الأحد ١٦ حزيران (يونيو) ٢٠١٩
بقلم هاتف بشبوش

وفاء عبد الرزاق، بين شينِ وحاموت (3)...

(الحب هوالديانة الحقيقية للتعقيد المفرط... أدغار موران).

السرد التكثيفي والنثري المبهر جاء متساءلاً، فالروائية وفاء تعيش في المنفى، في الغرب، فأكيد سيكون شميم المنفى ومساحة الحرية فيه واقعاً على سردها البانورامي حين تنقل الأحداث في المحاورة المناوِرة بشكل يقيها من الإنحياز لطرف دون آخر، لنقرؤها أدناه بهذا الصدد وكيف كانت بارعة في طرح موضوعتها بشكل جريء قل ما يتصف به من روى لناهكذا أحداث:

(لست أدري إن كان القتل اغتصابا، امتحانا للظالم أم المظلوم، القاتل أم القتيل)..
هنا نستطيع أن نقرأ الثيمة المفصلية بإنزياحية الى أدب الحيوان الساخر على غرار كليلة ودمنة لإبن المقفع، فنجدها مثل جدلية البقاء للآقوى بين الأسد و الغزالة وعملية إقتناص الفريسة، الأسد يركض خلف الغزالة التي هي الأخرى تركض مرتجفة، الأسد يقول ياربي اعطني السرعة كي ألحق بالغزالة فأنا جائعُ للغاية، والغزالة تقول ياربي أعطني المزيد من الحظ كي أتخلّص من الأسد فأنا أريد العيش ولازلت غضة غريرة. فهنا مع من سيكون الخالق في الإستجابة للدعاء. انها جدلية شائكة تعطي للروائية وفاء الحق في أن تتساءل بدون حدود لأن المفتاح ضاع، وضاعت مفاتيح الأفواه، فأصبحت متخمة بالصمت وهذا سر البلاء الاكبر، فالجميع لايستطيع المس بالذات المقدسة.

عدمية أخرى تتناولها الكاتبة (كيف يجوع الماء وكيف يعطش) أي أننا نقول كيف يستطيع النهر أن يشرب ماءه وهذا ماحصل لنهري الفرات ودجلة اللذان مسهما القحط بعد ان كانا مثالا للطوفان أيام زمان سحيق مضى حسب ماتنقله لنا كتب التأريخ في أساطيرها أو حقائقها.
وفي حوارية رائعة بين العزيز الشبح وصديقه محمد حول العشاق بشتى أنواعهم عشاق الجسد أو الفكر فنجد رغم كل مايعصف ببني الإنسان نراه يرتكن الى العبودية والإستعانة بالأولياء وخرافاتهم تاركا حلبة العلم ودواءها المشافي. فذات يوم لي صديق من الحمزة الشرقي كان مصاباً بمرضٍ خطير فأعطاه الطبيب دواءا يتوجب الإستمرار عليه، فبدلا من أن يأخذ بوصايا الطبيب ذهب ووقف أمام الضريح وقال: هذا دوائي أرميه في شباكك وأريد شفائي منك ولاغيرك فأنت المشافي، بعدها بيومين لا اكثر خرّ صريعا ميتاً. وهنا يستوقفني الفيلسوف برتراند راسل حول موت الإنسان من أجل فكرة ما تحت التعذيب أو بغيره لأن التعذيب أيضا خاطئا وناجما عن أفعال جرمية من الإنسان نفسه، ولذلك من الخطأ الموت من أجل هذه الفكرة لأنها ذات يوم ستتغير بفعل الجدل وكل فكرة جديدة تلغي فكرة قديمة وهكذا دواليك.
تنتقل الكاميرا السينمائية الى فعل شنيع آخر يرتكبه الأصوليون بحق إمرأة برجمها من قبل ابن عمها لأنها أختارت غيره فينتشلها من حضن أبيها وأمها ويضربها بحجارة فيفج رأسها حتى الموت وأمام الناس بحكم العرف السائد ومايقوله الدين. وكل هذا يحدث ومحمد يسأل صديقه عزيز الشبح عن سبب عدم تدخله في إنقاذ هذه الشابة البريئة ولماذا هذا التمادي في سفك الدم. وهذه الجريمة مثلت في فيلم إيراني واقعي جميل تحت اسم (ثريا soraya) الذي كتبه لنا في العام 1986 الصحفي الفرنسي الإيراني الأصل (فردجون ساهيب جام)، وتحكي معاناة (ثريا منوتشهري) السيدة الإيرانية في قرية “كوباي التي يرجمها طليقها وشيخ المدينة بعد ان دفنوا نصف جسدها في حفرة وبدأ الناس برميها بالحجارة حتى الموت المدمّي ليس لشيء سوى أنها أرادت المعونة المالية لطفلها الذي كان مشاركا في رجمها لإخباره كذباً من أن أمه زانية. وهنا تصف لنا الروائية وفاء كيف أن عزيز قابض الأرواح قد حزن حزنه العظيم على تلك الشابة التي إعترض على قتلها محمد لأنها لم تفعل شيئا سوى أنها أرادت الزواج بمن تحب، هذا يعني ان وفاء تريد ارسال رسالة من انّ المجرمين التقاة في الأرض هم أكثر جرما من عزيز زاهق الأرواح الذي يقف معترفاً لصديقه محمد ويقول: شعوري هذا جعلني أسبح عكس التيار، وحتما سيجرفني إلى مالا أريده وأخالف وعدي. فيبقى دم الأبرياء مسفوكا بين عزيزالقاضي التنفيذي للقتل وبين جليل الذي يريد أن تظل يداه نظيفتين من الدم وهذه المعادلة نجدها لدى الطغاة، يصدرون أوامرهم بالقتل لكن تنفيذ الشنق والإعدام على يد الجلاد. معادلة في أقصى غايات السذاجة والبشاعة معا.

تستمر الرواية مع الإنقضاضات الكثيرة على أرواح البشر، أم ترمي ولديها في النهر وترمي نفسها مع طفلها الرضيع، رجل يستدرج بنات عمه الى اصدقائه فيتم إغتصابهن أمام مرآى عينيه حتى يتم قتلهن، وهذا ليس غريبا فقبل سنتين من كتابة هذا المقال كان رجلُّ عراقي في ألمانيا وهو متدينا للغاية ومن السادة الأشراف وفي يوم ما كان صديقا لي للأسف، إغتصب أبنة زوجته يعني إبنته في الأعراف ذات الرابعة عشر فنال عقابه ولازال مسجونا حتى اليوم. في الغرب والحق يقال وفي السجون اذا مادخل سجينُّ جديدُّ فالسجناء يرحبون به مهما عظم جرمه قاتلا أو سارقا أما اذا عرفوه مغتصِباً لطفلة فالويل له ثم الويل بل لابد لهم أن يغتصبوه جميعا بمايشبه القطار لأن هذه الفعلة هي الأسوأ لديهم.

ينتقل بنا الميتاسرد الروائي حتى نجد بأنه لم يبق أحدا الاّ وطاله الموت ورغم كل ذلك يقول عزيز لصاحبه محمد نحن ننتظر النفخة الكبرى التي تحصد الجميع، أنه الهول بعينيه.
(المكان فارغ تماما، الصوت يأتي والهمس، صمت مطبق، فجأة محمد يسمع نداءا رهيبا زلزل المكان كله، كان النداء على شكل سؤال لعزيز: من بقي يا عزيز؟؟؟؟؟ فيقول عزيز):

(لا احد سيدي، سوى عبدك المطيع، وأخيك مكي، وجابر، وأشرف.أجابه الصوت الصادر من بعيد: آمرك أن تقضي على جابر. كيف بمقدوره القيام بمهمة صعبة كهذه. تردّد عزيز كثيرا، فجابر كان من أقرب الناس إليه، ومن أصدقهم في التعامل مع من أصطفاهم جليل ندماءاً له).
في النهاية يمرض محمد بداء السرطان، وهذا يعني وصل الأمر لصديق عزيز، لكي تكتمل دائرة القتل التي لاينجو منها أي أحد مهما كانت مكانته لدى عزيز فهو المأمور المطيع المنفذ الذي لايستطيع قول كلمة (لا) لسيده جليل، وحتى عزيز لابد ان يأتي دوره ويساق الى دائرة العدم ويبقى الهلامي الخارق الذي لاشكل له غير قابل للفناء حسب إدعاء كل من مات وقبضت أرواحهم بأبشع ومختلف الطرق من قبل جليل.

وأخيرا يتساءل محمد في نزعه الأخير هل هناك عذاب قبر، فهنا يدخل محمد في دائرة الشك واليقين، في قلب الشك ثمة دائما امل مهما كان هشا، في نزعه الأخير ينظر الى حاموت عبارة عن مدخنة ضبابية كل شيء فيها لايُرى بشكله الصحيح، ويبقى السحرة والغير مرئييون يجولون في المدينة وأربعة منهم في بيت محمد، وهنا إستوقفني العدد لماذا أربعة!!. وهذا المشهد الدرامي أراه في رائعة الفلم الإيطالي (كيوما) تمثيل الشهير (فرانكو نيرو)، الذي يظهر بدور المخلّص للقرية التي أفسد بها الفاسدون لكنه هنا المخلّص الحر، فينتقم من أبناء عمومته المجرمين في القرية التي يعيش بها، فتفرغ القرية ولم يبق سوى الساحرة العجوز والدخان الضبابي بينما هو يهم الرحيل بعيدا عنها فتقول له لاترحل ياكيوما فالموت ملاقيك، فيجيبها بكلام بليغ يشفي غليل المظلوم مع سمفونية حزينة رائعة لم تشهد السينما العالمية مثلها حتى اليوم، موسيقى تسري في البدن المطعون فتشفيه. فيقول صارخاً للساحرة (أنا لا أموت لأنني رجل حر، والرجل الحر لايموت أبداً) وينتهي الفيلم راكباً حصانه صوب الأفق اللامتناهي.

تختتم وفاء ملحمتها الروائية بسطرٍ لكنه هائلُ في مغزاه، فتعلن من خلالهِ مقصدها ومربط سردها المركزي من انّ محمد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول وفي القلب غصة (لقد أصبحتَ عبدا يامحمد للقوي.. أصبحتَ عبدا..أصبحتَ عبدا)، فكانت العبودية للأوثان الضعيفة التي لاتهش ولاتنش واليوم العبودية للقوى الكبرى في الأرض والسماء معا ومايفعلونه في الأرض من خراب كما فعلوها في عادٍ وثمود. إنها ميثولوجيا الدم المراق منذ نشأة الأديان. وتنتهي الرواية.

بالمختصر أستطيع القول من أن هناك رسائل عديدة وجهتها وفاء من خلال الروي التقطيعي والمفصلي الذي إختلف عن الروي الإنسيابي لأغلب الروايات فهي رواية أقرب الى الحوار الفلسفي المتين والمتشكك والتكثيفي للغاية، ومنها هل الأديان مصدر شقاء للإنسان أم مصدر انتعاش وطمأنة، هل الاديان لها تأريخ غير مشرف في قتل البشرية. العلم التجريبي ملأ الأرض بالأنوار والاكتشافات خلال قرنين بينما الأديان مضى عليها آلاف القرون لم تقدم شيء غير النظريات والقتل. كما أن العقل الفقهي جعل العقل العربي عاجزا عن انتاج الإبستمولوجي. وانّ الوجوه فقط هي التي تتغير مثل التجميل، بينما النذالات والثأر باقية على مر الأزمان (وانّ فكرة وجود جنة في السماء، صنعت جحيماً على الأرض... ريتشارد دوكنز).

كما أنني أرى وفاء في سردها الرائع و المشاكس إبتعدت عن الغوص في مديات المرأة بإعتبارها موضوع غزل مرتبط بالوجود والوطن لأن هذا سيخرجها عن القوالب الأساسية لهذه الرواية التي إشتركت بها المرأة المغرر بها والقادمة من بلدان أوربا وأصبحت شيطانة تقتل الآخرين بعد ان كانت خليعة وراقصة. ولذلك أثبتت الدراسات من انّ المرأة المحجبة هي أكثر ميلاً للعنف من المرأة الخليعة المكتفية جنسياً وتحرراً. كما أنّ وفاء تريد القول من أن اغلب الرجال (كذابون، متقلبون، زائفون، جبناء، بؤساء أو شهوانيون، بعض النساء فضوليات وغدارات، متصنعات، محتالات، فضوليات ومنحرفات، لكن ثمة في العالم شيء مقدس هو الإتحاد بين اثنين من هذه الكائنات الناقصة والمرّوعة جدا... الفريد دو موسيه). والرسالة الأخرى لوفاء من انه هناك عدة آالهة، ليس الهُّ واحد في هذه الآرض الكونية، كما في الفيلم الهندي الرائع (PK) تمثيل الشاب (عمر خان) عن شخص من كوكب آخر يهبط من مركبة فضائية وتاه في المدن الأرضية فيرى عجائب الخلق وماهية أديانهم المختلفة والبؤس الذي يحل بهم نتيجة عديد الآلهة التي لم يألفها في عالمه الكوكبي الجميل. ومن المفارقات الرائعة للفلم كسخرية من عالم الأرض يروي لأهله حين يعود اليهم فيقول أنهم لايحبون الحيوانات لكونها رقيقة، بل يحبون أكلها وتكسير عظامها، فيحبون أكل السمك نهارا وفي الليل يحبون أكل الدجاج.

كلمة أخيرة بحق الشاعرة والروائية وفاء:

وفاء عبدالرزاق كشاعرة وساردة وحكاّءة لاتستطيع أن تعيش بسلام، فهي دائما في حرب مع نفسها أو مع القصيدة والسبك الروائي و خروجها عن المألوف والمس بالذوات الغير مرئية ومديات تأثيرها على الآخرين، لأن البعض يعتبر الشعر والسرد وجداني في الوقت الذي أصبح فيه الإبداع الوجداني مستقلا بذاته لأن سيرالأحداث المرّوعة اليوم ومانشهده من عنف يغلق مديات الوجدانية في البوح، لأن الوجدان صامت بينما نحن نحتاج الى إبداع ذو فم بل أكثر من فمٍ صارخ. وللأسف اليوم أغلب المبدعين الكبار والرموز العراقية والعربية التقدمية نجده حين يصل الى المقدس يتوقف ولايعطي جوابا بسبب حجاب القداسة. ولذلك بقينا محكومين من قبل القبور وموتاها الأولياء، أو أصبحت حياتنا كما صمت القبور لذلك قال الشاعر العراقي أحمد مطر قولته الرائعة:

أيها الراقدون تحت التراب
نحن في بلداننا العربية مثلكم
لكننا طابقُّ ثانٍ

وفاء إمرأة حالمة، ففي الحلم يتجدد كل شيء مثلما تروي لنا رواية الشهير (هرمان هسة) عن شخص يعشق نجمة فيظل ينظر اليها لكنها بعيدة عنه بمسافاتٍ ضوئيةٍ هائلة، بحيث أصبح لايعرف ليله من نهاره حتى جف تحت الشمس وتبخر جسمه وبهذه الطريقة إستطاع أن يصل اليها. وفاء إمرأة وروائية تريد فصل التأريخ المتغيّرعن الدين الثابت، وأماالحب بالنسبة لها فهو الراية الأولى والأخيرة وهو((الديانة الحقيقية للتعقيد المفرط...أدغار موران).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى