الأحد ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم نايف عبوش

من هدوء الطبيعة إلى ضجيج العصرنة

حتى نهاية خمسينات القرن الماضي، كان الناس في مجتمعاتنا عامة، والريفية منها، بشكل خاص، يتعايشون مع عناصر الطبيعة، مكانا، وزمانا، وكائنات، بشكل مباشر. فكانوا يرعون اغنامهم في البرية سرحا وراء الكلا، ويردون شواطئ الأنهار ورداً، لأسقاء انعامهم، ودوابهم.

كما كانت النسوة، والفتيات، يجلبن الاحطاب، ويلتقطن بعر الاغنام، كوقود للطبخ، وسجر تنور الطين، لعمل الخبز اليومي. في حين كان الصبية يلعبون في العراء، ويسبحون في النهر صيفاً،دون منغصات ضجيج، غير التعب البدني، وحسب.

ولم تكن البيئة اذ ذاك، قد تلوثت بعد، بهذا الشكل المقرف، الذي تشهده اليوم، لا من حيث اتساخها بالنفايات، ولا من حيث صخبها بالضجيج. فلقد كان الإنسان يمشي في الدروب النيسمية في الفلاة، راجلا، او راكباً حماره، او ممتطيا فرسه، ولا يكاد يسمع الا حفيف الريح، ان هبت، او صوت الرعد، إذا تلبد الجو بالمزن، او زقزقة العصافير، وطقطقة اللقلق في عشه بأعلى غرفة الطين. في حين اعتاد ان يسمع ثغاء الاغنام، ونهيق الحمير عند العودة من السراح، إلى المراح، ونباح الكلب على اللصوص ليلاً، والغرباء الذين يقدمون الدار، او يمرون بالقرب منها، و طرد ابن آوى عن قن الدجاج، عندما يحاول بدهاء اكل الدجاج، في غياهب الظلام، او عند الفجر. اما مواء القطط، وصياح الديكة، فقد كان ينساب إلى مسامع الناس بسلاسة، ووداعة،مؤذنا بحلول وقت السحر، وانبلاج الفجر.

تلك الأصوات كانت نغماتها نابضة بحياة فطرية، تبعث السعادة في نفس انسان الريف، حتى انه كان يحاكيها بنفس نغمتها، عندما يطلبها للورد على البئر، او يستدعيها للرعي على المعالف، او يهشها للابتعاد عن الرعي في الزرع. او يدفعها للأيواء، والمبيت في زرائبها ليلاً.

أما بيئة اليوم، فقد تلوثت بمخلفات الصناعة، هواء، وانهارا، ومحيطات. ومما زاد الطين بلة، ذلك النوع من التلوث بالضجيج، الذي احدثته المانيفاكتورة، والمصانع، والسيارات، والطائرات. على ان ضجيج الأجهزة الرقمية الخافت، شكل صخبا من نوع آخر، اكثر امعانا في انهاك مزاج الناس، حيث يستلب راحتهم بالوميض، والنغمة، والانبثاقات المتتالية، خاصة وانها تنبيهات دورية، تستولدها في اللحظة تطبيقات مبرمجة، لا تعرف قيودا تمنعها من الحدوث، والتكرار، غير محددات مبرمجها.

وهكذا بدأ الناس يعيشون حياة يومية صاخبة، تفتقر إلى وداعة، وهدوء طبيعة ايام زمان،حيث ازدحمت الحياة بضجيج العصرنة الصاخب في كل الاتجاهات، فأرهقت الإنسان حقاً ، مسببة له اعتلالات المزاج الدورية، وعكرت عليه وداعة هدوء الطبيعة، حتى ضاق ذرعا بالحياة، على ما حققته له العصرنة من منافع، ورفاهية، لا يمكن نكرانها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى