السبت ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم حسين أبو سعود

وفاء عبد الرزاق تكتب لطفل الحرب مذكراته

إن الكثير من الأعمال الادبية تحوي مفاهيم مختلفة تبدو متراصة بأحكام دون أن يتعمد الكاتب ذلك فالأعمال التلقائية تفوق في جمالها وبنائها الأعمال المفتعلة او تلك التي يخطط لها الكاتب مسبقا واضعا في ذهنه خطوطا عريضة للعمل لا يتجاوزها، وديوان مذكرات طفل الحرب هو احد هذه الأعمال التلقائية التي لا تكلف فيها ولا تصنع وهي تزدحم بمنعطفات الدهشة، والاسترسال في قراءة النصوص تجعل القارئ على طريق حصاتها مزيج من معرفة واكتشاف ومعاناة والم.

الهواء، الهواء /من قال أن الهواء متعة اليتيم ؟/هذا الطموح المكابر/لمخلوق مثلي/يحمل الدخأن ويشد ازري/بالقرب من شجرة صافنة/الأصفاد لها أشكال آخرى / لربما واجهات منازل/تحلم باقدار تعيدها إلى هيئتها السابقة.

وأنا حينما اقرأ لم اتعود أن انظر إلى صاحب النص رجلا هو أم امرأة ولا أميل كثيراإلى التصنيف الرجالي والنسائي في الشعر وإنما أنظر إلى النص مباشرة، وأتحسس ما يثيره من المكامن الخفية وقد وجدت أن نصوص وفاء عبد الرزاق تتقن الدخول المباشر إلى النفس وقادرة على إيجاد التأثيرات المطلوبة فيها.

الطفولة نهر عذب لا يتوقف عند الصخور أو الانحناءات، والطفولة أحيانا من فرط طيبتها وبساطتها لا تفرق بين الحزن والفرح، اذن من يؤرخ للطفولة، من يكتب مذكراتها لاسيما مذكرات ذلك الطفل الذي يلهث بحثا عن ملجأ يحمي فيه جسده الصغير من شظايا القنابل وسطوة الصواريخ، ثم من يفكر بالطفل في اهوال الحرب ؟ فالحرب لها جلال ولها آثار ولها طقوس ومن اهم طقوسها الانشغال بالنفس ليس من باب الانانية بل انها طبيعة وغريزة.

لقد تصدت الشاعرة وفاء عبد ارزاق لهذا العمل وكتبت نيابة عن الطفل مذكراته في الحرب، وكأني بها تجلس على الارض مع الطفل الخارج من الحرب تمسح عن جبينه آثار اليتم واتربة البيوت المهدمة والفزع الساكن في عينيه تجهز له طعاما من حنأن ودفء وتستنطقه لتكتب له مذكراته، ومن هنا ننجر إلى الجانب الانساني لدى هذه الشاعرة الانسانة ولنعلم كم تحمل في قلبها من نكرأن للذات ومحبة للاخرين لا سيما للاطفال كشريحة تحتاجإ لى الحنأن ولمن لا يعرف وفاء عبد الرزاق أقول أن فيها من الطفولة صفاءها ونقاءها وعفويتها وبساطتها، ثم هي على ارض الواقع سفيرة لثقافة الطفل اليتيم، وعلاقتها بالطفولة بدأت ولم تنته.

هي في هذه المجموعة تعود طفلة تتذكر جدتها وامها وقصصهما لتعيد حكايتها للاطفال، والطفل لا ينسى ولن ينسى اهوال الحرب ومشاكل الاسرة وصور الحرمأن وهو في احسن حالاته وإن عاش في المدن المرفهة يخاف النوم وحيدا.

لاني اخاف النوم وحيدا /تذكرت قصص جدتي /التي علمتني أن انسج قلبي اجنحة/ نفسي سكنى، وصدري نافذة/واخبرتني أن الضوء ليس له مزلاج.
أن الحرب عندما يخلف جراحا واعاقات فانها عند وفاء تخلف شعرا يمتد إلى مسافات زمنية اكثر من اثر الجراح وترسم هنا صورة تكاد تكون ناطقة، صورة كأنها تمثل على مسرح منير

لا ياسمين في شرايين النهر /لا نهر في جيوب اولاد الحارة / خرجت اغيض براعم تلعب الغميضة /انه اللعب، انه اللعب يا اطفال /شقاوة ملطخة بدشاديشكم.

فهي عندما تقول :(اجلس بأدب يا ولد وأمشي مرفوع الرأس) تختزل كل ما تريده الام من الولد مقابل تضحياتها، تريده أن يكون شيئا، رقما مضاعفا وليس مجرد هامش تتخطاه الاحداث، تريده حياة وتفكير وتطلع وحب اكتشاف ولا تريده أن يكبر وتكبر معه القسوة فيفجر ويدمر دون أن يوخزه ضمير، يفعل كل ذلك مرة باسم الطائفية ومرة باسم القومية والحزبية ووو.

تلك الرصاصة التي /ستصبح اسرتي القادمة /حقا لست بحاجة / الا لمزاج الدوي.
هي تخاف من هذه النهاية، تريد أن توقف المسير نحو هكذا نهاية لانها مقلقة، فهذا الكائن الصغير سيتحول غدا إلى كائن كبير يؤثر ويتأثر ويغير العالم نحو الافضل او نحو الاسوأ.

سيقرأون في كتب التراب / عن اطفال وعن اغلفة الرصاص/ابتنوا لهم بيوتا

والشاعرة في قصيدة (امرأة واحدة لا تكفي ) تختلق صورا مدهشة وتغرقها في اللامعقول فتنبثق منها لوحات يقطر منها اللون والطعم والرائحة، وتصور هاجس الرجل عندما يبحث عن المرأة وهاجس المرأة عندما تبحث عن رجل ولا غنى لاحدهما عن الاخر.

من دون قلم يشاكس اوراقي /او استئذأن حائط مغفل /تحت شجرة لا فصول لها / جلست على فؤاد التراب /اكتب باصابعي عن مدرسة تعرت للهواء /وانتقي من النجوم امراة واحدة / تتسع لمناخ استهزائي ببطاقة رعناء.

واذا التقى الرجل والمراة تبدأ بينهما المد والجزر وكانهما نقيضأن فتظل علاقتهما متوترة

احاول أن ارسم فيه / اوزة تهرب من ذكر يلاحقها / او حمامة يجلس الشباك بحضنها /احاول أن اثقب الريح / لا رسم لمدرستي بابا.

انه اللجام الذي يعيق الفرس الجموح من الانطلاق، يعيق الانسأن الطموح، فعالم هذا الطفل الذي يكتب المذكرات مغلق يحتاج إلى باب وذكرياته بلا اذرع:

ايكفي أن اقول / باقة الورد تغري الالوأن /ام الرغيف يعري الدنيا من ملابسها.
فالشاعرة هنا تضع مؤشرا دقيقا على سبب بلاءات الدنيا وهو الرغيف والطعام.

ولعل من مهام الشاعر الرئيسية اجترار الذكريات وتصويرها بطريقة تستجلب الدموع حتى تتحول تلك الجماليات الطفولية إلى عذابات لاسعة، اذ أن كل ما في حياتنا ورق حتى القارب الذي نسير فيه ورق.

قاربي الورقي يجدف بالموت /غيمات بلعن ارياقهن/ قاربي الورقي لم يرفع رأسه عاليا /لأن الطير بلا اجنحة / والنخيل اعقاب سجائر.

وهل مصير اعقاب السجائر الا الرمي، وتجار الحروب قد اقتلعوا النخيل من مدينة النخيل دون أن يعرفوا لها قدرا، ولقد قاموا باقتلاع النخيل امام اعين الشعراء دون رحمة.

والشاعرة تبلغ قمة حزنها عندما تقول بنبرة اشبه بالنشيج:

يا ناقلات البارود/خذن صوتي لمن لا ابن يأتيه ليلا

وهي ام وتعرف ما معنى أن يتأخر الابن في العودة وما معنى أن لا يعود أصلا وتمارس الجدلية الموضوعية في الكثير من مقاطع الديوأن عكس الانسأن الذي ينتقل من الموضوعية إلى الحالة الجدلية العبثية المضرة والجدل طبع والمشاكسة جزء من الجدل:

لماذا نصر على أن تكون / للبيوت سقوف/ وللطرقات جسور /لماذا نعشق؟/ نضاعف صفير الحراس / ونقفز من النوافذ للمشاكسة.

والروح التي تسكنها لا تقبل بالضيق والزنزانات الانفرادية، تنشد الانعتاق حتى أن الفضاء لا تكفيها وبساتينها اطرقت برؤوسها واشجارها نسيت الكلام ويا لبقايا الحرب :
ضيق ولئيم هذا الذي يدعى الفضاء/الفضل للبساتين /المطرقة الرؤوس / وللاشجار التي نسيت الكلام /بعيدا براءتي كطفل بلا اذرع.

وقد وجدت أن عبارة (بلا اذرع ) و(اوجه المستحيل) تتكرر عندها وهي كناية واضحة عن الاحباط في عدم تطويع العالم فتحتاج والديها لتلقي الحكمة منهما وهي ضالتها
فرصة ضئيلة أن ارى بخزانة أبي بعض الكلمات /ثلاثة كتب مندسة بين ملابسه/فرصة ضئيلة أن احصل على شئ من ابي/ بين ورق له شكل تراب

فهي اذن تعيش أحيانا حالة الفزع الاكبر: لماذا الرجال هواء/ والتناسل نار / ما معنى الاصغاء لطنين؟

اذن اين الاشياء الجميلة امام هذا الاغراق في القتامة:(الموت وحده اليقظ) وهوالمصير المحتوم الذي ينتظر الجميع (موت) والذي هونهاية الجمال واليفاعة:-

سلمى جذع/مريم زمان/كلتاهما جثتان/ عالقتأن في المكان

واذا كأن الموت هوالنهاية وهوالمصير وهوالقدر فلماذا نخافه، لماذا لا نجمله ببعض الالوان، نخفف وطأته وها هي تخصص قصيدة كاملة لهذا الهدف عنوانه (تجميل الموت) وهوعمل مستحيل لأن الموت فظيع، فهي من اجل ذلك تقوم بوشوشة الصور للذين يلتفون بحبال الموت ويبتهجون في صدر المعنى وفي مصابيح الشارع.

ويحدث أن يقال أن القصيدة الحديثة هي مؤامرة على قصيدة القريض ولكني عندما اقرأ مثل هذا النص اتراجع تماما، لأن مثل هذه الدهشة لا نجدها في القصيدة العمودية:
مصابيح الشارع / تجاعيد تقتفي خطى الاعمدة/ارتب حجرة الساعة/ اعلق عليها جسدي الطافح بي/اين الشرايين؟/قلبي لم يتكتك/لأن غبار المصابيح حائط وبيت.

وفاء عبد الرزاق لا تنسى الحصار وهووجه آخر من وجوه الحرب واحد آثارها، والحصار أمر مفزع والاكثر فزعا أن يكون ثياب الانسأن فوق جسم الحقيقة وينفتح ليعد عظام صدره:

ثيابي فوق جسم الحقيقة / ازار بلا اقمشة / اتفتح أعد عظام صدري.

وفي قصيدة زجاج السر، والزجاج يفضح السر الا اذا اعلن عنه سلفا بانه قاتم وكثيف ومظلل والا فأن الزجاج بلا صفة يعني الشفافية التامة، فيها دق على باب الرغبات باثارة قريبة جدا من الحقيقة.

ليست للدود ضحية غيري/ ايها النهر، الك رغبة انتهاكي ؟/ النخاس يرفع يده /ليصفع المدينة
ولكنها في احدى صورها لم تكن موفقة حسب قناعاتي اذ ليس كل المومسات غير مهذبات ولا كل العفيفات مهذبات فالعملية نسبية وما طرحته ليس مستحيلا:

نصف آخر/بتهذيب شئ يتلاشى/من يهذب مومسا/ عالقة في وسخ مقاهي الحارة

على أن استخدام مفردة النخاس عمل ذكي لما في الكلمة من ايحاءات ودلالات اذ ماذا يفعل النخاس سوى الاتجار بمن لا حول لها ولا قوة والاناث صنف اذا انتهكت انتهكت المدينة بل وانتهك العالم.

الوطن، لم تبتعد عنه الشاعرة عن اذ أن كل غنائها وبكائها للوطن ولكن عندما يبلغ الاحباط بالشاعر مبلغه ويتمادى الوطن في غيه بلفظه ابناءه خارج الحدود ينفجر هكذا في وجه الوطن ويصرخ:
قبيح وجهك ياوطن

وكما قال آخر:لم نموت ليحيا الوطن، لنحيا نحن ويموت الوطن
والشاعرة تدعي بانها اخت للوطن جاءت بهما امها من رحم واحد والاخوة تبقى رغم العقوق
انجبت توأمين
سمراء الحق / امي / انا والوطن.

ولأن الموت آخر الاشياء فانها جعلت (صلاة الموت) اخر القصائد في المجموعة فالموت نهاية النهايات حيث يفنى كل شئ والموت نفسه يبقى يمارس هواياته يوميا:

لا يمكن أن يموت ورد/ لقد اخطأ القبر / لا تحمله وزر توريتك
انه مجرد تمني والا فأن مليون وردة تموت كل يوم ومليون وجنة استعارت حمرتها من الورود تودع ظلمات الارض يوميا :

اخرجوا

قاعة الدنيا تحطمت

رقبتي عن جسدي انفصلت

هذه آخر كلمات الديوأن وهي اختزال لقيامة الفرد الانفرادية.

فهل هذه هي كل مذكرات طفل الحرب ؟ كلا فلكل حرب مذكرات والحروب كالمطر لا تنتهي ويظل الطفل يعاني وتظل لغة وفاء عبد الرزاق بسيطة تقطر تعقيدا اومعقدة تقطر بساطة، لا ادري ايهما أختار غير أن رصيدها هوبحر من الكلمات وقدرة على مزج الالوان، وأن خيط الطفولة يوحد نصوصها، وديوانها هذا هوسفر دافئ مع نهر عذب اسمه الطفولة، والشاعرة استفادت من تجاربها السابقة في اخراج هذا العمل الذي نال جائزة الميتروبوليت نقولاوس نعمأن للفضائل الانسانية.

والطفل الذي لا يحتمل صفعة وينكسر لحرمانه من لعبة صغيرة توجه إلى صدره الطلقات وتحرق عليه داره ويواجه أحيانا بالسلاح النووي، انها سخرية القدر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى