السبت ٢٣ آذار (مارس) ٢٠١٩
قراءة في المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

هالدول أو"جرعات الهذيان"

من الوهلة الأولى يشدك العنوان كعتبة نصية وجب البحث فيها لمعرفة كينونة المحتوى الذي يرمي صاحبة بثه في المتلقي"هالدول"و التي عرفها الشاعر بكونها"جرعات الهذيان"لنبحث في مفهومه و معناه العلمي فــ: هالدول"Haldol"تُستخدم في حالة اضطرابات نفسية و انفصام الشخصية كما انه مضاد للذهان لاحتوائه على بعض المواد الحاملة لكثير من الفوائد القادرة على تحسين الحالة النفسية و الانفصام الشخصي فهو اضطراب نفسي يؤدي إلى تغير سلوك الفرد ويكون له تأثير سلبي على التصرفات و أخذ هالدول يعمل تحسين الحالة المزاجية وتنشيط المخ بشكل إيجابي.

و هذا ما فعلته المجموعة الشعرية"هالدول"أو جرعات الهذيان للشاعر محمد شوشان الصادرة عن دار ديار للنشر و التوزيع حملت أشكال وألوان تعبيرية شتّى ومعاني كثيرة على مساحة 137 صفحة و التي ضمت في طيّاتها 43 قصيدة نثرية أضفى عليها صاحبها مسحة موسيقية و إيقاعية وشحت قصائد المجموعة.

و لكن"هالدول"له آثار جانبية أخرى لم يغفل عنها الشاعر الذي يعيش جملة من الحالات الوجودية من وجع و قلق و حزن و ألم. و من هذه الآثار الجانبية نذكر منها على سبيل المثال الخوف و النسيان و الارتباك و الإغماء و قد ركز الشاعر هنا على ظاهرة النسيان لتظهر بشكل مختلف في مترادفات كلمة"تذكر"و التي عبارة عن خلجات النفس و الروح التي تبثها الذاكرة من حين لآخر بتذكره و ذكراه التي ينشرها الشاعر أشرعة للهروب من الواقع حيث تكررت 11 مرة لتعبر تارة عن التذكر يقول: (ص35)

"أذكر موتي المحاذي لصوتك
وكبرياء الرحيل
يشتد...
أذكر رجلا هناك على حافة الحلم"

و تارة أخرى عن الذاكرة يقول (ص46):

"خذ هرتقطك يا ليل
و هيا...
خذ ما تيسر من ليل المواجع،
و بعضا من ذاكرة هذه المقبرة"

و كذلك حين يقول في موضع آخر (ص117):

"ليالي الحانات...
عساكر الدجى انهمرت...
تساقط دبيبها...
يقرع الذاكرة.
ماذا ترى يفعل الموغلون، في جسدي؟
في ليلي؟
الليل مواء قطط شرشة،
الليل ثرثرة نديم على حافة الذاكرة"

فهو يصنع من الذاكرة و الفكرة نصا شعريا راقيا فيه من الصور الرائعة و المخيال، ما يجعل نصه يبحر بنا نحو عوالم الإنعتاق و التحرر من سلطة الذات الشاعرة التي صرعته فصرعها.و لكن هذه الذاكرة تقارع الليل تتخفى بستاره، كأن الليل هنا مصدر راحة نفسية و مصدر بحث عن الذات و أحيانا يكون أحن عليه من الوجع يقول: (ص94):

"أضيء ليلها...
أسقي وردة معلقة بظلمائها
الليل أحن على وجعي
الليل حجاب الورى..."

فالشاعر محمد شوشان مرتبط بواقع أليم و بماض يسبح في وجع و يغرق فيه، فهو يرمي شباكه في خواطر الآخرين ليفتح أبواب عواطفهم و خلجات أنفسهم يطوعها و يبثها كما يراها في كتاباته، فيغدو حزينا يبحث عن الأمل المفقود في واقعنا المتخبط بين أوجاع (تمسح وجع القبيلة(ص39)- خذ ما تيسر من ليل المواجع(ص46)- قلبت مواجع العمر(ص57)- وجعا طويلا(ص59)- من وجع الأسئلة(ص61)- في اشتباكه الموجع(ص67)- أوقدت له من وجعي(ص85)- لك صورة من الوجع المضمخ(ص84)- كي أنام على وجعي قريرا(ص84)- الليل أحن على وجعي(ص94)- كم يربكني وجع السؤال (ص110)- ثمة حلم شفيف تستر به وجعك (ص114)).

و هو سبب رئيسي ليبحث صاحبنا عن ترياق يسكن خوفه و ألمه وتعبيرا شعريا شفافا للمشاغل التي تحيط بالشاعر. لينزع من دفء الكلمات مهدئا يسكن روعه بين حين و آخر.

فالحلم هو الذي حرض الشاعر للكشف عن الحالة النفسية التي يدخل فيها الشاعر كلما عاوده الانفصام ليرى نفسه و يكشف روح التأويل في ذاته و ذات المتقبل، فهو لن يعيش"خارج متاهة الحب و الحلم و الحياة"(ص76) و هو ذات الحلم الذي يستر به الوجع"ثمة حلم شفيف تستر به وجعك"(ص114).

فالقارئ وحده الذي يقرر كيف يفسر المعنى الحقيقي الذي يرمي من خلاله الشاعر بث أنفاسه لأن الشاعر لا يزور أرضا بكرا و لا يكتب نصا من فراغ. يقول (ص7)

"أكتب...
لمن كانت عيناك خرافته
أكتب...
لمن سكن الدروب العنيدة
و شدا"

وهذا ما يجعل نصه يطلق الأجنحة للحديث عن مواضيع إنسانية أهداها (ص5):

"إلى المعدمين و المهمشين قصرا،
إلى الأغبرو الأشعث،
إلى الأبكم و الأصم،
إلى الأعرج و الأسود..."

الشاعر هنا يستعمل لفظة"الروح"و التي تكررت بدورها (16 مرة) للتعبير عن أحاسيس أخرى شكلت دلالات مختلفة للواقع الحقيقي و الذات الشاعرة، ليعبر عن حالة الخضوع المنبثة في ثنايا النفس يقول (ص51):

"يا وطني...
روحي فديتك،
بل كبدي
و صداها يعانق أرجاءك يا بلدي...
الروح ينفث في الصدر
الدم ينضح للصبح
الذكرى تفني أعوادي"

و إذا توقفنا عند لفظة الحلم (28 مرة) كذلك لوجدنا هذه اللفظة تنفتح على دلالات عميقة تتصل بالذات الشاعرة في أزمنة مختلفة، فهي تبحث عن زمن غير زمن واقعي مألوف يقول (ص74):

"في هفواتها المشتهاة كانت مسفوحة
في سلوكات حلمها
الحلم المحترق في عنفوان شمسه...
هناك أبتغي مرة أن أضمني للحلم
و أضمك
حلما حلما"

كما أن هذا الحوار الهادئ تارة و المتشنج تارة أخرى بين الشاعر و قصيدته ما هو إلا نوع من الصراع الداخلي:و لده تكرار حرفي"السين"و"الشين"و التين تجسدان بنغمة هادئة حزينة مشاعر الاكتئاب و حالة الحزن التي ظهرت على نفسية الشاعر و هو يحاكي نصه مما ولد جمالية ايقاعية ظهرت لتزين المضمون الشعري بهيمنة بعض الحروف دون سواها على النص. وهو ما عبر عنه في قوله (ص 88 و89)

"ثلاثون سنة من الرقص على خاصرة الجرح،
ثلاثون شهقة في النشاز المموسق،
في العزف لوتر مشدود
لا تهتمين...
تلك مسارات الأشياء،
بلغت الأسماء حدتها...
انكسر الكلام المرشوش على بلور العمر."

و كذلك حين يقول في نص"الخرير"(ص31):

"صوت الماء
تموجات النسيم الخفيفة
دغدغات الموسيقى الحالمة
و هذه السنديانة الراقصة
على إيقاعات الليل.

و هذا الإيقاع ترافقه موسيقى داخلية عذبة تعبر عن الحياة و الماء يعبر عن الحركة الدائمة و صيرورة الأشياء، و هذا ما جعل الشاعر يسعى للبحث عن الحياة التي يحلم بها. حيث الحركة و الحرية و الإنعتاق حيث يقول (ص31):

"جاءت فاتحة...
تعلمنا كيف نرسم الحياة،
رونقا جميلا
تعلمنا كيف نعانق وجه الماء"

ليطلق العنان لهمساته و هي تطرق أذن السامع و كتاباته و هي تشق طريق القلب. خاصة عندما نلمس ميل الشاعر محمد شوشان إلى استخدام المفردات ذات العلاقة الوطيدة بحياته اليومية و خاصة عندما يتعلق الأمر بالحضور المكاني ليصف الراهن الموجع و الألم بكلمات تشغل الشاعر بقضية الوطن و هموم الأمة حين يقول في نص"وطن..ما"(ص43)

"في وطن عربي
نتكئ إلى طاولة فقرنا،
نرتب فوضانا
نهلل لكرامة الجياع،
حين قفز جرذ
كبير جدا يا رب
نتف الحلم جلدتنا
و عدنا لمنفانا مهللين: يحيا الوطن"

و للإشارة فإن الكتابة عند محمد شوشان مرتبطة بالعلاج، كلاهما مكمل للآخر، فالكتابة هي المتنفس الوحيد و الورقة هي الشيء الوحيد الذي تبثه أفراحك و أحزانك و ينصت لك بصمت و امعان دون أن يقاطعك أو يوقفك عند عتبة واحدة سواء أردتها أو لم تردها. و عموما فالكتابة هنا هي الدواء الشافي لمثل هذه الحلات النفسية التي تعرض لها الشاعر في حياته المهنية فهو (تقني في الصيدلة) مما جعله يستعمل مفردات مهنية كـ: (أدول- أسبيرين- حقنة"أتروبين"–"الأستروجين") و تعامله مع هذه الفئة التي تتألم في صمت و لا تستطيع أن تعبر عن ذاتها فاختار أن يكون رسولا لها في بث أشواقها و أوجاعها.

و أخيرا يمكن القول بأن الشاعر محمد شوشان قد أمعن في التحليق و الإبحار في سماء المعاني الرائعة في قصيدة النثر ليجس بأفكاره و كلماته قضايا مهمة وشحها حبا و غزلا و هي وسيلة تساعد على كشف خطوط القضية المحورية و القضية الأم التي تشغل الشاعر،ألا وهي قضية الوطن هموم الأمة مما يدفعنا للمشاركة الشعورية والالتحام مع أحاسيسه ليترك لنا جانبا من التخيل في الجمل والمعاني التي يحس بها ويبثها فينا كلما انتقلنا من نص إلى آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى