْسمه هزيمة فكرية وحضارية ـ نزَّاعة الشـَّوى، لتدارك زمن وجيع بائد؟ أم حبه للمغامرة و عدم الاستسلام، و تعلقه الجامد بسُجوف الحياة، خلق منه إنسانا قابلا للتحول و الإبدال، بل قابلا للتشوه إلى حد المسخ الكفكاوي؟
في"سيرة المنتهى"، لواسيني الأعرج،عشق و وله إلى حد الجنون لحياة من خلال الزمان و تعلقه الدائم و المستمر بأهداب المكان أيضا. عشق الحياة يظهر في الحياة نفسها، من دون مواربة ولا خذلان و لا مخاتلة. يقول الكاتب:"لا علاقة لها بها كنت قد خططت له من قبل أو جئت من أجله. من اسم أمطار أمستردام، إلى شرفات بحر الشمال. لهذا أشعر دائما أنه لا شيء يضاهي قوة الحياة". يخطو واسيني في"سيرة المنتهى"خطوة أبعدَ و أشملَ في الشعور بالإحساس، والتذوق لعلاقات كان يربطها مع قوى فاعلة في السيرة، فضلا عن تشبثه القوي الجامد بالحياة من خلال شرفة الجدة"حنا فاطنة"التي تطل على حدائق تصوف الشيخ الأكبر، ليتحول فيما بعد الى حفنة من نور تضيء. بالموازاة، استطاع الكاتب أن يعرّج إلى السماوات، في لحظة صفاء و طهارة برفقة جده الأول الروخو، استشرافا للمكان الطاهر، مبعث النور و الضياء.

من خلال البناء الصوفي المتماسك السَّدَى، تمَّ تشييد"سيرة المنتهى"لواسيني الأعرج. وفيها عشق ووجدٌ لمحكيات مقام الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي من خلال أواصر رحلت صاعدة في التاريخ البعيد، تاريخ الأندلس، نازلة في دهشة المكاشفات، التي تغذي النص السيري.

فضلا عن شرعنته مبادئ التقارب المحتمل بين مختلف الأديان. وفي معنى ذلك، استطاع واسيني في"سيرة المنتهى"أن يخلخل ثوابت أشكال السرد في التراث العربي، مقانيا بين الصوفية و التاريخ، وبين الخرافة و الأسطورة و بين الذات والآخر في وَجَدها السَّرمدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى