الجمعة ١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
من بيروتٍ إلى المهجر...
بقلم مروة كريديه

هروبٌ من الفساد المستشري، ورفض للواقع المأزوم

لم أكن أتخيل نفسي في يومٍ من الأيام أني سأعيش خارج سيدة العواصم "بيروت "... أما تحركي في لبنان وجباله وسهوله، فمن باب الترفيه ، واستنشاق الهواء العليل ليس إلا ....

أما مجرد التفكير بالعيش خارج لبنان، فكان يُُعد من سابع المستحيلات، لا لشيء بل لأني أحبّ لبنان وأهواه أكثر من إعجابي بأي بقعة أرض أخرى في الدنيا، ولا يمكن لأي عاصمة عالمية أن تحتل مكان عاصمتي بقلبي وروحي، برغم كل المأساة والمعاناة والأحزان والآلام والأحلام والتي عانتها تلك العروس الجميلة بيروت .......

ومنذ مطلع عام 2000 ، حزمت أمتعتي وكتبي، وأعلنت لزوجي رغبتي في الهجرة...!!!!
كان مجرد عرضي للفكرة يُعدُّ عملا أحمقًا، بكافَّة المعايير والمقاييس، فأنا أمتلكُ منزلا في قلب بيروت، وموظفة في مؤسسة توصف ب"الكبيرة" ، يمتلكها واحد يحتل أحد أكبر المناصب من الأثرياء "الأفاضل" من أصحاب النفوذ الضخمة والكراسي السياسية "الكبيرة"، والمراكز "المؤدلجة " المهمة المنظورة .........
وطوبى لمن وُضِع اسمه في قائمة موظفيها الأكارم....

لأنها لا تستقطب إلا "النُخب" على حدّ تعبير القيمين والقائمين عليها؛ وراتبي يُعد محترمًا بِحسب السُلَّم الوظيفي المعمول به في لبنان، وان كان لا يُعد كذلك في معظم دول العالم المتطور، وسيارتي الصغيرة كانت كفيلة بحلّ مشكلة تنقلاتي اليومية التي لا تتجاوز حركتها ما بين رأس بيروت وتلة الخياط مرورا بالمنارة والروشة وصولا لطريق الجديدة في أحسن الأحوال .

كان من الصعب عليَّ جدًّا إقناع زوجي ال" تاجر" الذي كدح طيلة سنوات عمره الفتي لفتح " محلٍ" صغير، أن يُصفّي تجارته الصغيرة ويرحل معي، وبالرغم من أنه يُعد من الأزواج المتمدنين، إلا أنه ينبغي أن أضع في حسباني أنني أحيا في مجتمع "ذكوري"...

وإن كانت دواعي الهجرة بالنسبة لمعظم اللبنانيين أثناء الحرب "دواعي أمنية"، إلا أنها أصبحت بعد الحرب ومن مطلع التسعينيات، "اقتصادية "، وأنا رغبتي بالهجرة لا تدخل في جملة الاعتبارات الأولى ولا الثانية، فلا هي نابعة من قلق أمني ولا هي رغبة مني في جني الأموال الطائلة وبناء الفلل الفخمة و ركوب السيارات الفارهة ....

قرار هجرتي كان ثقافيًّا بامتياز،ورفضا لواقع ثقافي غير مُرْضِ وبنية اجتماعيةٍ مزقتها المحسوبيات، وتغلغل فيها" الفساد"، و تعبير عن رفض لكافة المفردات الانتربولوجية القائمة على أساس التقسيم "الطائفي " للمجتمع" اللبناني " الذي أحبه وانتمي إليه.....

وكنت لا انتمي لأي من التيارات الفكرية أو المذهبية أو العرقية التي يعجّ بها الشارع اللبناني، لا لحذاقةٍ أتحلى بها بل لفطرة سوية أودعها الله في قلبي جعلتني أرى الأمور المستورة المتخفية وراء الشعارات ، وبالرغم من أن البيئة المجتمعية المحيطة بي تدفع بالفرد لأن ينضوي تحت أي حزب او منظمة تتكفل بحل أزماته الاقتصادية ويتحول معها الكائن اللبناني إلى بوق يسبح فيه بحمد "الزعيم "الجليل الموقر الذي يرضي نرجسيته برمي الفتات للضعفاء، ويبلعَ الأملاك ويبلطً البحار...ويضعها في حساباته البسيطة في البنوك السويسرية وغيرها، التي تتضمن له كتمان "ارثه "الذي جناه بالهمة الطويلة و"عرق الجبين "....

بفطرتي نفرت من المشهد المشوه للانتماءات " الحزبية " التي تتكاثر فيه كالفطر الضار، فتكثر الأحزاب في هذا البلد "العظيم " والجماعات والجمعيات لدرجة يشعر معها الإنسان "الإنسان " بالتقزز والقرف مما يجري ومما يُخَطط له هؤلاء " العظام "...

وساقتني الأقدار أواخر التسيعينيات، أن ألتقي أحد "الزعماء " الأكارم الكبار عبر دعوة وجهت لي إلى وليمة فاخرة "امتلأت طاولاتها ب"السوشي " و"السمو فوميه" و"الكافيار" ...ومن المأكولات التي لا أعرف مسماها، كوني لا أنتمي لتلك الطبقة التي تُميّزُ بين تلك الأطعمة صغيرة الحجم وباهظة الثمن .....
دُعيت لهذه "الوليمة" ليس كوني "مواطنة "صالحة كادحة"، كما أني لم أدع بصفتي إنسانة ناجحة، أولأنني أحظى بتعليم راقٍ أو شهادة مميزة ...
فتلك الإعتبارات جميعها لا تنفع أثناء تلك الدعوات الكريمة ولا مكان فيها لأمثالي وأفكاري ....

دُعيت بوصفي "رقمًا بيروتيًّا سنيًّا صافيًا"، وبوصفي أحد الناخبين المنتجبين العاملين في مؤسسة علميّة يملكها "زعيم مبجّل" وهي كسائر ممتلكاته وامبراطوريته المالية الكبيرة ، و هذا الزعيم "الموقر " يعمل على قاعدة " أطعم الفم فتستحي العين "....وهناك قاعدة أخرى "كل إنسان وله سعره"...
ويكفي موظفين المؤسسة "العظيمة"، دعوة إلى افطار يقدمون من خلاله فروض الطاعة والولاء ليضمن هو نجاحه "الكاسح "الماسح " في الانتخابات ....

سألت زميلاتي : فاذا سنفعل ؟؟؟ وما أهمية مشاركتنا في هذا الحفل الكريم ....؟؟؟؟؟
أجابتني إحداهن بهمس وانحنت علي تخبرني سرًّا " عظيمًا" : إذا لم تذهبي سيظنون أنك مُعارضَة !!!!!
أجبتها : وما شأن معارضتي بعدم تلبية الدعوة فأنا أتقاضى أجرًا لمجهود علمي وفكري أقدمه لا من أجل ولاء سياسي ....
أجابتي : اسكتي كي لا يسمعك أحد ....!

ذهبتُ كالبلهاء وكنت حديثة عهدي بالاحتكاك بتلك الصنف البشري..... ركنت شبه السيارة التي أملكها، بعد أن طُوقت المنطقة بكافة رجال الأمن، وبما أن جدتّي تسكن قبالة هذا "القصر" سمح الحرس أن اركنها في ظل تلك العقار المهترئ القديم ....

دخلنا قصر السلطان "العظيم " زرافات وجماعات،وقد ارتدينا أفخم الملابس التي أنفقنا راتبنا كله من أجل هذا اليوم المهيب ...

بعد طول انتظار واضطراب، أطلّ علينا " الزعيم" الفهيم منفوشًا منصوبًا ، يُحيِّنا " وكأنه يمنحنا بركةَ عمرنا، والشاطر المحظوظ، الذي يستطيع أن يقترب منه كي يحظى بنفحةٍ من نفحاته، ويسلم عليه، ويطلب منه شيئًا كخدمة يمنحها له من باب الصدقة وخير" الفعال".....

جلست كالبلهاء لا أرى حولي سوى كائنات "مخملية "، تتحرك بشكل "آلي " ترشف كأسًا برؤوس الشفاه، وتنفث دخان السيخار الكوبي المحترم، وأنوفا مرتفعة مشمئزة " تنطق بلغة عربية معوجة ممزوجة بفرنسية مهزوزة وقليل من الانكليزية لغة "رجال الأعمال "...

بدأت أشعرُ بغثيان وقرف، لشدة النفاق الاجتماعي ، الذي ارتفعت رائحته لدرجة لا تخفى على ذوي القلوب الطيبة البسيطة ...

بعد طول تصفيق وترحيب وزغاريد نطق "زعيمنا "الكبير منوهًا بأننا أهل البيت الخُلّص والمقربين وعِظام الرقبة "أهل بيروت "....-علمًا ان "زعيمنا الموقر" ليس ابن بيروت !!!!!

وأشار علينا بضرورة ممارسة "حقنا الانتخابي"... وذلك بالخروج صباح يوم "الانتخابات "المشهود بعد الفجر بقليل، وسمى لنا اللائحة مكتفيًا باسمه دون ان يتحمل عناء تسمية بقية مرشحي قائمته "الافاضل" فنجاحهم تحصيل حاصل .... مركّزًا على ضرورة عدم "التشطيب " وانّ نثق باختياره هو " كما هو" ....

كان شرحًا "ديموقراطيًّا" بامتياز، وبعد ذلك أفسح لنا ان نناقشه ، سكت الجميع من أصحاب كبار مناصب مؤسساته، وانبرى عامل نحيل وطلب توضيح قائلا له "انا ابن بيروت وأسكن في عرمون... " قاطعه زعيمنا "العظيم قائلا : "سنشق لك طريق " ....

شعرت عندها بأني لست انسانًا،وكأن كرامتي قد أُهدرت من خلال هذا الشرح والتصريح ......
فرفعت أصبعي أريد مداخلة...فالتفت الجميع ينظرون بشزرٍ وتعجب من هذا الصوت الانثوي .... النحيل
فقلت له "يا ..... تَوَقعّت منك أن تشرح لنا عن مشروعك السياسي والاقتصادي والانتخابي ..الذي سنمنحك صوتنا من أجله .... وأنت اكتفيت بعرض آلية اسقاط الورقة في الصندوق لا غير... "

وأردفتُ قائلةً بحماقةٍ رعناء :"بصراحة انا لن انتخبك !!!! "
ضحك هو، واسودّت وجوه من حولي ... ولم يُعقِّب.....

عند الخروج وقفتُ بعيدًا أتأمل طوابير الكائنات البشرية، وهم يُساقون بانتظام شديد وفرح "عارم"، وينحنون باحترام أمامه وكأنه كائن فضائي من كوكب آخر،جاء يُخلص لنا لبناننا العظيم من "شر" المعتدين، وحسد "الحاسدين".....

والحمدُ لله فقد فُصِلت من عملي بعدها بهدوء شديد و"ديموقراطية" بالغة ، كيف لا وأنا لم أحترم خيار "ولي النعمة " على حد تعبير القائلين المؤدلجين ....

حزمت أمتعتي بعدها بعام.... فلا مكان لعقلٍ ولا لقلبٍ ولا لانسان سويٍّ وسط طوابيرِ الجهلِ ، وملوك الطوائف ....

فإليك يا بيروت ...
من غربتي ...
أشواقًا حرّةً...
وقلبًا ينبض وجدًا ..
اعذرنِي يا حبيبتي ....
لك مني كلّ الحبّ..
فأنا مشتاقة اليك الآن الآن ...
اهديك بعضًا من مواجدي أنوح بها...
نياحة عاشقٍ آلمه الفراق ...
ولا يراك الا مشوهّةً ....
عبر شاشات تعرض "قمامة "الشارع اللبناني و"تفاهات " المتحاربين ،
من الطوائف أجمعين ....
وتسوّق ثقافة " الطاعة " لذاك "الزعيم "...
من هناك أهديك ستّ الدنيا يا بيروت ...
صوت ماجدة و فيروز ...
محبة سعيد عقل ....
ألحان وديع .....
وحكمة جبران ...
وصبر أيوب ...
و من قلبي سلام لبيروت !

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى