الأحد ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٧
بقلم إبراهيم أبراش

نحو مراجعة استراتيجية للفكر القومي العربي

من كردستان في العراق إلى كاتالونيا في إسبانيا واسكتلندا وأيرلندا في المملكة البريطانية وقبلهم الصرب والبوسنه والتشيك والسلوفاك،وعشرات الحركات القومية على مستوى العالم تطالب بحقها في إقامة دولتها القومية الخاصة بها،بعضها أقام دولته القومية وأخرى تناضل لتحقيق ذلك. لا شك أن لكل حالة من هذه الحالات خصوصيتها التاريخية وإشكالاتها السياسية وخصوصا مع الدول التي تحتضنها، وحتى إشكالات قانونية دولية فيما يخص مفهوم حق تقرير المصير القومي ومدى تطبيقه إذا ما أخل بسيادة الدولة الأم واستقرارها وحدودها المعترف بها دوليا، ولكن المهم أن العالم يشهد موجة جديدة من النهوض القومي.

أسباب كثيرة تفسر ظهور النزعات القومية منها: فشل العولمة الثقافية،انهيار إمبراطوريات أو دول اتحادية،أزمة الدولة وغياب الديمقراطية التي تؤسَس على المواطنة التي تساوي بين جميع ساكنة الدولة دون تمييز على أساس ديني أو إثني أو جهوي،وتدخلات دول الجوار بإثارة النزعات الإثنية /القومية لتحقيق مصالح خاصة بها الخ.

العرب وحدهم من بين كل شعوب الأرض الذين لم يتمكنوا من تحقيق دولتهم القومية ليس هذا فحسب بل إن الفكر القومي العربي في حالة تراجع وانحسار،مع أن العرب يتوفرون على كل خصائص وسمات الأمة من لغة مشتركة وتاريخ وعادات مشتركة وتواصلهم الجغرافي. في منطقة الشرق الأوسط – ومسمى الشرق الأوسط بحد ذاته مسمى غربي هدفه تغيير مسمى العالم العربي وإسقاط هويته العربية – يوجد مشروع إيراني فارسي ومشروع تركي عثماني ومشروع إسرائيلي صهيوني ومشروع قومي كردي ومشاريع إسلاموية ولا يوجد مشروع قومي عربي.

كل هذه المشاريع معادية للمشروع القومي العربي فكرا وممارسة، بل إنها تنهض وتتوسع على حساب أراضي الأمة العربية،ليس هذا فحسب،بل إن الدولة القطرية أو الوطنية التي كان يُراهن عليها كنقطة انطلاق نحو الدولة القومية الشاملة تتعرض للتفكيك والعودة لمرحلة ما قبل الدولة،ولم يكن عبثا إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق،استهداف معمر القذافي وقتله بغارة أطلسية،وتخريب وإضعاف الدولة السورية،ومحاولة خلق فتنة في مصر العربية.
إن كان لا يمكن إسقاط نظرية المؤامرة كأداة تفسير لِما أصاب ويُصيب الأمة العربية من ويلات إلا أنه يجب الحذر من اختزال وتفسير ما يجري بفكر المؤامرة،لأن ذلك سيخفي حقيقة الخلل الذاتي في الفكر القومي من حيث التكوين الأول والخلل في الأدوات التنفيذية لهذا الفكر،ونقصد هنا الحركات والأحزاب التي رفعت رايته ونصَّبت نفسها ناطقة باسمه،كحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والحركة الناصرية.

فمن حيث التكوين فقد ظهر الفكر القومي العربي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما كان العرب جزءا من دولة الخلافة العثمانية وذلك من خلال بعض الحركات القومية العربية الصغيرة كجمعية بيروت السرية وحزب العهد والعربية الفتاة، حتى (الثورة العربية الكبرى) بقيادة الشريف حسين وأبنه فيصل 1915 يمكن نسبتها للحركة القومية العربية.

هذا الظهور المتأخر عن ظهور الفكر القومي في أوروبا بحوالي قرنين من الزمن يعود لأن العرب كانوا جزءا من الخلافة الإسلامية وبالتالي جزءا من مشروع إسلامي يحكمه خليفة غير عربي، ولم يبزغ الفكر القومي ويتجرأ العرب على الحديث عنه وتجسيده بحركات سياسية إلا بعد أن ظهرت النزعة التركية الطورانية وتجرؤ قوميون ليبراليون أتراك على تحدي الخلافة العثمانية وتأسيس حركات قومية تركية كـتركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي ثم ظهور مصطفى كمال اتاتورك (1881-1939) مؤسس تركيا الحديثة.

ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحرر العرب من الحكم العثماني أصبح العرب أكثر جراءة في التعبير عن نوازعهم القومية وتجسد ذلك بالحكم الفيصلي في سوريا (1918-1920) الذي تم إسقاطه من قِبل الجيش الفرنسي في موقعة ميسلون، وبعده ظهر حزب البعث العربي الاشتراكي وبقية الحركات ذات التوجهات القومية العربية،إلا أن هذه الحركات كانت تصطدم بواقع التجزئة من جانب وبممانعة غربية قوية لأية محاولة لتوحيد العرب في دولة واحدة من جانب آخر.

بالإضافة إلى ملابسات التأسيس والمعيقات والتحديات الخارجية فإن أوجه خلل بنيوية وفكرية لعبت دورا أساسيا في تعثر الفكر القومي العربي الوحدوي وفي عدم تحقيقه للدولة القومية العربية كما جرى مع الفكر القومي في أوروبا، ويمكن تلخيص أوجه الخلل مقارنة بما جرى في أوروبا ودول أخرى بما يلي:

الفكر القومي والدولة القومية في أوروبا ظهرا بعد الثورة الدينية والفصل بين الدين والدولة بحيث كانت الدولة قومية وعلمانية في نفس الوقت، وهذا ما لم يحدث في العالم العربي حيث لم يتم الحسم في علاقة الدين بالدولة.

الدولة القومية في أوروبا لم تواجه بتحديات خارجية كالاستعمار،بينما العوامل الخارجية كانت معيقة للفكر القومي العربي وللوحدة العربية.

ظهر الفكر القومي والدولة القومية في أوروبا في ظل عصر النهضة والتنوير وتزامنا مع الثورة الصناعية، أما في العالم العربي فإن الفكر القومي ظهر في ظل مجتمع عربي متخلف اقتصاديا وثقافيا.

الدولة القومية في أوروبا بصورة عامة كانت دولة ديمقراطية تحترم الخصوصيات الثقافية للقوميات الأخرى وتحترم حقوق الإنسان داخل حدودها،وكانت دولة كل مواطنيها وليس دولة قومية بعينها،باستثناء المرحلة الأولى لقيام الدولة، بينما في العالم العربي فإن الفكر القومي كان أقرب للشوفينية والانغلاق.

تم أدلجة الفكرة القومية العربية ومصادرتها من طرف أحزاب متعارضة ومتصارعة فيما بينها،كما أن الأنظمة التي حملت راية القومية كانت أنظمة غير ديمقراطية وعسكرية.

الفكر القومي في أوروبا تغلغل إلى الثقافة الشعبية،أما في العالم العربي فكان فكر نخب.
تأسست فكرة الوحدة القومية سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول كما جرى مع الاتحاد الأوروبي على المصلحة العامة،بينما في العالم العربي كان الفكر الوحدوي ومساعي توحيد الأمة يتسم بالمثالية والعاطفة،وفي بعض الحالات كانا أداة لخدمة مصالح أنظمة الحكم وليس لتحقيق مصلحة مشتركة للأمة.

وملخص القول،لا شك أن كثيرا من العقبات والتحديات تواجه إحياء الفكرة القومية العربية بحيث سيبدو من يرفعها أو يطالب بالوحدة العربية كمن يسبح عكس التيار أو أنه رومانسي حالم، إلا أن هناك ضرورة ومصلحة مشتركة لكل العرب ليستعيدوا مكانتهم كأمة وكمشروع قومي وحدوي،والمدخل لذلك إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية حضارية،والانطلاق منها نحو الوحدة العربية، وما يجري في سوريا وفي مصر من استعادة الدولة الوطنية مكانتها وانتصارها على الطائفية والفوضى والجماعات المهدِدة لوحدتها،يؤشر على بداية مرحلة جديدة،ولكن الأمر يحتاج أن يستعيد المفكرون والمثقفون القوميون العرب ثقتهم بنفسهم ويعملوا على تجديد الفكر القومي بما يتناسب مع متطلبات العصر وخصوصا الديمقراطية وثقافة الاعتراف بالآخرين الذين يشاطرونهم العيش المشترك في الدولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى