السبت ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٢٠

وقفات مع الشعر الفلسطيني الحديث

كميل أبو حنيش

الحلقة السابعة:*

السائل والتساؤلات في ديوان (الرساؤلات) للشاعر الفلسطيني أسامة ملحم

من يتأمل النصوص الشعرية في ديوان (رساؤلات) للشاعر الفلسطيني أسامة ملحم (وصلني الديوان مع كتب أخرى من خلال مشروع صديقي المحامي الحيفاوي حسن عبادي "لكلّ أسير كتاب"، ومن خلاله وصلتنا عشرات الدواوين الشعريّة والروايات لأدباء لم نقرأ لهم من قبل خلال فترة الأسر) سيجدها معجونة بلغة الغضب والثورة وفي ذات الوقت تفوح منها رائحة الانتماء الوطني والانحياز للقضايا الإنسانية برمتها.

عنوان الديوان (الرساؤلات) ينطوي على مجموعة من الأسئلة الهامة التي تستحيل إلى رسائل يبثها الشاعر وينثرها في أرض القصائد لتنمو كالسنابل ويقطفها كل من يهمه الأمر، وفي هذه النصوص حيث الرسائل والتساؤلات سنجد أن القضايا الاجتماعيّة، السياسيّة، الوطنيّة والثقافيّة، وحتى الفلسفيّة حاضرة وبقوّة ولا يتردّد الشاعر بالمجاهرة وبلغة واضحة، دون تأتأة، بإعلان موقفه المبدئي دون اختباء خلف ستار كثيف من الرموز والاستعارات، وإذا أردنا اختصار الشاعر أسامة ملحم بكلمات : فهو الشاعر المؤمن بعمق بالقضايا التي يحملها، يحوّل نصوصه إلى قنابل ورصاصات يطلقها ولا يحفل بالنتيجة، وإيصال الرسائل لكل من يهمّه أمرها.

سنحاول بهذه الوقفة تفكيك بعض النصوص وتسليط الضوء على المضامين التي تحملها الأسئلة والرسائل بين دفّتي هذا الديوان.

أولا: التساؤلات

يلتمس الشاعر من طرح التساؤلات في نصوصه إلى الإعلاء من شأن القضايا التي تتضمنها، هذه التساؤلات هي في الواقع إجابات ورسائل في ذات الوقت إذ يسعى الشاعر لاستفزاز القارئ من خلالها ويثيره، وربما يوصله إلى حافة الغضب، وأيضا التأمل؛ هي أسئلة محفزة ومحرضة لإعادة النظر في بعض المسلمات والدعوة الصريحة لمغادرة الحالة السلبية التي يحياها الإنسان لا سيّما إذا كان عربياً ويتساءل الشاعر عن جدوى الانتظار والتلكؤ والسلبية والانحناء والاستسلام في غالبية نصوصه، كما في هذه النصوص التي اخترناها اختصاراً لعشرات التساؤلات المهمة الواردة في الديوان وهي نصوص تنطوي على الاحتجاج والغضب كما في النص التالي:

"كل هذه الشموع الخادمة

ولا عود ثقاب؟ "(ص٥)

في هذا النص دعوة صريحة لمغادرة الحالة السلبية، فالواقع واعد بالأمل والتفاؤل وإن قدر العالم أن يتغير، والمطلوب هو إيقاد شموع الأمل وإشعال جذوة النيران في أشواك اللامبالاة الجافة، فالنص…..الثورة وعدم الاستدامة ولكن عن الجبن والتخاذل والاتكالية والانكسار الذاتي فما هي هذه الشموع الخادمة سوى شموع الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام والأمل والمساواة بين البشر…. وهي كلها لا يشعل جذوتها سوى نار الثورة، ونجد الشاعر يحثّ على التشبث بالحلم لأنه بدون الحلم لن يكون بوسعنا مواصلة الطريق الشائكة، كما يقول في قصيدته "ملح":

"إذا فسد الحلم،
فبماذا سنجتاز المرحلة
ليلنا الثقيل هذا؟
كيف سنعبر بحرها بمركب مثقوب،
ومجدافي راحتي والأخرى شراع،
وبماذا أُديرُ الدفّة؟" (ص١٢)

والأحلام الكبرى تحتاج إلى تضحيات وقادة من طراز نزيه ومسؤول يحملون شعوبهم على الإيمان بالحلم ويسعون دائماً إلى إحيائه حباً وإلى إيقاظه إذا رقد ولا يمكن للأحلام الكبرى أن تتحقّق على أيدي القيادات الفاسدة التي تشبه المركب المثقوب وسط البحر الذي لن يلبث أن يتسرب إليه الماء ويغرق بكل ما يحمله.

تساؤلات الشاعر كما أسلفنا تحمل رسائل من وجوه مختلفة، كما أن هذه التساؤلات تنطبق بلغة الاجتماعية والإنسانية كما في النص التالي:

"كل هذه الغلال في الحقول
ولا لقمة تسد جوع جائع؟
وهذه الزهور ولا ذرة ربيع؟
كل هذه المراعي
ولا قطرة حليب أو خيط صوف للشتاء القادم؟" (ص5)

ويلخص هذا النص الموقف المبدئي ممّا يحدث في العالم حيث يسود الظلم والاستغلال وتراكم الثروات في أيدي قلّة قليلة فيما…..والجوع والبؤس من نصيب الغالبيّة العظمى من البشر!

يحتجّ الشاعر أسامة ملحم على بؤس الثقافة العربية التي تفتقد قامات وإبداعات "تسقط زنداً" على صعيد الثقافة والأدب والعلم والفنون، كما ويحتجّ على جسامة التضحيات في سبيل الوطن حيث جرى ويجري دفع فاتورة كبيرة في سبيل الحرية والتحرير من دون أن يتحقّق الانتصار المأمول فنجد الشاعر يقول في قصيدته "الرساؤلات" التي يحمل الديوان اسمها:

"رماد من هذا؟
رماد ماذا هو ذا؟
أين أكفنا التي قبضت
على جمر حبك يا وطن" (ص٣١)

ويسعى الشاعر في هذا النص إلى التعبير عن صدق الانتماء للوطن وحبه والاستعداد الدائم للتضحية في سبيل حريته، غير أنه في ذات الوقت يعاتب الوطن والتاريخ على هذا الكم من التضحيات التي تدفعها أجيالاً منذ أكثر من قرن دون أن تظفر بمرادها، ويحاول الشاعر أن يتأمل قضية التضحية في سياقها الإنساني والتاريخي حيث تزهق أرواح أعداد كبيرة من البشر في ميادين الحرب والمعارك ولا يذكرهم التاريخ فيما الأمجاد إلى القادة الذين لا يبذلون التضحيات ولا يدفعون أي ثمن ويختار الشاعر الحصان كرمز لهذه الحالة كما جاء في قصيدته "رسالة إلى حصان":

"ألستَ يا صديقي الحصانُ
من شقَّ الغبارَ
وتكبّدَ وزرَ الاقتحام
ألستَ من امتطاهُ الفاتحون
و انتصروا
وأنت...
ماذا أنت؟.
تقاسموا الأوسمة
وتساهموا كل الغنائم!
وأنت...
ماذا أنت؟" (ص٦6)

فالحصان رمز لتلك الأعداد الكبيرة من الجنود في الميادين الذين يقاتلون ببسالة ويجري توزيع الانتصارات والهزائم من فوق جثثهم وبطولاتهم، ولا يجري تكريمهم بما يليق بهذه التضحيات بينما تذهب الأمجاد والأوسمة للقادة الكبار وبهذا التساؤل يسعى الشاعر إلى تحريض المقاتل وحثّه على التأمّل ودفعه لاتخاذ موقف يؤدي إلى الإحجام عن خوض المعارك العبثيّة.

أما سؤال الحرية فهو من أكثر الأسئلة التي تؤرق الشاعر وكما في النصّين التاليين يربط الشاعر بين الحريّة كشعار وبينها كمضمون، بين الحريّة كمعطى طبيعي وبينها كحق مشروط ومقيد كما جاء في قصيدته "إستخارة":

"ماذا يستفيد العصفور لو ربح الأفق كله
وخسر الأجنحة؟" (ص ١٢٢)

ماذا لو عاش المرء في بلد يمنحه الحرية الكاملة فيما لايزال هذا الإنسان مكبلاً من الداخل وعاجزاً عن الاستفادة من آفاق الحريّة؟ كما أن هذا النص يلخص الحريات الليبرالية السائدة في الغرب التي تمنح الفرد الحرية الكاملة ولكنها تربطها بالإمكانيات المادية والموقع من الثروة والمؤهلات فهي مشروطة بالإمكانيات، ثم يقلب الشاعر المعادلة بالقول:

"بل ماذا يفيده لو ربح الأجنحة
وخسر الأفق؟" (ص١٢٢)

ماذا لو أن الإنسان يحظى بالإمكانيات المادية والقيمية والمعنوية والثقافية وإدراكه لمعنى الحريّة بينما يحيا في ظل نظام قامع؟ فالحرية قضية لا تتجزّأ !! إمّا أن يكون البشر جميعاً أحرار ويتمتعون بذات الحقوق والقدرات والإمكانيات التي تهيؤهم للتمتع بالحرية وإلا فإن الحرية تغدو مجرد شعار خال من أي مضمون وهذه الحرية فقط ملك أولئك الذين يكون بوسعهم أن يمتلكوا شروطها. في ذات الوقت فإن النص يحتج على واقع الكثير من البشر الذين يحملون العبودية في أكمامهم.

ثانياً: الرسائل

أما الرسائل التي يبثّها الشاعر في نصوصه فهي عبارة عن قناعات متأصّلة في وجدانه وليست آراء عارضة وهذه القناعات التي تشبث بها ويحاول التأثير من خلالها على القارئ وإقناعه بما يؤمن به، وقد اختار الشاعر البساطة في بث رسائله فكانت نصوصه أكثر إحساساً وعاطفة ولم يسع إلى تحميلها أكثر مما تستطيع من رموز واستعارات، كما في النص التالي الذي يبث من خلاله رسالة تتعلق بالوطن، كما جاء في قصيدته "وطني":

"وطني!
أيها العشبة البرية
على حرف الخريف
من قبل الأوان
يا خرقة ملقاة منسيّة
يا هامش الأشياء قاطبة
لو لقيتك –أنا- يوماً
على جوعي
لالتهمتك ولو كنت من حجر" (ص9)

يعبّر الشاعر عن حبّه لوطنه وانتمائه الذي يتزعزع لكل ما يرتبط بهذا الوطن رغم المأساة التي تحلّ به ورغم الاحتلال الجاثم فوق ثرى الوطن، الأمر الذي جعله مهمشاً وجريحاً، إلا أن ذلك لا يمنعه من التفاخر بهذا الوطن والاعتزاز به. أمّا الرسائل الأخرى التي يسطرها الشاعر في نصوصه فهي غاضبة وثائرة كما في قصيدة "المتململ":
"متبرمًا يصرخُ:

لا جدوى، أنا لا أشفق على سيزيف!
ذلك البليد..
لو قضم كلَّ عامٍ قضمةً، من صخرته لكان اليوم إذن في الأعلى..
لو كنت أنا سيزيف
لأكلت صخرتي" (ص٢٤)

يعلن الشاعر عن احتجاجه على استكانة الشعوب ورضوخها وقبولها الذل والهوان، فهو يشبّه معاناة البشر في مختلف المحطات التاريخية بسيزيف الذي يحمل صخرته على كاهله ويرتقي بها جبلاً وعراً وما أن يشارف على الوصول إلى القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى قاع الجبل، يعود سيزيف ويحمل صخرته من جديد لتتكرّر هذه العملية إلى ما لا نهاية والشاعر يدعو إلى الثورة والغضب وينتقد صبر الناس على المعاناة من دون أدنى احتجاج، فهم يشبهون سيزيف الذي تحوّل إلى عبدٍ لمعاناته وأدمن هذا الفعل الذليل ولو أنه يحتج ويغضب ويثور لكرامته لتغيّر قدره ولا ينتهي من معاناته وشقائه،
ويواصل الشاعر الغزل على ذات النول في التحريض على الثورة والمقاومة لأن الثورة والمقاومة في بعض الحالات ليست خياراً فحسب ، بل ضرورة لا بد ّمنها كما في قصيدته "الرقصة الأخيرة":

"أيتها العصافير التي بُترت أجنحتُها
انقري بمنقارك زجاجَ المرحلة
أيتها العصافير التي جُدِعت مناقيرُها
بمخالبك الصغيرة احفري الجليد
أيتها العصافير التي بُترت مخالبها
بعينيك الوجلة دعي الغضب يقطر مكان الدموع
أيتها العصافير التي سُمِلت عيونُها
انتفضي ولو قليلاً
قبل أن تفرغ الدماء من وَدَجَيكِ
تلك رقصتك الأخيرة!!" (ص٢٨)

يعبّر الشاعر عن غضبه واحتجاجه على حالة اللامبالاة والتخاذل السائدة في أوساط الناس، مشبّهاً إياهم بالعصافير وهذا التشبيه له أسباب ومبررات لديه؛ لا يرى بالعصافير سوى طيور ضعيفة وقابلة للوقوع في المصائد وجاهزة للذبح، ومع ذلك فهو يحثّها على المقاومة وإذا لم يكن بوسعها أن تتحوّل إلى صقور جارحة بالإمكان أن تدافع عن نفسها وأنّ لديها من الإمكانيات العديدة لهذه المقاومة وكما لهذه العصافير من أجنحة ومناقير ومخالب، فإن البشر أيضاً يخرجون عدداً هائلاً من العناصر والأسلحة والطاقات ولا يعدمون الرسائل عن الدفاع والمواجهة، والرسالة التي يودّ الشاعر إيصالها أن المقاومة ليست خياراً وإنما قدراً للشعوب التي يتعرض وجودها للخطر، أمّا خيار الاستسلام فهو خيار الموت ويعيد الشاعر التأكيد على ضرورة الثورة والتشبّث بالمقاومة كما في النص التالي:

"سماء من رصاص هش
نراوغها بصمتنا
ستتداعى، إذا رفعنا الصوت
علينا
تتشقق، إذا رفعنا النظر..
لماذا نحن مُطرقون؟ (ص ٣١)

إذاً لماذا الصمت والتخاذل طالما بالإمكان تغيير الواقع للأفضل إن رفعنا أصواتنا وغادرنا حالة اللامبالاة والسلبية؟ ويصرّ الشاعر على المقاومة وتبنّيها كمنهج ولأنه بدونها لا يمكن للحياة أن تتواصل كما في قصيدته "إنطلاق":

"بما يكفي من الحياة
نُطلق الجذور في ضيق المكان
في صدع صخرة
وببضع حبات طلٍ
وضوءٍ زهيدٍ متاح
وببعض هواءٍ
نحيا" (ص٧٩)

ومن يتأمل هذا النص جيداً سيجد أنه ينطبق على الشعب الفلسطيني الذي يقاوم بصبر وتحدّي وفي أصعب الظروف تلك الغزوة الاستعمارية الصهيونية منذ أكثر من قر، وهذا النص يشكّل امتداداً لشعر المقاومة في فلسطين ونجد ما يشبهه لدى أبو سلمى، ابراهيم طوقان، معين بسيسو، محمود درويش، راشد حسين، سميح القاسم وتوفيق زياد وآخرون.

إن ديوان "الرساؤلات" للشاعر أسامة ملحم يتضمن المزيد من الأسئلة والرسائل، أشعاره منحازة للإنسان وقضاياه العادلة، وهي أيضاً رسائل وتساؤلات ثوريّة تحثّ على الثورة والمقاومة والكف عن الاستكانة والخنوع.

لقد أردنا من خلال هذه الإطلالة تسليط الضوء على بعض نصوص هذا الديوان وبعض الزوايا التي قد تحتاج إلى دراسة نقدية وننتظر المزيد من الإصدارات لهذا الشاعر التي تحمل نصوصه الكثير من الإبداع.

الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش (سجن رامون الصحراوي)

كميل أبو حنيش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى